مسقط رأس المستكشف فاسكو دي غاما تكافح للتأقلم مع اقتصاد المستقبل

مسقط رأس المستكشف فاسكو دي غاما تكافح للتأقلم مع اقتصاد المستقبل

على مشارف ميناء سينيس البرتغالي، تقع مصفاة قديمة ومحطة طاقة مهجورتان، من بقايا مساعٍ بُذلت قبل 50 عاماً لتنويع الاقتصاد للابتعاد عن هيمنة الزراعة.

لم تثمر هذه الجهود كثيراً، لكن في شمال المدينة ستجد ما أصبح أهم ركيزة لاقتصاد البلاد: أطول شاطئ متواصل في أوروبا، حيث تجذب رماله البيضاء بطول 65 كيلومتراً عشاق الشمس وراكبي الأمواج.

في هذه الأيام، تراهن حكومة البرتغال على قدرة المدينة على منح الاقتصاد الوطني تحولاً جذرياً يواكب القرن الحادي والعشرين. ذلك لأن هذا الساحل نفسه، الذي يبعد ساعتين بالسيارة عن لشبونة نحو الجنوب، هو موقع إرساء الكابلات البحرية التي تربط أوروبا بالبرازيل وأفريقيا، وستفتتح “جوجل” قريباً خطاً إلى ولاية ساوث كارولينا.

“مايكروسوفت” تستثمر 10 مليارات دولار بمركز بيانات ذكاء اصطناعي في البرتغال

الهدف هو توفير خدمات تقنية تصل إلى جميع أنحاء أوروبا، وتقليل اعتماد البلاد على السياحة، التي تجلب ما يقرب من ربع الناتج المحلي الإجمالي.

في مارس، افتتحت شركة “ستارت كامبوس” (Start Campus) أول مبنى لمركز بيانات بقيمة 8.5 مليار يورو (9.9 مليار دولار)، الذي سيصبح في نهاية المطاف من بين أكبر مراكز البيانات في أوروبا.

وفي مايو، بدأت “سي إيه إل بي” (CALB)، وهي رابع أكبر شركة لتصنيع البطاريات في العالم، العمل في مصنع بقيمة ملياري يورو. كما تعمل شركة “بي إس إيه” (PSA) السنغافورية، التي تتعامل مع الحاويات في محطة المياه العميقة بالمدينة، على مضاعفة طاقتها الإنتاجية.

هل ينهض موطن فاسكو دي غاما بأسطول مراكز بيانات؟

تمثل المشاريع حول سينيس، مسقط رأس فاسكو دا غاما، المستكشف البرتغالي الذي عاش في القرن الخامس عشر وأرست رحلاته أسس إمبراطورية البرتغال، استثمارات تعادل حوالي 4.6% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد.

قال مانويل كاسترو ألميدا، وزير الاقتصاد البرتغالي، إن هذه المشاريع مجتمعةً قادرة على خلق أكثر من 5000 فرصة عمل. وأضاف: “تُعدّ المنطقة جوهر تحوّل الاقتصاد البرتغالي، إذ تُنشئ مركزاً لوجستياً على مستوى أوروبا والأطلسي”.

أحلام أوروبا في الليثيوم تواجه اختباراً حاسماً في البرتغال

ما تزال سينيس، وهي بلدة هادئة يبلغ عدد سكانها 15 ألف نسمة، محوراً لطموحات البرتغال، وسجلها متباين. سعت الحكومة الاستبدادية التي تولّت السلطة في سبعينيات القرن الماضي إلى تحويل سينيس إلى مركز صناعي، فبنت ميناء الشحن، وبدأت تشغيل محطة الطاقة، وخططت للمصفاة، التي كانت تهدف إلى معالجة النفط من الإمبراطورية الاستعمارية للبلاد.

لكن المصفاة لم تحظَ بأي زخم يُذكر، لأن البرتغال فقدت مستعمراتها بعد ثورة 1974 التي أنهت الدكتاتورية. وقد أثرت هذه الخسارة على الميناء بنفس القدر، وعانت محطة الطاقة مع الاقتصاد.

وأغلقت أخيراً في عام 2021 مع انخفاض أسعار الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وبينما تعمل المصفاة بشكل جيد، فهي الوحيدة في البرتغال ومُصدّر كبير للوقود، فإن الجهود المبذولة لبدء إنتاج ما يُسمى بالهيدروجين الأخضر (المُنتَج باستخدام الطاقة المتجددة) لم تنطلق بعد.

بنية تحتية لا تدعم النمو السكاني

مع وصول آلاف العمال لبناء المرافق الجديدة وتوظيفهم، يخشى السكان من قدرة المدينة على التكيف. يمكن لثلاثة مشاريع سكنية أن تضيف أكثر من 400 شقة، لكن المطور العقاري يعاني لجمع التمويل، وهذا لن يخفف الضغط على المدارس ونظام الرعاية الصحية.

