د. سالم مخلوف النقبي
كان الليلُ ساكناً حين لَمَحتُه على الرفِّ، كتاباً غارقاً في صمته، كأنَّ بيننا عهداً لم يكتمل، اقتربتُ ببطء، ومسحتُ عن وجهه غبارَ الأيام، فتنفّس كمن ينتظر هذه اللحظة منذ زمن بعيد. فتحتُ الصفحة الأولى، ففاحت رائحةُ اللِّجْنين من الورق كعطرٍ مُعتّق من ذاكرةٍ بعيدة، قرأتُ السطر الأوّل، فإذا بالكلماتِ تعرفني، فالكتاب لا يُقرأ فقط، بل يقرأنا نحنُ أيضاً، عندها أدركتُ أنَّ ما بيني وبين الكتاب ليس غِلافاً وورقاً، بل وعدٌ قديمٌ يتجدّد كلّما عُدتُ إليه.
وما إن رفعتُ رأسي حتى تذكّرتُ شعارَ معرض الشارقة الدوليِّ للكتاب هذا العام: «بينك وبين الكتاب»، جملةٌ تُشبه لقاءً مؤجلاً، ونداءً دافئاً يقول لكلِّ قارئٍ في هذا العالم: عُد، فبينك وبين الكتاب حكايةٌ لم تنتهِ بعد، وحديثٌ لم تكتمل فُصُولُه.
«بينك وبين الكتاب» ليست عبارة ترويجية أو عابرة، بل جملةٌ تنبضُ بالروح، فكل كتابٍ يقرؤك بقدر ما تقرؤه، وكلُّ سطرٍ تتجاوزه يترك فيك أثراً صغيراً، فالكُتبُ لا تُغيِّرُ العالم حين تُكتب أو تُطبَع بل حين تُقرأ.
لقد أدرك سلف هذه الأمة أن بين الإنسان والكتاب ميثاقاً من نور، وصلةً حميمةً ما بين السطور. وفي زماننا هذا، نجد في حبِّ الكتاب مثالاً ناصعاً في شخصية صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، الذي جعل من الكتاب نبضاً لحياته ومحراباً لعقله وروحه.
يقول سموه عن مكتبته في قصر البديع: إنّها تقع أمام غرفته مباشرة، في مكانٍ أقامه بيده ليكون أقرب إليه من كلّ شيء، حتى يفتح عينيه على الكتب قبل أن يفتحها على العالم، وهناك، بين الرفوف الممتدّة، تتجاور المخطوطات النادرة مع مؤلّفاته الكثيرة التي خَطّها بقلمه السيّال، وتفوح رائحة الورق والحبر وحديث الذاكرة في جنبات المكان.
ويذكر سموه أيضاً أنه لا يمرّ عليه يومٌ دون قراءة، وأنه يقرأ في اليوم ما لا يقل عن ثلاثمئة صفحةٍ من مختلف الكتب، فصاحب السمو حاكم الشارقة معروفٌ بحبه العميق للقراءة وجعلها جزءاً أساسياً من حياته اليومية، مهما ازدحمت أعماله ومسؤولياته، وأنَّ تلك العلاقةُ الصادقة التي تربطه بالكتاب ليست طارئةً ولا شكليةً، بل هي جوهر مشروعه الثقافي الذي أنار به الشارقة والعالم العربي، حتى غدت عاصمةً للكتاب والمعرفة بفضل رؤيته وإيمانه بأنَّ الكتاب هو بدايةُ النهضة ونبضُ الحضارة.
ما بينك وبين الكتاب ليس لحظةَ قراءةٍ عابرة، بل وعدٌ قديم يتجدّد كلما فتحتَ صفحةً جديدة، فالكتاب ليس جماداً من ورقٍ وحبر، بل كائنٌ من نبضٍ وذاكرة، يعرفك أكثر مما تظنّ، ويحبّك بصمتٍ ولا يملّ الانتظار.
[email protected]
المصدر : صحيفة الخليج
