القراءة.. نصوص البدايات المفتوحة | صحيفة الخليج

القراءة.. نصوص البدايات المفتوحة | صحيفة الخليج

القاهرة: «الخليج»

كتب رولان بارت ذات مرة: «لست متأكداً ما إذا كان من الضروري إقامة نظرية في القراءة، لست أدري ما إذا لم تكن القراءة أصلاً سوى حقل متعدد من الممارسات المتنوعة المشتتة ذات المفاعيل التي لا يمكن اختزالها».

ويقول عبد السلام بنعبد العالي في كتابه «القراءة رافعة رأسها»: كان ينبغي إعلان موت المؤلف كي يولد القارئ، إذ كان من المستحيل أن ترى في القراءة فعلاً بحق، من غير أن تتهاوى السلطة، التي كانت تدعي الهيمنة عليها، لزم من أجل ذلك أولاً إعادة النظر في مسألة دلالة النص، والطرف الذي يتمكن منها، منذ بدايات القرن الماضي كان «بول فاليري» قد قام ضد السعي وراء اعتبار موقع العمل المدرك الوحيد للمعنى.

كتب: «ليس هناك معنى حقيقي للنص، ولا سلطة للمؤلف عليه، فمهما كان ما يريد قوله، فإنه قد كتب ما كتب، فما إن ينشر النص حتى يغدو مثل جهاز يمكن لكل منا أن يستعمله حسب هواه، ووفق الوسائل التي يتوفر عليها، وليس من المؤكد أن واضع الجهاز قد يستعمله أحسن مما سيستعمله غيره.

هكذا يستمر العمل الأدبي في الوجود من حيث إنه قادر على أن يظهر على غير ما وضعه مؤلفه، حينئذ ستصبح القراءة هي الفضاء الوحيد الذي تتحقق فيه الدلالات المتعددة، كتب بارت: «النص وليد كتابات متعددة تنحدر من عدة ثقافات فتدخل في حوار، وتقلد بعضها وتدخل معه في جدال، لكن هناك موقعاً يتجمع عنده هذا التعدد هذا الموقع ليس هو المؤلف، كما قيل حتى الآن وإنما هو القارئ».

القارئ هو الذي يفعل في النص، وهذا القارئ متعدد، للنص قراء متعددون، لا يعني ذلك فحسب أن هناك أفراداً مختلفين يمكنهم أن يقرؤوا النص ذاته، وإنما أيضاً على حد تعبير بارت: «كون كل جسم قارئ ينطوي على إيقاعات مختلفة من الذكاء للتفاعل مع النص حسب الأوقات وحسب الصفحات».

ليست القراءات متكافئة، وقد سبق للفيلسوف «لوي ألتوسير» أن ميز بين نوعين من القراءة، ما دعاه قراءة منفعلة، وما سماه قراءة فعالة، تقف القراءة الأولى أمام المقروء سلبية متلقيه، وهي تؤول إلى ذلك الفعل السحري البسيط الذي يلغي المادة المكتوبة، ليتمكن من روح النص، والنفاذ إلى أغواره والإنصات إلى صوته والتقاط معناه.

تقوم هذه القراءة على ميتافيزيقا الحضور، وهي تؤول في النهاية إلى مجرد الشرح والتعليق، معتبرة أن هدفها هو بلوغ ما قيل، وإدراك ما تم إثباته والتدليل عليه، إنها إذن قراءة شارحة، تحاول أن تنفذ إلى أعماق النص لإدراك الحقيقة، التي يحملها والتي أودعها إياه كاتبه، بعد أن دارت بخلده، وجالت في فكره.

هذه القراءة هي ما يدعوه بارت «القراءة الميتة» الخاضعة للنماذج المكررة والقوالب الذهنية وكلمات الأمر، إلا أن هناك من حسن الحظ قراءات أخرى يدعوها بارت «القراءات الحية» المنتجة لنص يتناسب مع كتابة افتراضية للقارئ، تلك هي القراءة التي يدعوها ألتوسير القراءة الفعالة المنتجة المحولة التي تولد النص اللامكتوب الذي لا يكون مجال الكتابة إلا علامة عليه وعرضا من أعراضه، وهي نفسها التي سبق لنيتشه أن سماها قراءة مشخصة للأعراض، لأنها تفحص النص وتتوقف عند أعراضه لتكشف اللامكشوف في النص الذي تقرأه فترده إلى نص آخر حاضر بغيابه الضروري في النص الأول. هذه القراءة لا تقرأ النص على أنه كتاب مفتوح، يعطي للقارئ معانيه بصفة فورية، وإنما على أنه نص منفلت عن نفسه متباعد عنها، وهو تباعد لا يكون راجعاً لنقائص القارئ وقصوره المنهجي.

هذه القراءة الثانية إذن قراءة متشككة تتهم المباشر، وترفض البداهات، وهي تسعى أن تكشف في بياض النص المسودة التي تختفي من ورائه، تحاول أن تنعش مسودة النص، تحاول أن تنتج العملية الفعلية للكتابة، تلك العملية التي ليست عملية إظهار وتملك المعنى الوحيد، والحقيقة المطلقة، وإنما كما قال نيتشه: «عملية توليد الاستعارات».

على نحو آخر لا تعود القراءة استعادة للمعنى الذي أودعه المؤلف النص، وإنما ستغدو بناء وليست إعادة بناء المعنى، إنها عملية إنتاج وتحويل، إذا كان القارئ هو الذي يبني النص، فهو أيضاً مفعوله، وهو أيضاً يبنى من طرف النص، يستسلم القارئ في البداية لإكراهات النص، فيقبل اللعب وفق قواعد لم يضعها، إنه يكون أمام موضوع لم ينجزه، ومع ذلك يكون عليه أن يبنيه.

كتب بارت: «أن تقرأ هو بالفعل عمل تقوم به اللغة، أن تقرأ معناه العثور على معان، والعثور على معان معناه أن تسميها، إلا أن هذه المعاني التي تمت تسميتها تقود إلى أسماء أخرى، إن الأسماء تستدعي بعضها البعض، وتجمع، ويتوق تجمعها أن يسمى من جديد، إنني أسمي وأعين، وأسمي من جديد، وهكذا يتشكل النص، إنها تسمية مستمرة وعملية اقتراب لا تكل، إنها عمل كنايات».

هذه هي القراءة الحية التي يتحدث عنها بارت والتي لا تحترم النص ولا تخضع له، فهي ما تفتأ ترفع رأسها، فهي كما يقول رولان بارت في كتابه «لذة النص»: «يبدأ النص غير الثابت» النص المستحيل مع الكاتب، القراءة تجعل المكتوب بدايات لا تنتهي: إنها تكور المكتوب على نفسه، فهو لا يزال بها يدور، حتى لكأن كل بداية فيه تظل بداية. ولذا كانت نصوص القراءة هي نصوص البدايات المفتوحة: إنها تكتب، وتقرأ. ولكنها لن تبلغ كمالها كتابة، ولا تمامها قراءة، ولعل هذا هو السر في أنها كانت نصوص لذة.

المصدر : صحيفة الخليج

وسوم: