لماذا لا تتوافق الصين واليابان برغم التجارة البينية الضخمة؟

لماذا لا تتوافق الصين واليابان برغم التجارة البينية الضخمة؟

الصين واليابان من أقوى دول آسيا وأكبر الشركاء التجاريين في المنطقة. ومع ذلك، فإن قروناً من التنافس الشديد تعني أن عناقهما اقتصادياً ليس من المسلّمات.

ما تزال هناك عدة قضايا عالقة بين البلدين، ومن ذلك النشاط العسكري المتزايد للصين حول مجموعة من الجزر المتنازع عليها، والقيود التجارية، والمخاوف بشأن السلام والاستقرار في مضيق تايوان.

اشتعلت التوترات في نوفمبر بعدما أن قالت رئيسة الوزراء اليابانية ساناي تاكايشي إنه إذا حاربت الصين للسيطرة على تايوان، فقد يرقى ذلك إلى “وضع يهدد بقاء” اليابان- وهو تصنيف من شأنه أن يوفر مبرراً قانونياً لطوكيو لنشر جيشها، بالتنسيق مع الولايات المتحدة.

الصين تتهم تاكايشي بإحياء “الشياطين العسكرية” في اليابان

اتهمت حكومة الصين تاكايشي بالتدخل في شؤونها الداخلية وطالبت بالتراجع، لكن الزعيمة اليابانية دافعت عن تعليقاتها. مع تصاعد الخلاف الدبلوماسي، اتخذت الصين إجراءات انتقامية، محذرة مواطنيها من السفر إلى اليابان وعلقت التحركات لاستئناف استيراد المأكولات البحرية اليابانية.

ما هو تاريخ العلاقة بين الصين واليابان؟

لطالما كانت الصين واليابان القوتين السياسيتين والثقافيتين المهيمنتين في شمال شرق آسيا. وقد أثرت كل منهما على لغة الأخرى، وعلى تنميتها الاقتصادية وحتى على تقاليدها في المأكولات.

انتعشت التجارة منذ أواخر القرن التاسع عشر، ولكن الاحتكاك السياسي انتشر أيضاً، ما أدى إلى سلسلة من صراعات مسلحة.

خلاف تايوان يشتعل.. الصين تحذر مواطنيها من السفر إلى اليابان

غزت اليابان وضمت أجزاء من الصين خلال هذه الفترة، ومن ثلاثينيات القرن العشرين وحتى الحرب العالمية الثانية، شن الجيش الإمبراطوري الياباني حملات وحشية في الصين، بما في ذلك عمليات القتل الجماعي الشائنة في نانجينغ.

 ما تزال هذه الأحداث -بالإضافة إلى النزاعات الإقليمية المستمرة- تلقي بظلالها على العلاقات بين البلدين.

ما الذي أحيا التوترات بين الصين واليابان اليوم؟

ما تزال النزاعات الإقليمية واحدة من أكبر بؤر التوتر. تدّعي كلتا الدولتين تبعية مجموعة جزر غير مأهولة في بحر الصين الشرقي -وهي تُسمى سينكاكو في اليابان ودياويو في الصين- وتغطي معاً مساحة 7 كيلومترات مربعة.

ترسل الصين خفر السواحل والسفن الحكومية إلى المنطقة بشكل شبه يومي منذ عام 2012، عندما قرر رئيس الوزراء الياباني آنذاك يوشيهيكو نودا نقل بعض الجزر من ملكية خاصة إلى ملكية الدولة. وصل عدد السفن الصينية التي تدخل المنطقة إلى رقم قياسي في عام 2024. كما أن للصين واليابان مطالبات متنافسة على حقل غاز قريب.

الصين تصعّد الخلاف مع اليابان بحظر جديد

يمثل النفوذ العسكري المتزايد لبكين مصدر قلق آخر في طوكيو، وكذلك التعاون العسكري المتزايد بين الصين وروسيا، الذي يشمل تدريبات بحرية وجوية مشتركة حول اليابان.

وردت الصين في الكتاب الأبيض العسكري السنوي لليابان لعام 2025 أكثر من 1000 مرة، وجاء فيه أن تلك الجارة حققت تقدماً سريعاً في القوة العسكرية وكانت “أعظم تحدٍّ استراتيجي” لليابان. أشرف الرئيس الصيني شي جين بينغ على مضاعفة الإنفاق الدفاعي منذ توليه منصبه في عام 2013، وفقاً لقاعدة بيانات الإنفاق العسكري لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام.

كان هذا أحد محركات توسيع اليابان لجيشها. ويُتوقع أن تبلغ تكلفة تعزيز الدفاع الياباني لمدة خمس سنوات، الذي أقرته في عام 2022 نحو 43 تريليون ين (273 مليار دولار) وأن يدفع الإنفاق الدفاعي إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي، من أكثر من 1% سابقاً.

أزمة الصين واليابان تتصاعد وبكين تلوح بسلاح الاقتصاد

وقد سرّعت تاكايشي الجدول الزمني، سعياً لبلوغ هدف 2% في السنة المالية 2025 بدلاً من 2027. اتهمت الصين اليابان بعدم تعلم دروس التاريخ والعودة إلى العسكرة. تدّعي الصين ملكيتها لجزر سينكاكو/دياويو التي تسيطر عليها اليابان في بحر الصين الشرقي.

اخترقت طائرة عسكرية صينية المجال الجوي الإقليمي الياباني لأول مرة العام الماضي، وقالت الصين إن مدمرة يابانية أبحرت إلى مياهها الإقليمية. وفي يونيو 2025، قالت اليابان إنها لاحظت حاملتي طائرات صينيتين وسفن حربية داعمة تعملان في وقت واحد بالقرب من جزر يابانية نائية في المحيط الهادئ.

كيف تنسجم تايوان مع العلاقات الصينية اليابانية؟

تعتبر الصين تايوان جزءاً من أراضيها وتعهدت بأن تستعيد يوماً ما الجزيرة ذات الحكم الذاتي التي يبلغ عدد سكانها 23 مليوناً، بالقوة إذا لزم الأمر. لا تقيم اليابان علاقات دبلوماسية رسمية مع تايوان، لكن خطابها يناهض أي محاولات أحادية الجانب لتغيير الوضع الراهن وتصر على أنه يجب حل القضايا على جانبي المضيق سلمياً.

ينبع قلق اليابان جزئياً من الجغرافيا. تقع تايوان على بُعد أقل من 100 كيلومتر من يوناجوني، أقرب جزيرة يابانية، ما يذكّر بمدى سرعة امتداد أي صراع عبر بحر الصين الشرقي.

تهديد للهدنة التجارية… أميركا تتخطى خطوط الصين الحمراء بقضية تايوان

لقد تجنب رؤساء الوزراء اليابانيون مناقشة تفاصيل الصراع المحتمل حول تايوان، مما يعكس حساسية هذه القضية في كل من الصين واليابان. وقد جعلت تعليقات تاكايشي منها أول زعيمة يابانية في السلطة منذ عقود تربط علناً بين أزمة مضيق تايوان واحتمال نشر قوات الدفاع الذاتي اليابانية.

اتخذ مرشد تاكايشي، رئيس الوزراء السابق الراحل شينزو آبي، موقفاً متشدداً تجاه الصين، لكنه كان حذراً عموماً بشأن قضية تايوان الساخنة. في السنوات الأخيرة، وسّعت اليابان منشآتها العسكرية، مثل قواعد الصواريخ المضادة للسفن على طول سلسلة جزرها الجنوبية الغربية، بدافع المخاوف بشأن تايوان والصراع الإقليمي الأوسع.

في غضون ذلك، كانت السفن العسكرية وخفر السواحل الصينية تغامر بالدخول إلى المياه بالقرب من جزر سينكاكو/ دياويو بوتيرة متزايدة. سقطت الصواريخ الباليستية الصينية في المنطقة الاقتصادية الخالصة لليابان بالقرب من تايوان في عام 2022، عندما خاضت الصين واحدة من أكبر مناوراتها حول مضيق تايوان منذ عقود.

كيف حال التجارة بين الصين واليابان؟

مع فتح الصين أسواقها تدريجياً منذ أواخر السبعينيات، أنشأت شركات يابانية بما في ذلك شركتي”باناسونيك هولدينغز“ (Panasonic Holdings) و“تويوتا موتور“ مواقع إنتاج في البلاد لبيع منتجاتها لفئة متنامية من المستهلكين.

كما استغلت الشركات اليابانية إمكانات الصين كمصدر للعمالة الرخيصة للتصنيع. أقامت شركات مثل شركة ”يونيكلو“ (Uniqlo) لتجارة الملابس مصانع هناك أو حصلت على سلع من شركات صينية قبل بيعها في اليابان وأماكن أخرى.

إن الصين الآن الشريك التجاري الأول لليابان، بينما لا تعتبر الصين سوى الولايات المتحدة أكثر أهمية في التجارة الثنائية. لكن العلاقة تتطور بسرعة. بدأت الشركات الصينية تتنافس مباشرةً مع الشركات اليابانية في إنتاج سلع باهظة الثمن مثل السيارات والإلكترونيات. وأصبحت اليابان بشكل متزايد مورداً للمكونات للصين بدلاً من المنتجات النهائية.

كيف ستدير أول رئيسة وزراء يابانية الاقتصاد والسياسة الخارجية؟

تتوسع العلامات التجارية الاستهلاكية الصينية، بما في ذلك عملاق التجارة الإلكترونية منخفض التكلفة ”شي إن“، في اليابان، بينما برزت شركات تصنيع السيارات الكهربائية مثل شركة ”بي واي دي“ كتهديد تنافسي لشركات صناعة السيارات اليابانية، ليس فقط في الصين ولكن في جميع أنحاء العالم أيضاً. حتى أن بعض الشركات اليابانية، بما في ذلك شركة ”ميتسوبيشي موتورز“ وشركة ”نيبون ستيل“، انسحبت من الصين أو قلصت عملياتها هناك.

بشكل عام، يتضاءل الاستثمار الياباني في الصين. لطالما كان ممارسة الأعمال التجارية هناك غير قابلة للاستشراف بالنسبة للشركات اليابانية، التي انجرّت في بعض الأحيان إلى نزاعات سياسية.

أميركا واليابان تتحالفان لاستخراج المعادن النادرة قرب المحيط الهادئ

لقد جعلت القيود الأشد صرامةً -بما في ذلك قانون مكافحة التجسس الموسع في الصين- الشركات أكثر حذراً تجاه الاستثمار والأفراد أكثر حذرًا بشأن الزيارة. وقد أدى احتجاز كثير من المواطنين اليابانيين في السنوات الأخيرة إلى تعميق هذه المخاوف.

وفي ضربة أخرى، تضررت شركات التقنية اليابانية بما في ذلك شركة ”طوكيو إلكترون“ (Tokyo Electron) المحدودة وشركة ”نيكون“ (Nikon)  من القواعد المفروضة تحت ضغط من الولايات المتحدة والتي تقيد صادرات الآلات والمواد الكيميائية المستخدمة في صنع أشباه الموصلات المتطورة إلى الصين.

ما الذي على المحك لو تصاعدت توترات الصين واليابان؟

التقى تاكايشي وشي في أكتوبر واتفقا على تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية، وتعزيز التأشيرات السياحية. التقدم المحرز خلال ذلك الاجتماع معرض الآن لخطر الانهيار. ذكرت وسائل الإعلام الرسمية الصينية في منتصف نوفمبر أن الحكومة “أعدت استعدادات كاملة للانتقام الجوهري”، ملمحةً إلى أن الإجراءات المحتملة قد تشمل عقوبات وتعليق العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية وقيوداً على التجارة.

