بعد 20 عاماً من فرض النظام الطائفي في العراق والعمل بسياقات فرض المحاصصة السياسية غير الدستورية ومساعي “لبننة” العراق وتقسمه إثنياً، تعلو أصوات العراقيين خلال هذه الفترة لتحويل مسار البلاد ونقلها إلى مصاف الدولة الوطنية التي تدار وفق مبادئ المشاركة والديمقراطية التوافقية. وهذا التحول ليس مجرد رغبة سياسية بل بات ضرورة ملحة في ظل الأزمات الداخلية والضغوط الإقليمية والدولية، والخطر المتنامي الذي تشكله صراعات دول الجوار العراقي وانعكاسها عليه، وبخاصة ما شهده العراق من تداعيات للأحداث السورية، حتى إن العراقيين باتوا أكثر رغبة في تغيير النظام الطائفي بعدما عايشوا نتائجه السلبية. فهل دق الانقلاب السوري جرس الإنذار في العراق؟

قلع خيمة المحاصصة

يعد باسم هاشم الشيخ رئيس تحرير صحيفة محلية تصدر في بغداد أنه “من الصعب جداً تحقيق طموح واسع من هذا النوع من دون قلع أوتاد خيمة المحاصصة، التي تعمل بكل جهدها لإحباط أي مشروع وطني لما يسببه من ضرر لمصالحها. نعم قد يكون الحدث السوري محفزاً كبيراً لاستنهاض القوى العلمانية وحثها للبحث عن فرص لتحقيق هذا المشروع، لكن ذلك لا يتم من دون ضغط دولي كبير لتشذيب الأشواك التي تشكل عقبة في طريق إحداث التغيير الإيجابي”.
في الموازاة، يرى الباحث شاكر كتاب إمكانية للتغيير ويقول “هذا ما نتمناه، لكن المشكلة أن المحاصصة الطائفية والهيمنة والإقصاء كلها مكونات ثقافة السلطة الحالية ورجالها بكل مشاربهم، أضف إلى ذلك حب التبعية في مقابل المواقع والامتيازات، والأكثر من كل ذلك أنهم مهما ادعوا الرغبة في التغيير فإنهم لن يكونوا صادقين أبداً، إنما يتعاملون مع الأمر على أنه موجة وتمر وترجع حليمة لعادتها القديمة. فالتغيير المطلوب تغيير حقيقي عميق وجذري يقضي على علامات الخوف والخرافة والتخلف والبطالة الحضارية والعودة إلى الوراء، وبدلاً من ذلك الانطلاق إلى الأمام والبدء في بناء دولة حقيقية واحدة لا تختفي وراءها دولة عميقة تقرر مصيرها ومصيرنا كلنا، دولة حقيقية حضارية ديمقراطية إنسانية قوية بشعبها واقتصادها واستقرارها”.

الطائفية البغيضة

لكن مدير مركز حلول للدراسات الباحث مازن صاحب الشمري يذهب إلى بعد تأصيلي في تفكيك الأزمة العراقية، قائلاً إنه “منذ عام 2003 اعتمد العراق نظاماً سياسياً قائماً على المحاصصة الطائفية، إذ توزع المناصب السيادية على أسس طائفية بدلاً من الكفاءة، وأدى هذا إلى غياب الهوية الوطنية حتى هيمنت الانتماءات الطائفية والعرقية على الانتماء للوطن، وأنتج ذلك ضعفاً في الأداء الحكومي وتغليب الولاءات الحزبية والطائفية على المصالح الوطنية، رافقه تفشي الفساد نتيجة عدم وجود رقابة فعلية بسبب توافق القوى السياسية على تقاسم النفوذ”.

وعي بالخطر السوري

ويضيف الشمري “مع تفاقم الأزمة السورية وانتقال تداعياتها إلى العراق، أصبح العراقيون أكثر إدراكاً للأخطار التي قد تنجم عن استمرار الانقسام الداخلي لا سيما إمكانية تفكك الدولة، نظراً إلى تشابه السيناريو السوري مع الوضع العراقي، مما قد يؤدي إلى تقسيم البلد. ويعجل في ذلك تنامي قوة الميليشيات التي أصبحت مهدداً رئيساً لاستقرار الدولة. وأن استمرار النظام الطائفي يزيد من عجز الدولة عن مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية”.

تفاهمات جديدة

ويؤكد الشمري وجود “دعوات متزايدة في العراق لعقد تفاهمات وطنية تعيد صياغة المشهد السياسي العراقي خارج إطار الميليشيات والمحاصصة، من أبرزها التوافق الوطني لتشكيل حكومة على أسس مهنية وكفاءة بعيداً من التقسيم الطائفي، يرافقه تقليص دور الميليشيات وحصر السلاح بيد الدولة ودمج القوى المسلحة ضمن مؤسسات الدولة وفق معايير وطنية، ودعم الديمقراطية التوافقية بحيث تضمن مشاركة جميع المكونات دون هيمنة طائفية”.

التغيير التدريجي

في السياق، عدَّ وزير التعليم العالي السابق طاهر البكاء “أن الأزمة تكمن في الطائفية التي أصبحت ممارسة سياسية يمارسها الحاكم وينشرها ويعمقها بين العامة والبسطاء والجهلة لترسيخ قبضته، لكنها في النهاية تأتي عليه وتزحزح أركان حكمه وتقتلعها”. وأضاف أنه “من السهل أن يتحول العراق من خيم وهويات مذهبية وعنصرية ويحتمي بخيمة الوطن وهويته الجامعة، وأرى أن ذلك ينبغي أن يتأتى بتخلينا عن العقلية الصفرية ونعتمد التغيير بصورة تدريجية، نبني على الجيد ونزيح ما هو سيئ”.
وتابع أن “العراقيين أكثر استعداداً لهذا التغيير بعد أن اكتووا بنيران المحاصصة التي لم تجلب غير فساد أصاب مفاصل الدولة عمودياً وأفقياً، نشأت عنه طبقة طفيلية. والبركة كلها بجيل جديد ينبغي أن يعي دوره ومسؤولياته”.

إمكانية التحول للوطنية

أما الباحث مازن الألوسي المقيم في العاصمة الأردنية عمان فيرى أنه “بعد أعوام من النظام الطائفي والمحاصصة السياسية، يتساءل العراقيون عن إمكانية تحول بلدهم إلى دولة وطنية تدار وفق مبادئ المشاركة والديمقراطية التوافقية، هذا التحول ليس مجرد رغبة سياسية، بل ضرورة ملحة في ظل الأزمات الداخلية والضغوط الإقليمية والخطر المتنامي الذي تشكله صراعات الجوار، وبخاصة ما شهده العراق من تداعيات التجربة السورية. والعراقيون باتوا أكثر رغبة في تغيير النظام الطائفي بعدما عايشوا نتائجه السلبية، لكن هذا لا يمنع التأكيد أن هناك عقبات تحول دون تحقق التغير الشامل في العراق، وأن أبرز تلك العقبات تكمن في المصالح المتشابكة، فالطبقة السياسية الحالية مرتبطة بمصالح دولية وإقليمية تحول دون التغيير، في حين تدعم التدخلات الخارجية القوى الطائفية لتأمين نفوذها داخل العراق، في وقت عمقت التراكمات الطائفية خلال العقدين الماضيين الانقسامات بين مكونات الشعب العراقي، لكن العراقيين باتوا أكثر رغبة في تغيير النظام الطائفي بعدما عايشوا نتائجه السلبية، وبرز ذلك خلال حركة احتجاجات أكتوبر (تشرين الأول) 2019 التي طالبت بدولة وطنية خالية من المحاصصة. لكن في حال أظهرت الحكومة العراقية نية حقيقية للإصلاح قد تحصل على دعم دولي للخروج من الطائفية. فالعراق يقف عند مفترق طرق حاسم فإما أن يستمر في نظامه الطائفي الذي يقوده إلى مزيد من الأزمات، أو يتحول إلى دولة وطنية ديمقراطية شاملة. فالإرادة الشعبية مصحوبة بإصلاحات سياسية جريئة قد تكون المفتاح لهذا التحول، وأرى أن العراقيين اليوم أقرب من أي وقت مضى إلى إدراك أهمية العمل المشترك، بعيداً من منطق الميليشيات والانقسامات مستلهمين العبرة من أزمات دول الجوار مثل سوريا”.

