تركيز المقاصة يهدد استقرار سوق الخيارات الأميركية

تركيز المقاصة يهدد استقرار سوق الخيارات الأميركية

مع استمرار سوق عقود الخيارات في الولايات المتحدة الأميركية في التوجه نحو تسجيل عام سادس على التوالي من أحجام التداول القياسية، يشعر بعض أبرز الأسماء في القطاع بالقلق من اعتمادها المفرط على مجموعة صغيرة من البنوك لضمان تنفيذ الصفقات لصالح أكبر صناع السوق.

تمر كل صفقة عقود خيارات مدرجة في الولايات المتحدة الأميركية عبر شركة “ذا أوبشنز كليرينغ” (The Options Clearing)، وهي جهة مقاصة مركزية تتعامل مع أكثر من 70 مليون عقد يومياً خلال فترات النشاط الكثيف. تُقدم الصفقات إلى “ذا أوبشنز كليرينغ” عبر أعضائها الذين يعملون على تسوية الصفقات لديها ويتولون دور الضامن في حال إفلاس عملائهم.

بنوك كبرى

تتربع على القمة مجموعة محدودة من الشركات. من بين عشرات الأعضاء، قدمت أكبر 5 بنوك  خلال الربع الثاني من 2025 ما يقرب من نصف مساهمات صندوق التعثر لدى شركة المقاصة الأميركية، وهو الصندوق الذي يضم مساهمات جميع الأعضاء ويستخدم لتغطية الخسائر في حال تعثر أحد أعضاء المقاصة. يشير مشاركون في السوق إلى “بنك أوف أميركا” و”غولدمان ساكس غروب” و”إيه بي إن أمرو بنك” (ABN Amro Bank) باعتبارهم الأكبر، إذ تتكفل بأغلب مراكز الاستثمار من صانعي السوق الذين هم الطرف المقابل المسؤول عن توفير السيولة المالية تقريباً لكل صفقة عقود خيارات. يعني مرور هذا الحجم الضخم عبر عدد محدود للغاية من البنوك ارتفاع مخاطر الخسائر الواسعة إذا تعثر أحدها.

اقرأ المزيد: نتائج فصلية قوية للبنوك الأميركية تعكس تحسناً في الأداء ومتانة النظام المالي

قال كريغ دوناهيو، الرئيس التنفيذي لشركة “سي بي أو إي غلوبال ماركتس” (Cboe Global Markets)، في مقابلة دون تسمية بنوك محددة: “أعتقد أن هناك مخاطر تركيز كبيرة لأعمال وساطة المقاصة في يد مجموعة محدودة. وأنا فعلاً أقلق بشأن ذلك”.

رغم أن احتمال تعثر بنك كبير يُعدّ ضعيفاً، إلا أنه غير مستبعد. يملك دوناهيو تجاربه الخاصة مع حالات تعثر أعضاء المقاصة: في أكتوبر 2011، حين كان يشغل منصب الرئيس التنفيذي لـ”سي إم إي غروب”، أعلنت شركة “إم إف غلوبال” إفلاسها.

المقاصة الذاتية

أما الخطر الأكثر إلحاحاً فيكمن في احتمال نفاد قدرة هذه البنوك على دعم النمو الاستثنائي في سوق عقود المشتقات المالية المدرجة في البورصة، إذ ارتفع متوسط أحجام التداول اليومية لدى “ذا أوبشنز كليرينغ” 52% في أكتوبر الماضي مقارنة بالعام الماضي. قاد ذلك إلى زيادة في عمليات “المقاصة الذاتية” من قبل صناع السوق، بمعنى انضمامهم بشكل مباشر كأعضاء في غرفة المقاصة، وهو ما ينطوي على مخاطره الخاصة لأن رأسمال صناع السوق أكثر محدودية مقارنة بالبنوك.

رفض كل من “بنك أوف أميركا” و”غولدمان ساكس” التعليق، فيما لم يرد “إيه بي إن أمرو” فوراً على طلب للتعليق.

طالع أيضاً: 4 بنوك أميركية تجني 300 مليون دولار من زيادة رأسمال “بوينغ”

ولا يملك القدرة على إجراء الهامش المتقاطع بين العقود المستقبلية والخيارات سوى عدد قليل من وسطاء المقاصة؛ وهي آلية يمكن من خلالها أن تُخفِّض المراكز المتقابلة في الأدوات المرتبطة المخاطر الإجمالية، ما يقلل من متطلبات هامش التغطية. فعلى سبيل المثال، إذا كان المتداول في مركز شراء لعقود “إي ميني” لمؤشر “ستاندرد آند بورز 500” (S&P 500 E-Mini Futures)، وفي مركز بيع لخيارات مؤشر “ستاندرد آند بورز 500″، فإن صافي المخاطر على محفظته سيكون أقل.

