«مجمع التواريخ».. متعة قراءة الوقائع بقلم سلطان

«مجمع التواريخ».. متعة قراءة الوقائع بقلم سلطان

ليس أقدر من صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، في توثيق وكتابة التاريخ، فسموه دائماً ما يتوخى الحيادية والموضوعية، وهو يتمتع بقدرة تحليلية ونقدية عالية، كما أن كتابة سموه في هذا الموضوع بالذات إنما تعود لشغفه بالتاريخ ومعرفته الواسعة في هذا المجال، وهذا شأنه في كل ما كتب ليس انتهاء بعمله الجديد «مجمع التواريخ لشبه الجزيرة العربية وفارس / أحداث في حوليات من عام 1622م إلى 1810م».
ويشتمل الكتاب على 33 مجلداً، وهو مؤلف يجمع كل ما كتب في التاريخ حول هذا الموضوع، ويضم وثائق هولندية وبريطانية وفرنسية وعثمانية. ويواصل سموه في هذا العمل الكبير ما سبق وأنجزه تحت عنوان «البرتغاليون في بحر عُمان»، حيث يعرض سموه في مؤلفه الجديد تاريخ المنطقة كاملاً في صورة حوادث في حوليات، وباللغتين العربية والإنجليزية، ومن خلال 1473 وثيقة.
وحرص سموه في هذا العمل الكبير «مجمع التواريخ» على متابعة الكثير من الوثائق من مصادر عدة، بعد أن قام بترتيبها وتصنيفها، حيث استغرق هذا العمل من سموه قرابة أربعين عاماً، وقد قام سموه بترجمة تلك الوثائق من لغتها الأصلية إلى اللغة العربية وكانت تلك الوثائق تحتوي على الأحداث التي جرت في شبه الجزيرة العربية وفارس من مصادرها المختلفة.
*الهولنديون
نجح الهولنديون في تأسيس موطئ قدم قوية لهم في المنطقة، مع اندحار هيمنة البرتغاليين، وهو الذي أشار إليه صاحب السمو حاكم الشارقة في مقدمة المجلد الأول من «مجمع التواريخ» الذي يضم أحداث 24 عاماً من ( 1622 إلى 1645م) بدأت بسقوط هرمز عام 1622م، على يد التحالف الإنجليزي الفارسي، وهو الحدث الذي أنهى هيمنة البرتغاليين على أهم مفاتيح الملاحة في الخليج، حيث يوضح سموه أن الهولنديين قد استفادوا من هذا التحول، ليؤسسوا موطئ قدم قوية، وبرزت منذ ذلك الوقت معارك بحرية متكررة بينهم وبين البرتغاليين قرب قشم، ولارك، ومسقط، كما وضعت الخطط لفتح طرق تجارية مباشرة بين هولندا وفارس، في محاولة للسيطرة على تصدير الحرير الفارسي إلى الهند وأوروبا.
وسلط هذا المجلد الضوء على تفاصيل كثيرة، كمحاولة البرتغاليين التمسك بمواقعهم من خلال عقد تحالفات مع الفرس، وفرض الجزية على قشم، إضافة إلى تعزيز وجودهم في مسقط، إلا أن محاولاتهم تلك قد باءت بالفشل، خاصة مع توسع الهولنديين والإنجليز، وظهور قوى عربية محلية تنازعهم النفوذ، وكانت الدولة العثمانية قريبة من هذه الأحداث من خلال ما أصدرته من فرمانات سلطانية من عام 1642 إلى عام 1643، موجهة إلى ولاة بغداد والبصرة والإحساء والمدينة المنورة حرصاً منها على التوازن الإقليمي والتصدي لمحاولات التغلغل الأجنبي في مياه الخليج.

*أحداث مفصلية

يرصد صاحب السمو حاكم الشارقة، أحداث عشرين عاماً من (1694 إلى 1713) والتي تغطي جوانب متعددة من تاريخ الخليج العربي والبصرة، والتي تكشف عن طبيعة العلاقات المعقدة بين القوى الإقليمية (العثمانيون، والفرس، والعمانيون) من جهة، والقوى الأوروبية الناشطة في المنطقة (الهولنديون، والإنجليز والبرتغاليون) من جهة أخرى، حيث يوضح سموه في المجلد الخامس من «مجمع التواريخ» كيف أن العمانيين قد كانوا طرفاً رئيسياً في تلك التفاعلات، وقادوا حملات بحرية متكررة، كما واجهوا الفرس، وبرزوا كقوة إقليمية صاعدة تسعى إلى تقويض النفوذ البرتغالي بمساعدة قبائل عربية أخرى أدت دوراً في الصراع حول البصرة ما جعل هذه المدينة ساحة دائمة للصراعات السياسية والعسكرية، وكما أشير سابقاً، فقد شهدت هذه الفترة حضوراً للعثمانيين، كما سعى الفرس إلى استقطاب الهولنديين ضد العمانيين، لتحقيق توازن أمام تهديداتهم البحرية، وتشير الأحداث بحسب سموه إلى أوضاع التجار العرب، وتطور طرق الشحن، وأحوال الموانئ وغيرها من الأحداث المفصلية.
وقد شهدت الفترة ما بين (1714 و 1727) مجموعة من الأحداث، كالهجمات المتكررة على الموانئ من قبل العمانيين، والضغوط التي مارسها الفرس على الهولنديين لطلب دعمهم ضد العمانيين، كما حضر العثمانيون طرفاً في الصراع بمخاطبة ولاة البصرة وبغداد لإعادة تنظيم الأمن والقضاء على حركات العصيان في البصرة وضبط شؤون الموانئ والتجارة.
*الباب العالي
ويتواصل السرد التاريخي لصاحب السمو حاكم الشارقة في «مجمع التواريخ»، لنقف على أحداث 1764، التي تتناول آخر مهام الهولنديين في غمبرون وهي مدينة ساحلية فارسية أصبحت تعرف اليوم باسم بندرعباس، وتضمنت اتصالات مع الشيخ عبدالله المعيني حاكم هرمز، إلى جانب آخر دعوة وجهت إليه للعودة إلى غمبرون أو هرمز، ما يشير إلى تراجع دورهم في المنطقة.
وتضمنت أحداث هذه الفترة بحسب ما يرد في المجلد الرابع عشر من «مجمع التواريخ» تفاصيل دقيقة عن حركة السفن ومبيعات الصوف من كرمان، وحسابات المبيعات والمصروفات الخاصة بمكتب الشركة الإنجليزية في البصرة، مع رصد لضرائب رسوم جمركية فرضتها السلطات المحلية على نشاطات الشركة.
وثقت ذات الفترة أيضاً، مساعي الوكلاء الإنجليز للحصول على فرمان رسمي من الباب العالي لتعيين قنصل يمثل الشركة في البصرة، وذلك من شهر إبريل 1764 إلى شهر يونيو من العام نفسه.
ومن الناحية السياسية، فقد أشارت الأحداث إلى وفاة علي باشا متسلم البصرة، وتعيين متسلم جديد، وما رافق ذلك من إعادة توزيع المناصب الحكومية وأثره في تجارة الإنجليز، إلى جانب استمرار مفاوضات الوكلاء الإنجليز للحصول على امتيازات إضافية في الميناء.

