حتى بعد سنوات من الاختراقات التقنية، ما تزال صناعة النفط الصخري تترك معظم الذهب الأسود في باطن الأرض التي تحفرها. في أحسن الأحوال، تستخرج شركات الحفر الأميركية ما بين 10% و15% مما قد يكون متاحاً؛ بينما تترك البقية على عمق آلاف الأمتار تحت السطح. هكذا كان الحال حتى الآن.
إن المرحلة التالية من الثورة -التي يُمكن تسميتها الصخر الزيتي النسخة 4.0- هي سباق تسلح هندسي لتحسين ما يُسمى بعامل الاستخراج. إن زيادة هذه النسبة ولو بنقطة مئوية واحدة تُمثل جائزة تُقدر بمليارات الدولارات على مدى عمر آلاف الآبار في تكساس ونيو مكسيكو وداكوتا الشمالية وكولورادو.
قال مايك ويرث، الرئيس التنفيذي لشركة ”شيفرون“، في مقابلة معي في نيويورك: “أفضل مكان للعثور على النفط هو المكان الذي تعلم بوجود النفط فيه مسبقاً. نحن نعرف مكان وجود النفط. إذا تركنا 90% من النفط وراءنا، فستكون هذه هي المرة الأولى في التاريخ التي لا نكتشف كيف ينبغي أن نفعل ذلك”.
توقعات بانخفاض تكاليف إنتاج النفط الصخري 10%
إذا نجح المهندسون، فسيتحوّل الصخر الزيتي مما يمكن تشبيهه بعدّاء سريع إلى عداء ماراثوني. لن يكون التأثير تدفقاً جديداً آخر، بل تدفقاً مستمراً للبراميل لفترة أطول بكثير في المستقبل مما توقعه القطاع. وكلما وفرته الولايات المتحدة، قلّت قدرة المصادر الأخرى -وعلى رأسها تحالف “أوبك+”- على ضخه دون تقويض الأسعار.
الصخر الزيتي لديه المزيد ليقدمه للإنتاج الأميركي. لقد عززت طفرة الصخر الزيتي إنتاج النفط الأميركي إلى أعلى مستوى له على الإطلاق، لكن كميات كبيرة من النفط الخام ما تزال غير مُستخرجة.
ما علاقة حلوى التيراميسو بالنفط؟
قضى مُستكشفو النفط الصخري الأميركيون معظم التسعينيات وأوائل الألفية الثانية في تجربة طرق لاستغلال مصدر جديد للبترول: تكوينات الصخر الزيتي.
بالنسبة للعين غير المُدربة، تُشبه جيولوجيا الصخر الزيتي حلوى التيراميسو، حيث تتخلل طبقات رقيقة من الصخور المُنتجة التي يصعب تكسيرها طبقات غير مُنتجة. بحلول منتصف العقد الأول من هذا القرن، وجد المهندسون طريقةً لاستغلال هذه الثروات، عبر حفر آبار عمودية على عمق عدة أميال في منطقة التيراميسو، ثم إدارة المثقاب بزاوية 90 درجة للمضي قدماً نحو منحى أفقي، وهو يصل الآن إلى عمق 6700 متر.
تصل هذه الآبار التي تتخذ شكل حرف (L) إلى عمق الطبقة الإنتاجية. ثم تأتي عملية التكسير الهيدروليكي، وفيه يُضخ الماء والرمل والمواد الكيميائية في أعماق الأرض لتحرير النفط من الصخر الزيتي التي يصعب تكسيرها.
“إتش أس بي سي” يتوقع الوصول لذروة إنتاج النفط الصخري الأميركي في 2028
ما تلا ذلك كان تدفقاً هائلاً، ما دفع إنتاج النفط الأميركي إلى مستوى قياسي، فقد وصل إجمالي السوائل النفطية إلى متوسط 20.3 مليون برميل يومياً في عام 2024، بزيادة تقارب 200% عن 6.8 مليون برميل يومياً في عام 2006. لكن، ربما يكون مدهشاً أن معظم النفط الخام ظل تحت الأرض، إذ لم يكن ممكناً بلوغ جزيئات الهيدروكربون.
لكن مهندسي البترول الأميركيين، الذين يُعدّون إحدى أكثر القوى التحويلية التي شهدها الاقتصاد والسياسة الأميركيان على الإطلاق، لم ينتهوا بعد.
تقنيات استخراج معقدة ومكلفة
بعد تكسير الصخور، يدعم الرمل المحقون تحت الأرض الشقوق، ومن هنا جاء اسمه كعامل دعم. يُعدّ إبقاء هذه الشقوق مفتوحة بالغ الأهمية، لكن دفع العامل الداعم حتى آخر الشقوق أمرٌ صعبٌ نظراً لثقله مقارنةً بالماء المُستخدم لحمله. أما المشكلة الأخرى فهي الاحتكاك الطبيعي الذي يمنع الهيدروكربونات من الوصول إلى البئر. يكمن الحل في استخدام ما يُسمى بالمواد المؤثرة بالأسطح التي تُقلل التوتر بين الجزيئات. تعمل شركة ”إكسون موبيل“ كثيراً على المواد الداعمة؛ بينما تُركز شركة ”شيفرون“ على المواد المؤثرة على الأسطح. يُحاول كلٌّ من العاملين في صناعة النفط الصخري اتباع نهجه الخاص.
تُساعد المواد الداعمة خفيفة الوزن، لكن حتى وقت قريب، كانت تكلفتها العالية، التي تُقارب مليون دولار للبئر الواحد، تفوق ربح النفط الإضافي. تقيم ”إكسون“ تجارباً على تركيبة جديدة، تقول إنها أقل تكلفة، باستخدام جزيئات كوك البترول، وهو منتج ثانوي من مصافيها.
منتجو النفط الصخري يلجأون للذكاء الاصطناعي لزيادة الإنتاج
تزعم الشركة أن معدل استخلاص النفط من الآبار يمكن أن يتحسن بنسبة تصل إلى 20%؛ إلا أن قطاع النفط ما يزال متشككاً حيال ذلك. تستخدم ”إكسون“ مادة الدعم الحاصلة على براءة اختراعها حديثاً في ربع آبارها في حوض برميان، وتخطط لتوسيع نطاقها إلى حوالي 50% بحلول نهاية العام المقبل. وتعمل شركات أخرى على تجارب على تركيباتها الخاصة خفيفة الوزن، على أمل محاكاة النتائج.
في الوقت نفسه، تُجرب شركة ”شيفرون“ نوعاً من الصابون. وتملك الشركة نشاطاً تجارياً كبيراً في صناعة البتروكيماويات مثل زيوت التشحيم. لذلك، فهي تُوظّف كفاءاتها الهندسية الداخلية لإيجاد مواد خافضة للتوتر السطحي رخيصة الثمن، تقلل الاحتكاك داخل مكامن النفط.
كما هو الحال مع المواد الداعمة، كانت التكلفة هي المشكلة في الماضي. لكن ”شيفرون“ تعتقد أنها تُطوّر تركيبات فعّالة ورخيصة.
أخبرني ويرث أن “تحسين معدلات الاستخلاص هو الخطوة التالية… سنستمر في رؤية تحسينات في كفاءة الحفر وكفاءة الإنجاز. لكن الجائزة الكبرى هنا الآن هي الحصول على المزيد من النفط والغاز يمكن استجراره.“ واستشهد ويرث بحقول النفط في وادي سان جواكين في كاليفورنيا حيث تزيد معدلات الاسترداد عن 60% بعد مضي أكثر من 100 عام على بدء الضخ منها.
تطورات صناعة النفط الصخري وعواملها
لقد مرّت صناعة النفط الصخري بالفعل بعدة فصول. في البداية، كان النفط الصخري 1.0 قوة غير فعالة البتة تتطلب أسعار نفط مرتفعة باستمرار لتبرير النفقات. أجبر انهيار أسعار النفط في فترة 2015-2016 بفعل الإنتاج الذي قاده النفط السعودي هذه الصناعة على أن تصبح قوة أكثر كفاءة وأقل تكلفة وأسرع، أي النفط الصخري بنسخته الثانية. مع ذلك، فقد اعتمدت على ارتفاع الأسعار وسخاء وول ستريت، لكنها تمكنت من زيادة الإنتاج بسرعة كبيرة.
ببساطة، عندما يئس المستثمرون من جني الأرباح، ظهرت ثورة النفط الصخري النسخة 3.0، وركزت على المساهمين ولسان حالها يقول ولّت أيام الحفر الجنونية، وحلّت محلها أرباح سخية، بل وحتى عمليات إعادة شراء للأسهم. ومع ذلك، تركت كل هذه المحاولات كميات هائلة من النفط دون استجرار، ومن هنا جاء الزخم لثورة النفط الصخري 4.0.
ستحتاج الصناعة إلى جهد وخيال ووقت وجهد كبيرين لتحقيق هذه الغاية. وانا لا أراهن على نجاحها. لكن كما قال كايس فانت هوف، الرئيس التنفيذي لشركة ”دايموندباك إنرجي“ (Diamondback Energy)، أكبر شركة للنفط الصخري، في رسالة حديثة إلى مساهميها: “لا تستهينوا أبداً بالمهندس الأميركي”.
المصدر : الشرق بلومبرج