قال أندريه بولكوفيتش، الرئيس التنفيذي لـ”ذا أوبشنز كليرينغ “، في مقابلة: “هناك عدد قليل فقط من الأعضاء القادرين فعلياً على دعم بعض صناع السوق، وخصوصاً على صعيد برنامج الهامش المتقاطع. أعتقد أن صناع السوق يرغبون في رؤية هذا الوضع يتغير. وهذا أمر معروف جيداً في القطاع، ونحن بصراحة ندعم حدوث هذا التغيير”.

تتمثل المعضلة بالنسبة للبنوك في أنه حتى لو وافقت جهة المقاصة على منح العميل خصماً بناءً على مستوى صافي المخاطر، فقد تُجبر البنوك بموجب أطرها التنظيمية الداخلية على التعامل مع المراكز الاستثمارية على أنها غير مرتبطة ببعضها، ما يعني فرض رسوم إضافية.

عملية تنظيمية مفككة 

لا يساعد النظام الرقابي الأميركي المفكك في حل المشكلة. تخضع البنوك لرقابة بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، بينما تخضع شركات الوساطة وسوق عقود الخيارات لهيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية، في حين تندرج العقود المستقبلية، بما في ذلك العقود المستقبلية المرتبطة بالأسهم، تحت إشراف لجنة تداول السلع المستقبلية. يعني هذا أن البنك قد يمنح العميل الخاص به ميزة اتفاق هامش التغطية المتقاطع، لكنه يظل مضطراً إلى تخصيص أموال من رأسماله لتغطية الصفقة.

ما هي البنوك ذات الأهمية النظامية؟ ولماذا لا يُسمح بانهيارها؟ الإجابة هنا

أدى صعود عقود الخيارات التي تنتهي صلاحيتها بانتهاء اليوم نفسه، والنشاط الهائل في أحجام التداول من المستثمرين الأفراد، إلى تحديات جديدة أمام أعضاء المقاصة. أي تحرك نحو التداول على مدار 24 ساعة يومياً و7 أيام أسبوعياً قد يفرض ضغطاً إضافياً على النظام ويرفع سقف متطلبات المشاركة أمام مؤسسات أخرى.

من المرجح أن يتحمل العملاء تكلفة الاستثمارات الإضافية اللازمة لتحديث القدرات والتقنيات للتعامل مع الأحجام والمخاطر الأكبر. رفع “بنك أوف أميركا” بالفعل الرسوم التي يفرضها على العملاء لكل صفقة في عمليات مقاصة عقود الخيارات، من نطاق بين 0.02 و0.03 دولار إلى نحو 0.04 دولار، وفقاً لشخص مطلع.

صندوق التعثر

اقترحت “ذا أوبشنز كليرينغ ” تغيير الطريقة التي تحتسب بها نسبة مساهمة كل عضو في صندوق التعثر البالغ نحو 20 مليار دولار، بحيث تعكس المخاطر السوقية الحقيقية لكل محفظة. يُفترض أن يكون حجم هذا الصندوق كافياً لتعويض الأعضاء الآخرين إذا انهارت في الوقت نفسه أكبر شركتي مقاصة.

القواعد التنظيمية لن تحول دون وقوع الأزمة المالية المقبلة.. تفاصيل أكثر هنا

بحسب بولكوفيتش، فإن النظام الحالي يخصص 70% من المساهمات بناء على مدى صمود العضو أمام تحركات سوقية في نطاق يقارب 5%. طلبت “ذا أوبشنز كليرينغ ” من هيئة الأوراق المالية والبورصات السماح لها بتعديل هذا المعيار ليأخذ سيناريو أكثر تطرفاً في الحسبان، على غرار انهيار 1987 حين هبط مؤشر “داو جونز الصناعي” 22.6% في يوم واحد.

أشار دوناهيو إلى أن يقظة غرف المقاصة بحد ذاتها علامة قوة: “تكيف الإطار التنظيمي والتشغيلي ليتمكن من إدارة هذا النوع من المخاطر بشكل أفضل”.

يرى دوناهيو -شغل منصب رئيس مجلس إدارة “ذا أوبشنز كليرينغ ” بين 2014 و2025- ضرورة دخول مزيد من المؤسسات لسد فجوة مقاصة عقود الخيارات.

اختتم بقوله: “لو كان بمقدورنا تغيير الأمر في لمح البصر وأن نحصل على مزيد من المنافسة في هذا المجال، ومزيد من سعة المقاصة، تكون موزعة على نطاق أوسع وغير مُركزة وأكثر تنوعاً، فسيكون ذلك مفيداً جداً للسوق بكل وضوح”.

المصدر : الشرق بلومبرج