التغير الحتمي

وذهب النائب السابق في البرلمان العراقي ظافر العاني إلى القول إن “العراق يشكل أحد النماذج القليلة الشاذة في المجتمع الدولي الذي يدار بعقلية طائفية، مع معدلات فساد عالية ونسب تعاطي المخدرات أعلى. وتتصارع في العراق رغبتان الأولى ميليشيوية إذ السلاح المنفلت بعيداً من يد الدولة، والاستحواذ على المقدرات الاقتصادية بلا قلق من المحاسبة في ظل الارتباط الخارجي بصناعة القرار في طهران. والإرادة الثانية هي الإرادة الشعبية الوطنية إذ الولاء للهوية العراقية والرغبة في الاندماج بالمجتمع الدولي، والدعوة إلى الالتزام بعلو الدستور والقوانين والإيمان بدولة العدالة والمواطنة. وفي المرات العديدة التي حدث فيها اصطدام بين الإرادتين كانت الجماهير مسلحة بالوعي، بينما الميليشيات مسلحة ببنادق القنص وكواتم الصوت. أما في المواجهة القادمة فسينوب المجتمع الدولي عن الجماهير العراقية ووضع شروطاً واضحة صارت واجبة الالتزام، تتعلق بإنهاء ظاهرة السلاح خارج إطار الدولة والحد من الفساد والملاحقة القضائية لمن يتصرفون بمعزل عن القانون. وجاءت هذه المطالب صريحة بتبليغ واضح من السيد محمد الحسان رئيس بعثة الأمم المتحدة إلى المرجعية في النجف وإلى رئيس الحكومة، وخلاصتها أن العراق مقبل على التغيير إن لم يكن بإرادته فبإرادة الكبار الدوليين”.

المسار الديمقراطي

ويعزو صالح الجزائري وهو سياسي عراقي مستقل أزمة النظام العراقي إلى “عدم القدرة على استشراف المستقبل في العراق بسبب عدم جود خطط ونهج واضح واستراتيجيات. وتأسيساً على ذلك أرى أنه لم يحن الأوان في العراق للتحول وتغيير المسار نحو الديمقراطية الحقيقية والاستقرار السياسي لأسباب عدة، منها تفكير الطبقة السياسية الحاكمة بنفس المعارضة والمظلومية، وفقدان القرار الموحد وتعدد الولاءات الخارجية المتقاطعة في ما بينها، مما ينعكس على وحدة القرار الداخلي إضافة إلى الغباء السياسي وعدم القدرة على مواكبة الأحداث الإقليمية والدولية المتسارعة وتحليل الواقع الجديد، ونظام المحاصصة الذي أوجد التفكير المصلحي والمغنمي وجعل الأحزاب وقياداتها منشغلة فقط في كيفية الفوز بالانتخابات وترسيخ نفوذها وتحقيق مصالحها دون الاهتمام بالقضايا المصيرية ومستقبل البلاد، ناهيك بالتبعية وعدم القدرة على اتخاذ القرار المستقل”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الأسئلة الصعبة عراقياً

من جهة أخرى، يقدم الباحث هيثم نعمان الهيتي سلسلة أسئلة في معرض إجابته عن السؤال في شأن إمكانية التغيير في العراق، فيسأل “هل يمكن أن ينسحب المالكي والعامري والخزعلي وزيدان من المشهد السياسي؟ فهم يمثلون مصالح إيران ويمثلون الجانب المسلح خارج إطار الدولة؟ هل يتمكن (رئيس الوزراء محمد شياع) السوداني من إصدار عفو عن الأبرياء وإعادة الهيبة للجيش؟ وهل يمكن حل الحشد الشعبي؟ هل يمكن تشكيل لجنة استرجاع الأموال المنهوبة وإعادتها فعلاً؟ وهل يمكن للسوداني أن يتحول لحكومة انتقالية ينفذ النقاط أعلاه ويعلن عن انتخابات برلمانية لا يسمح أن يشارك بها كل من قتل وأفسد؟ إذا توافرت الإجابات الصحيحة عن هذه الأسئلة فيمكن الحل، وإذا لا فإن الولايات المتحدة ستغير العراق بالقوة، لأنها تعرف أن العراق سيتغير من دونها، وحينها الخسارة الكبرى”.

تفاهمات جديدة

ويرى الباحث في المجال العسكري اللواء نوري غافل الدليمي أن “ما حدث في سوريا يمكن أن يسهل بروز تفاهمات بين العراقيين. وأعتقد أن التناحر المذهبي في العراق بلغ حداً كبيراً لا يمكن انتزاعه، لأنه أصبح في دم كثيرين من أصحاب القرار من كل المشارب، ولأن أصحاب الميليشيات أصبحوا على رأس إمبراطوريات مالية وعسكرية فلن يتخلوا بسهولة عن مصالحهم في السلطة، ولأن أصحاب القرار تابعون للأميركي والإيراني والتركي فلن يتفقوا أو يتفاهموا”.

الأزمة في الدستور

من جهته، يخلص الكاتب غازي رحو إلى أن التغير الحقيقي في العراق يبدأ بتعديل الدستور وهو الطريق الصائب للتحول إلى الديمقراطية الحقيقية، وإلغاء الحشود بجميع أنواعها، وجعل الجيش وقوى الأمن الداخلي الوحيدين لمهمة بسط الأمن والدفاع عن البلد، والعمل على مساواة جميع العراقيين بالحقوق والواجبات بعيداً من الطائفية والقومية والدينية، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب وتحقيق العدالة الاجتماعية بين جميع أفراد الشعب العراقي، هي الطريق لجعل البلد ديمقراطي”.
لكن عملية التحول والتغيير المنشودة في العراق تصطدم بالنفوذ الإيراني في العراقي وفرض استراتيجية عليه لتحويله لحديقة خلفية تابعة، إذ يقول الباحث عدنان أبو زيد إن “إيران تواجه تحديات خطرة بعد خسارة نفوذها في سوريا ولبنان، مما يدفعها إلى تعزيز تركيزها على العراق كمحور استراتيجي لتعويض خسائرها. كما أن تصريحات المرشد الأعلى التي تؤكد استمرار ’المقاومة‘ توضح العزم الإيراني على تعزيز وجودها في العراق، في حين أن القوى الشيعية والفصائل المتحالفة مع طهران تمر بمرحلة صدمة نتيجة المتغيرات، لكنها مرشحة للتحرك قريباً بما يدعم المحور الإيراني، سواء عبر إعادة تنظيم الصفوف أو توجيه الطاقات نحو تعزيز السيطرة في العراق وتوسيع أذرعها الإقليمية. استراتيجية طهران تبدو موجهة لتحصين مواقعها المتبقية وتعويض الخسائر”.

ومن ناحية أخرى، رأى الكاتب مهدي جاسم ضرورة في “إزاحة الفئة التي أسست لمفهوم النظام الطائفي في العراق، ورسخت للعبث السياسي والانعزال عن النظام الدولي ومارسته عبر الارتماء والتسليم لمحور إيران، مع العمل على تغيير الدستور الذي شوه كثيراً من قواعد النظام الديمقراطي، وإلغاء كثير من القوانين التي عبثت بقواعد العمل السياسي الوطني بالعراق، مما كنا نتحدث به قبل الثورة السورية التي أعطت دفعاً جديداً لهذه المطالب. أما المخاوف فهي من بنات الطبقة السياسية التي استشعرت أن رياح التغيير في سوريا ستساعد وتشجع وبخطوات سريعة على التغيير، حتى وإن لم يكن بمستوى عنوان التغيير في العراق”.

الحساب الحتمي

إلا أن الصحافي العراقي المقيم في أميركا أسعد كلجو وهو من المدافعين عن سياسة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب ورؤيته، يؤكد أن “الرئيس الأميركي الجديد المدعوم كلياً سيخرج إيران كلياً من اللعب في العراق والمنطقة، وسيتعرض المخالفون لسياسته التي أبلغ العراقيون في شأنها إلى أقصى العقوبات العسكرية والاقتصادية، بل سيحاسبون على السرقات والفساد مثلما سيحاسبون على قتل جنود أميركا في العراق”.

نقلاً عن : اندبندنت عربية