توظف رمزية المرأة في الفن التشكيلي لتجسيد قيم الجمال والروح الإنسانية، إذ تتخذ مكانة مركزية في اللوحات باعتبارها رمزاً للعطاء والصبر ورافعة للهوية الثقافية، وتنعكس من خلالها ملامح الواقع المحلي والتراث الشعبي جنباً إلى جنب مع تفاصيل الحداثة، فتغدو المرأة في الأعمال التشكيلية الإماراتية علامة على التحولات المجتمعية ورسالة للتمكين والإلهام ضمن الخطاب الفني.
اللوحة التي أمامنا، بريشة الفنانة أمل لوتاه، تنتمي إلى المدرسة الواقعية لكنها تحمل عمقاً إنسانياً وثقافياً يتجاوز مجرد الشكل، فتبدو المرأة في هذه اللوحة رمزاً للهوية والجمال، تجسدها الفنانة بملامح هادئة وعينين واسعتين مملوءتين بالمحبة والتأمل، ما يعكس حضوراً روحياً يواجه الواقع المتخم بالتحديات، ولعل ما يميز هذا العمل هو الإبداع في التعامل مع الشكل واللون، حيث لا تكتفي الفنانة بتصوير الوجه بأسلوب «البورتريه»، وإنما نسجت من الألوان والهالات المحيطة به سرداً بصرياً يعبر عن الاهتمام العميق بالداخل والروح، ما يجعل اللوحة تجربة إحساسية وفكرية تدعو المتلقي للتأمل والتفاعل.
تأويل
تظهر المرأة هنا واقفة بين عالمين: (تقاليدها وروحها( و (الحداثة والانفتاح)، الحجاب الأزرق الذي يلفها يشبه الهالة التي تحيط بها وتحميها، ويربطها بثقافتها وأعماقها، الأزرق في اللوحة يرمز للحماية والسكينة، ويذكرنا أيضاً بالسماء والبحر، ليؤكد صفاء المرأة وقوتها من الداخل، أما الخلفية بالألوان النارية فتعكس التغيرات وصراعات المرأة الحالية، بين الحفاظ على هويتها ومواجهة التحول الاجتماعي، وكأنها تخــــرج من النـــيران لتبــــدأ من جديد.
تبرز المرأة في هذا العمل كذات مؤثرة وواعية، وكيان يفكر ويقاوم التحولات من حوله، لذا جاءت البنية التشكيلية في اللوحة لتعطي توازناً بصرياً مدروساً، حيث وضعت الفنانة المرأة في منتصف المعادلة كنبض ثابت وروحي، وملامحها المفتوحة على التأويل تجعلها تمثل كل امرأة وكل إنسان في لحظة تأمل، لتغدو اللوحة بمثابة رسالة عن الإنسان والأمل والأسئلة التي لا تنتهي، فتتجاوز اللوحة حدود الجمال، لتدعو المشاهد إلى التأمل وإيجاد نفسه في عيون تلك المرأة.
نلاحظ أيضا أن العيون في هذه اللوحة جعلتها الفنانة محور التعبير، فثمة نظرة متأملة ومتمردة تجعل المتلقي يستشعر عزم وإصرار المرأة على تحقيق ذاتها وطموحاتها، ومن خلال العيون تنجح الفنانة في نقل رسائل صامتة، كأن المرأة تختزن كلاماً لم يُقل بعد.
توازن
إن ما يلفت الانتباه في هذه اللوحة هو التوازن البصري بين ألوان الخلفية النارية واللون الأزرق البارد الذي يحيط بالمرأة من خلال غطاء الرأس، حيث أبدعت الفنانة في استخدام ألوان متضادة من حيث الإحساس، حيث يرمز اللون الأحمر والبرتقالي في الخلفية للعاطفة، أو الصراع والحياة المتقدة، في حين أن الأزرق الذي يلف المرأة يمنحنا إحساساً بالهدوء والصفاء، ولعل الفنانة أرادت من خلال هذا التناقض اللوني إبراز ثنائية المرأة والكون، حيث المحيط من الخارج ملتهب بتحدياته وتعقيداته، والداخل هادئ لا زال يحتفظ بروح النقاء والتأمل.
وتوظف الفنانة اللون بكثافة وبجرأة تعبيرية، أما الوجه فقد رسم بدقة ونعومة، بتدرجات لونية واقعية تظهر حسّاً عميقاً بالتوازن بين الضوء والظل.
اللوحة تتسم بالحيوية والحركة من خلال استخدام الألوان، وتخلق إحساساً يعبر عن تفاعلات داخلية وخارجية، حيث تتداخل الأشكال والخطوط، المعبرة عن المشاعر والأفكار العميقة، لترسخ الفنانة مفهوم أن الفن وسيلة للتعبير عن جوهر الروح الإنسانية وطبائعها المتنوعة، مع إبقاء مساحة للمتلقي للتفكر والتأمل حول معانيها. يمكن اعتبار اللوحة عملاً فنياً يدعو للتأمل العميق في هوية المرأة العربية المعاصرة، حيث تجمع الفنانة أمل لوتاه بين التقاليد والحداثة في تعبير تشكيلي غني بالرمزية، مما يجعل اللوحة بمثابة نص بصري مفتوح على قراءات متعددة عن الكينونة والوعي والتمكين، لتطرح تساؤلات جوهرية عن الذات والهوية والقدرة على النهوض وسط التحديات.
المصدر : صحيفة الخليج