*متاعب الإنجليز

كانت أحداث عام 1767م خاصة بين (إبريل وأكتوبر) كما يرد في «مجمع التواريخ»، مفصلية في تتبعها لسعي وكلاء شركة الهند الشرقية الإنجليزية في البصرة إلى التفاوض مع شيخ بني كعب، وأجروا مراسلات تتعلق بتقديم الهدايا له، على أمل أن يكف عن نهب سفنهم وحماية تجارتهم البحرية.
وفي شهر مايو من العام نفسه برزت متاعب كبيرة للوكلاء الإنجليز في البصرة؛ إذ سعى أحدهم إلى بيع منزل الشركة في البصرة بسبب تهدمه، كما سعوا إلى تصفية الكميات الكبيرة من الصوف الإنجليزي المخزن نتيجة تدهور التجارة بشكل عام، وزاد الوضع سوءاً بسبب الاضطرابات المستمرة مع شيخ بني كعب.

*أوضاع التجارة

حفل شهر أكتوبر من عام 1768، كما جاء في المجلد الـ 23 بعدة أحداث أبرزها ما ورد من المكتب الإنجليزي في البصرة ويتعلق بأوضاع التجارة، فقد قدم تجار البصرة الذين يتعاملون مع مدينة سورات الهندية، التماساً وشكوى إلى الوكيل الإنجليزي، وتمحورت حول السماح بشحن بضائعهم من سورات إلى البصرة على متن سفن إنجليزية، على أن يدفعوا الأجرة المعتادة كما في السابق، لكن الإنجليز قاموا برفع أجرة النقل إلى الضعف ما ألحق خسائر كبيرة بالتجار المحليين.
وتضم الأحداث المراسلات بين الوكيل الإنجليزي في البصري هنري مور ووكلاء الشركة الإنجليزي في أبو شهر وشيراز، وتتناول الحملة الفارسية – الإنجليزية المشتركة ضد المير مهنا في جزيرة خرج، ومحاولات القائد محمد زكي خان تجهيز قواته، وتبرز هذه الأحداث صورة معقدة للتوازنات السياسية والاقتصادية في الخليج، وتكشف عن تداخل المصالح البريطانية والفارسية في تأمين الطرق وحماية السفن، وعن الدور الذي أدته البصرة كمركز تنسيق دبلوماسي وتجاري في المنطقة.

*تفاعلات
لخصت الفترة الزمنية ما بين 1796 و 1810، مجموعة من الأحداث التي توثق تفاعلات سياسية وتجارية ودبلوماسية في الخليج العربي، خلال مرحلة شهدت تحولات كبرى في ميزان القوى بين الدولة العثمانية والقوى الأوروبية، وخاصة فرنسا وبريطانيا.
تبرز الأحداث دور البعثة الفرنسية في مسقط، وتكشف المراسلات عن دور السيد بوشامب الذي لم يقتصر على المهام التجارية فقط؛ بل شملت توطيد العلاقات بين إمام عمان والجمهورية الفرنسية، إضافة إلى تحديد امتداد البحر الأسود لأغراض استراتيجية، وهذه الأحداث تبرز الدور الفرنسي المتنامي في محاولة الوصول إلى الخليج العربي عبر الدبلوماسية، كما تبرز أحداث أخرى أن الحكومة الفرنسية عينت «بوشامب» أول قنصل لها في مسقط، تنفيذاً لرغبة إمام عمان بوجود ممثل فرنسي دائم.
في المقابل، تبرز الوثائق العثمانية مجموعة من الأوامر والأحكام الموجهة إلى ولاة بغداد والبصرة ومصر والحجاز، تركز على حماية البصرة، كما تتناول المراسلات أوضاع فارس والعراق، بما في ذلك الاضطرابات الاقتصادية والسياسية، وبدا من تسلسل الأحداث أن الدولة العثمانية كانت في حالة استنفار إداري دائم للحفاظ على سيطرتها على أطرافها العربية في وجه التهديدات الداخلية والخارجية.

المصدر : صحيفة الخليج