قالت آنا رودريغيز، وهي مرشدة سياحية في المتحف المحلي: “الناس لا يجدون مساكن، وسمعت أن بعض العمال ينامون في سياراتهم”. وتقارن الوضع الحالي بسبعينيات القرن الماضي، عندما تولى والدها وظيفةً في الميناء الذي كان حديث التوسيع، فازداد عدد السكان توقعاً لازدهار اقتصادي لكن الفوائد لم تتحقق، وغادر كثير من هؤلاء الوافدين الجدد بحثاً عن أعمال في أماكن أخرى.

“إنفيديا” و”والينبرغ” تطلقان مشروعاً للذكاء الاصطناعي في السويد

قالت رودريغيز الخمسينية: “لقد رحل المال معهم. لا أعرف إن كان الأمر سيختلف هذه المرة”.

تدرس الحكومة تطوير الطرق السريعة والسكك الحديدية، ما سيقلل أوقات التسليم إلى إسبانيا بأكثر من ثلاث ساعات، ويساعد سينيس على منافسة ميناءي فالنسيا والجزيرة الخضراء على البحر الأبيض المتوسط، المطلَّين على مضيق جبل طارق.

لكن في الوقت الحالي، لم يُنجز سوى جزء من مشروع طريق سريع يهدف إلى ربط سينيس بإسبانيا بشكل مباشر، وذلك بعد سنوات من التأخير. لا يوجد خط سكة حديد للركاب، وقطارات الشحن إلى المدينة بطيئة.

مع تحسين خطوط النقل، يمكن لسينيس أن تتحول من نقل الحاويات بين السفن إلى نقطة إنزال للبضائع داخل البلاد، وهو عمل أكثر ربحية، كما يقول بيدرو دو أو راموس، رئيس هيئة ميناء سينيس. أضاف: “قيل لي لسنوات إن حركة المرور لا تكفي لتبرير إنشاء طريق سريع. لكن اليوم، أصبحت حركة المرور أكثر من اللازم”.

لتعزيز فرص نجاح الجهود الحالية لتطوير سينيس، تعمل الحكومة على تحسين الصفقات. إن شركة “سي إيه إل بي”، التي تملك الحكومة الصينية حصةً فيها، مؤهلة إلى ما يصل إلى 350 مليون يورو من التمويل العام للمصنع، وهو الأول لها في أوروبا.

بحلول عام 2028، من المتوقع أن تُنتج المنشأة بطاريات لأكثر من 200 ألف سيارة كهربائية، وسيوفر هذا 1800 فرصة عمل في المنطقة.

حصل مركز بيانات “ستارت كامبس” (Start Campus) على 1.2 غيغاواط من الكهرباء، أي ما يعادل استهلاك مدينة لشبونة تقريباً، لتشغيل خوادمه. تُستمد الطاقة بالكامل من مصادر متجددة قائمة، ويستخدم الموقع نظام تبريد من محطة الطاقة المغلقة بعدما أُعيد تجهيزه، وهو يستجر ماء البحر من الأرصفة الممتدة في الخليج.

مع الإعلان في أكتوبر عن صفقة تشمل شركتي “إنفيديا” و”مايكروسوفت”، سيُؤجّر المبنى الأول بالكامل قريباً. تتوقع “ستارت كامبس” مباشرة تشييد مبنى ثانٍ بحلول نهاية العام، وتهدف إلى إنشاء ستة مبانٍ في الموقع بحلول عام 2030.

“OpenAI” تكشف تفاصيل مشروع “ستارغيت الإمارات” للذكاء الاصطناعي

ومع ذلك، ما يزال السكان المحليون حذرين. قالت كارلا كوستا، التي تعمل في مخبز “غراو دورو” قرب موقع مصنع لتعليب الأسماك أُغلق في التسعينيات، إنها تُقدّر طموحات القيادة السياسية الحالية، لكنها تخشى أن تتدفق المزايا في الغالب إلى جهات خارجية.

أضافت كوستا، التي بلغت 52 عاماً من عمرها: “تُخبرنا الحكومات المتعاقبة أنها تستثمر في سينيس، لكنها في الواقع تستثمر في شركات أجنبية. مبانينا متداعية، وأحجار أرصفتنا مكسرة، ولا يوجد سوى مركز صحي واحد، وما زلنا نتحدث عن فاسكو دي غاما بعد قرون. هذه الصناعات الجديدة هي المستقبل، لكن هذا المكان عالق في الزمن”.

المصدر : الشرق بلومبرج