أشارت الصين لاحقاً إلى أنها ستوقف استيراد المأكولات البحرية اليابانية. وكانت قد فرضت حظراً في عام 2023 ورفعت أغلبية هذه القيود في وقت سابق من هذا العام. لكن ظلت الشحنات ضعيفة، إذ بلغ مجملها 500 ألف دولار فقط في الأشهر التسعة الأولى من عام 2025، وفقاً لبيانات الجمارك الصينية.

تركز المخاوف الأهم على إمكانية قيام الصين جعل هيمنتها على سلسلة توريد المعادن النادرة سلاحاً- وهو تكتيك استخدمته من قبل. عندما اشتبكت الدولتان بسبب نزاع إقليمي منذ أكثر من عقد، حظرت الصين مؤقتاً صادرات هذه المواد الحيوية، التي تُستخدم في الهواتف الذكية والسيارات وكثير من التقنيات الأخرى.

دول آسيا قد ترحب باتفاقات تجارية تقصي الصين

كما أن المخاطر كبيرة أيضاً بالنسبة لصناعة السياحة اليابانية بعد أن حذرت وزارة الخارجية الصينية من أنه يجب على المواطنين تجنب السفر إلى اليابان على المدى القريب. وقد رددت بعض الشركات التي تملكها الدولة، بما في ذلك البنوك الكبرى، هذا التوجيه، كما حدثت هونغ كونغ تحذيراتها بشأن السفر إلى اليابان أيضاً. وفي الوقت نفسه، حثت اليابان رعاياها في الصين على اتخاذ احتياطات.

يمثل السياح الصينيون حوالي واحد من كل أربعة زوار إلى اليابان سنوياً. وكانوا الأكثر إنفاقاً بين جميع الزوار الأجانب من يوليو إلى سبتمبر، إذ كانوا مصذر حوالي 27% من إجمالي الاستهلاك الداخلي البالغ 2.1 تريليون ين، وفقاً لوكالة السياحة اليابانية.

استطلاع: الصين تتفوق على أميركا كشريك مفضل لدول جنوب شرق آسيا

كما حذرت وزارة التعليم الصينية من أن الطلاب الصينيين الذين يخططون للدراسة في اليابان قد يواجهون مخاطر متزايدة. وقالت منظمة خدمات الطلاب اليابانية في تقرير لها في أبريل إن هناك نحو 123 ألف طالب صيني يدرسون في اليابان في عام 2024. وهم أكبر مصدر للطلاب الدوليين في البلاد، ويشكلون 37% من الإجمالي.

كما يمكن أن يلحق الخلاف الدبلوماسي أضراراً بالشركات العاملة في كلا الاقتصادين. في حين أن عدد الشركات التابعة لليابان التي تتطلع إلى التوسع في البر الرئيسي للصين وهونغ كونغ بلغ أدنى مستوى له على الإطلاق بنهاية عام 2024، وفقاً لمسح منظمة التجارة الخارجية اليابانية، ما تزال الصين وجهة حيوية لصادرات الآلات والمركبات والمواد الكيميائية اليابانية. وما تزال اليابان مصدراً مهماً للمنتجات عالية التقنية التي لا تستطيع الشركات الصينية إنتاجها محلياً، بما في ذلك المعدات واللوازم اللازمة لتصنيع أشباه الموصلات.

في حين يبدو أن الصين تتمتع بنفوذ أكبر من اليابان لتوجيه ضربة اقتصادية، إلا أنها ستضطر أيضاً إلى دراسة خياراتها بعناية. فاللجوء إلى أساليب الضغط بسرعة كبيرة -خاصةً إذا فرضت قيوداً على المعادن الأساسية- قد يجر الولايات المتحدة، حليفة اليابان، إلى المعركة. وقد كانت إمدادات المعادن النادرة مصدراً رئيسياً للخلاف بين واشنطن وبكين.

المصدر : الشرق بلومبرج