تعتبر فكرة التوحيد مركزية لدى الفنان المسلم، فهي جوهر الرسالات السماوية وأساس العقيدة، وفكرة التوحيد هذه، تخاطب فطرة الإنسان الأصلية التي خلق عليها، وهي بالضرورة تتوافق مع العقل السليم والقلب السليم كذلك، بهذا الفهم فثمة علاقة انسجام وتوافق بين العقل والقلب، وكلاهما يبصر ويستشرف تلك المعاني الروحية في الفن الإسلامي، ويدرك عمق وجمال هذا الفن، باعتباره يتجاوز مجرد الرؤية البصرية، ويتطلب تدبراً قلبياً يربط بينه وبين القيم الروحية والإلهية.
في كثير من مشاركات الفنانين في مهرجان الفنون الإسلامية في دورته الـ 26، التي جاءت تحت شعار «سراج» ثمة مقاربات كثيرة تلعب على هذه الفكرة الجوهرية التي تخاطب عقل وقلب الإنسان وتحفزه على تمعن قيم الجمال والنور في هذه الأعمال المشاركة، واكتشاف ذلك الغنى الفني البعيد عن التجسيد، ويركز على التجريد والتكرار والزخارف المعقدة، كما أنه يحفز عقل وقلب الإنسان ليدركا معاً أن ثمة جمالاً لا تراه العين المجردة، وإنما هو يطوف باحثاً عن تلك المعرفة الروحية التي هي الأصل.
*سلام
ضمن هذا الفهم، يمكن أن نتوقف عند تجربة بصرية مدهشة، هي عبارة عن تركيب لمجسم نجمة ثمانية الأضلاع للفنان البحريني راشد آل خليفة بعنوان «مبادئ السلام» والحقيقة أن النجمة الثمانية كما يؤكد الخبراء هي رمز عالمي متعدد المعاني، ولا ترتبط حصرياً بـالنظام الإلهي في دين واحد، بل ظهرت في حضارات قديمة وتستخدم في سياقات روحية ودينية مختلفة، مثل الهندوسية والإسلام واليهودية والمسيحية. وينظر إليها كرمز للكون، التوازن والتناغم، ففي الإسلام هي تتمثل في أشكال زخرفية معينة (خاصة في الأنماط المعمارية)، وتعرف بـ «النجمة الإسلامية» أو «النجمة الثمانية»، وتستخدم في الزخارف الإسلامية لتمثيل التوازن والانسجام، لكن ما يجمع دلالاتها في كثير من الأديان، هو أنها رمز للتوازن في العالم الروحي والمادي.
في هذا العمل، حرص الفنان راشد آل خليفة على ابتكار مجسمه الثماني هذا، كرمز عريق متجذر في الفن الإسلامي، والهندسة القديمة، التي شكلت عبر العصور رمزاً قوياً في شتى التقاليد الروحية والثقافية، من الناحية الهندسية، يعنى الفنان راشد آل خليفة بتكوين مربعات ومثمنات تجسد مبادئ الانسجام والتوازن في تناظرها المحكم، كما أنها تحيل إلى الكمال والتجدد والطبيعة الدورية للحياة.
*قوة الرمز
في هذا العمل الآسر، يخاطب الفنان راشد عقل وقلب المشاهد ليحلق في أجواء هذا التوازن البصري، حيث الخطوط الأفقية وذلك التوازن الذي يمنح الشكل الهندسي تناسقاً مبهراً وشعوراً بالاستقرار والهدوء والسلام الذي يمكن متابعته بل الإحساس به من خلال تلك الأشكال أو الأنماط المتكررة والمتناغمة التي تسهم في خلق شعور بالسكينة.
النجمة الثمانية في هذا العمل، تجسد الانسجام الكوني، وتربط العوالم جميعها، وهي تعبر عن التوازن بين القوى المتقابلة «كالقوى الروحية، والقوى المادية، والسفلية، والعلوية، ما بين السماء والأرض، ويعكس تناسقها أيضاً وحدة الأزواج المتضادة، وكيف تتشابك فضائل عدة كالعدل والرحمة والشفقة، وهذا العمل يرتبط بفكرة النظام الكوني، مجسداً التصور القائل بأن المبادئ التوجيهية تكون جوهر العالم المادي، وأن السلام الحقيقي متجذر في إدراك هذا الانسجام المقدس.
*هوية
في عمل آخر للفنانة الجنوب إفريقية إستر ماهلانغو بعنوان «استكشاف القلب والعقل والروح» نحن أمام تجربة مختلفة تحاكي فكرة السراج بوصفه مصباحاً للهداية، حيث تبرز الفنانة شكله المادي، وتستكشف دلالاته الرمزية من وحي تجربة خاصة تبرز التراث البصري لقبيلة «نديبيلي» التي تقول عنها الفنانة: أرسم ما في قلبي، وما يخبرني به قلبي، وأرسم ما يخبرني به عقلي، لأنني أعلم أنه ينبع من أنهار الأجداد، وحين يتفق القلب والعقل، أعلم أن روحي في المكان الصحيح.
في هذا العمل، الذي يتكون من مجموعة فنية متكاملة تتكون من طبق جداري دائري في المنتصف، ومزهرية خزفية قصيرة إلى اليسار، ومزهرية أخرى إلى اليمين، نلمس طابعاً فنياً مرمزاً يعتمد على الشكل الهندسي، وهو شكل مقسم إلى طبقات هندسية متعددة، بينما يوجد مركز لوني قوي على الجدار يلفت الانتباه.
هذه الأشكال ملونة بعدة ألوان، بين الأزرق بدرجاته والبرتقالي والأسود، والأبيض، وبعض اللمسات الحمراء، ولكل لون دلالة ورمز السماء والماء رمز لهما الأزرق، فيما رمز الأصفر للضوء والشمس وكان البرتقالي لون الأرض والطبيعة، والأسود للقوة والحماية، أما الأبيض فرمز الصفاء والروحانية.
كثيرة هي الأشكال الهندسية في هذا العمل التي صممت على شكل خزفي تقليدي ولكن عصري.
والعمل يعتمد على التجريد الهندسي، كأنه بمثابة خريطة لونية ترمز للطبيعة أو القبيلة، وثمة ما يشبه النجم أو رمز الشمس في اللوحة الوسطى، وثمة خطوط رأسية متصاعدة تمثل هوية ثقافية خاصة، كأنها تحتفي بالرموز الشمسية والكونية، التي تظهر التناغم ما بين الأرض والسماء، وتبرز التراث القبلي بلمسة حداثية، وثمة توازن يمكن متابعته في الدائرة الكبيرة التي تتوسط المركز، وربما هي ترمز للانهاية أو دورة الحياة، والكون، والتوازن بين العناصر، وثمة مثلثات تمتد كأشعة حول المركز، تشير إلى القوة أو اتجاه الطاقة، ما يجعل اللوحة في المركز تبدو وكأنها الشمس المشرقة بالطاقة إلى الخارج.
لكن ما هو مهم في هذا العمل الساحر، هو أن الشكل قد جاء في خدمة المضمون، حيث العمل في قطعه المتناثرة مصمم بحرفية تؤول إلى فكرة الروح، أما النور الظاهر في المنتصف فهو يرمز إلى الحقيقة، والهداية، والفهم العميق، هنا، وكأن الفنانة إستر تودّ أن تشير إلى أن العقل يبصر النور عندما يفهم ويحلل ويدرك الواقع، وأن القلب يبصر النور عندما يشعر بالصدق والإيمان، والمحبة، كأنما الحقيقة لا ترى بالعين فقط، بل ترى بصفاء القلب ووعي العقل معاً.
المصدر : صحيفة الخليج
