انطلقت الشراكة الثقافية بين السعودية وفرنسا منذ عام 2002، مسجلة أكثر من عقدين من التعاون المثمر في مجالات التنقيب الأثري والمسوحات الميدانية. هذا التعاون أسفر عن إنجازات بارزة تجسد الجهود والبعثات المشتركة بين البلدين.

وعام 2018 تكللت هذه العلاقة باتفاق يهدف إلى تطوير العلا كوجهة ثقافية عالمية، مع التزام حماية تراثها الثقافي والتاريخي الثري.

 جسور إبداعية 

من رحم اتفاق التعاون الثقافي بين السعودية وفرنسا ولدت “فيلا الحجر”، أول مؤسسة سعودية – فرنسية تعنى بتعزيز الفنون والإبداع بين البلدين. تهدف هذه المؤسسة إلى دمج الإرثين السعودي والفرنسي عبر برامج ثقافية متنوعة تجمع بين الإبداع والتعليم والبحث.

تركز “فيلا الحجر” على برامج الإقامة للفنانين والباحثين، وتنظيم الفعاليات التي تعزز التواصل بين مجتمع العلا والجمهور العالمي.

 وخلال هذا العام قدمت المؤسسة سلسلة من البرامج التمهيدية، شملت خلوات للفنانين وورش عمل إبداعية وعروضاً سينمائية وموسيقية، إلى جانب دورات تدريبية وبرامج أكاديمية وبحثية.

وكان أبرز فعاليات الموسم عملاً فنياً مشتركاً بين فنان فرنسي وفنانة سعودية، وعرض باليه من الأوبرا الوطنية في باريس، وهي محطات بارزة تمهد الطريق للموسم الثقافي المقبل 2025، الذي سيشهد الافتتاح الرسمي للمؤسسة.

ويبقى السؤال الذي يطرحه المتابعون مع كل فعالية جديدة “كيف ستواصل ‘فيلا الحجر’ دمج الإرثين السعودي والفرنسي عبر مشاريعها المستقبلية؟”. 

الفن يوحد السعودية وفرنسا في العلا 

شهدت فعاليات هذا العام في العلا تقديم عملين فنيين في الـ12 والـ13 من ديسمبر (كانون الأول) الجاري، أبرزها عمل مشترك للفنانة السعودية الأميركية سارة إبراهيم والفنان الفرنسي أوغو شيافي بعنوان “النفس: لحظات طواها النسيان”.

العمل تميز باستخدام قنينات زجاجية مصنوعة يدوياً على شكل أحجار، استلهم تصميمها من جيولوجيا العلا، إذ دعي المشاركون المحليون إلى التفاعل مع هذه المنشأة الفنية من خلال التنفس وإصدار الأصوات. هذا التفاعل أنتج نغمات رنانة ترددت أصداؤها في الطبيعة المحيطة، مما أضفى طابعاً فريداً يمزج بين الروحانية والتراث المحلي والتعبير الفني المعاصر. كذلك استكشف العمل موضوعات خاصة بمنطقة العلا، مثل العلاقة بين الجسد والطبيعة وسط جبال “وادي النعام”.

“دار طنطورة” استضافت أيضاً معرضاً فنياً موازياً عرضت فيه منحوتات زجاجية مصنوعة يدوياً، مكملة للعرض الفني الأساس. وحول تسمية العمل بـ”النفس”، أوضح الفنان الفرنسي أوغو شيافي لـ”اندبندنت عربية” قائلاً “صممنا هذه القنينات بطريقة تصدر صوت الصفير عندما ينفخ المشاركون فيها، مما يجعل أنفاسهم جزءاً من التجربة الفنية”.

من جانبها، عبرت الرئيسة التنفيذية لـ”فيلا الحجر” فريال فوديل عن سعادتها بالتعاون بين الفنانين، مشيرة إلى أن الهدف الأساس هو تعزيز الشراكة الثقافية بين السعودية وفرنسا.  وقالت “كان من الجميل أن نرى فناناً فرنسياً وفنانة سعودية يعملان معاً لإنتاج عمل فني مشترك، فهذا يعكس رؤيتنا لمزج الإرثين الفنيين وتعزيز التعاون بين المبدعين من البلدين”.

“مسارات” في أخاديد العلا

في حدث فريد من نوعه قدم باليه الناشئين للأوبرا الوطنية في باريس عرضاً مذهلاً في أخاديد محافظة العلا، بمشاركة 18 راقصاً تراوح أعمارهم ما بين 18 و22 سنة. العرض، الذي حمل عنوان “مسارات” أبدعه الفنان نويه سولييه، مدير المركز الوطني للرقص المعاصر في مدينة أونجي الفرنسية، في تناغم كامل مع البيئة الطبيعية المميزة للعلا.

 

أقيم العرض على رمال منتجع “أور هابيتاس” الصحراوي، واستمر لمدة 45 دقيقة، إذ صُمم العمل ليكون انسجاماً بين الجسد والمناظر الطبيعية، معتمداً على صوت الرياح والطيور وحركة الرمال، من دون أي استخدام للموسيقى. كما استوحيت أزياء الراقصين من الألوان الطبيعية للعلا، مما أضفى على العرض طابعاً بصرياً متناغماً مع المحيط.

وفي حديث مع “اندبندنت عربية”، قال سولييه “بصراحة، أول ما أدهشني عندما وصلت إلى العلا هو حجم وجمال المناظر الطبيعية وقوتها. من هنا جاءت الفكرة بأن يكون العرض محاكاة صافية للطبيعة، عبر الجسد والصوت فقط”.

هذا العرض، الذي يمثل دمجاً فنياً بين الثقافتين الفرنسية والسعودية، يعكس روح العلا كوجهة عالمية تحتضن الفن والطبيعة في آن واحد.

 دمج التراث السعودي والخبرة الفرنسية

نشأت فكرة مشروع “فيلا الحجر” استناداً إلى المبادئ الواردة في الاتفاق التأسيسي الحكومي الدولي، الذي وقع بين السعودية وفرنسا في أبريل (نيسان) 2018. يعد المشروع ثمرة تعاون وثيق بين الهيئة الملكية لمحافظة العلا والوكالة الفرنسية لتطوير المحافظة، بهدف تعزيز التبادل الثقافي والإبداعي بين البلدين.

تستمد “فيلا الحجر” جذورها من التراث الثقافي الغني والاستثنائي لمحافظة العلا، مما يجعل طموحاتها قائمة على استثمار الثروة الحضارية المشتركة بين السعودية وفرنسا. ويهدف المشروع إلى تحويل “فيلا الحجر” إلى وجهة تحتضن الفنانين والمبدعين من جميع أنحاء العالم.

في الرابع من ديسمبر الجاري، زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ووزير الثقافة السعودي الأمير بدر بن عبدالله محافظة العلا، مؤكدين عمق الصداقة التي تجمع البلدين والتزامهما المشترك دعم التعاون الثقافي. وتزامنت الزيارة مع الاحتفال بالذكرى الثالثة للاتفاق الثنائي المتعلق بـ”فيلا الحجر”، الذي وقع خلال زيارة ماكرون السابقة إلى جدة في ديسمبر 2021.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تعد مؤسسة “فيلا الحجر”، التي أعلن عن إطلاقها خلال الزيارة، أول مؤسسة ثقافية سعودية فرنسية على أرض المملكة. وتمثل هذه المبادرة نموذجاً فريداً للتعاون الثقافي، إذ تضم مجموعة من المشاريع الطموحة التي تستفيد من الخبرات الفرنسية في مجالات متنوعة، تشمل الأبحاث والفنون والسياحة والابتكار والتدريب والهندسة المتقدمة والتنمية المستدامة.

هذا المشروع يعكس رؤية مشتركة لتعزيز الحوار الثقافي والإبداعي بين البلدين، وتحويل العلا إلى منصة عالمية للإبداع والتعاون الثقافي.

لماذا العلا؟

بفضل استثمارات بمليارات الدولارات تقودها الدولة، وبشراكة ثقافية مع فرنسا، تسعى السعودية إلى تحويل العلا إلى وجهة عالمية تستقطب ملايين الزوار من داخل المملكة وخارجها، في إطار تحقيق أهداف “رؤية السعودية 2030”.

يأتي تطوير العلا كجزء من جهود للحفاظ على المواقع التراثية التي تعود إلى حقب ما قبل الإسلام، بهدف جذب السائحين من مختلف الثقافات وتعزيز الهوية الوطنية. وتعد مدائن صالح، المسجلة ضمن قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونيسكو)، واحدة من أبرز معالم العلا، المدينة، التي تعود لأكثر من 2000 عام، بناها الأنباط، القبائل العربية التي شيدت أيضاً مدينة البتراء في الأردن.

تتميز مدائن صالح بواجهات متعددة الطوابق منحوتة بدقة في الصخور الرملية الحمراء، تقود إلى غرف داخلية كانت تستخدم كمقابر. وفي الليل تضيف سماء الصحراء المرصعة بالنجوم سحراً خاصاً إلى الموقع، مما يعكس عظمة المكان وجماله الطبيعي الفريد.

نقلاً عن : اندبندنت عربية