رغم العجز المالي المتوقع في ميزانية السعودية لعام 2026 المقدر بـ165 مليار ريال (44 مليار دولار)، وزيادة الدين العام إلى 32.7% من الناتج المحلي الإجمالي، بعثت الحكومة برسالة واضحة: الرهان على التحول الاقتصادي مستمر بلا تراجع.
في تصريح يحمل مزيجاً من الثقة في المسار الاقتصادي والتقدير الدقيق للمخاطر، شدد ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، بعد اجتماع لمجلس الوزراء أقر فيه الميزانية الثلاثاء، على أن “ميزانية 2026 تؤكد عزم الحكومة على تعزيز متانة ومرونة الاقتصاد المحلي بما يسهم في استدامة نموه وتمكينه من تجاوز تحديات وتقلبات الاقتصاد العالمي، وأن المملكة مستمرة في التركيز على تنويع القاعدة الاقتصادية، وتحفيز الاستثمار، وتسريع وتيرة التحول الاقتصادي بما يتوافق مع مستهدفات رؤية 2030”.
ولي العهد أشار إلى ما حققته المملكة من تحول هيكلي منذ إطلاق “رؤية 2030” أسهم في تحسين معدلات نمو الأنشطة غير النفطية، واستمرار احتواء التضخم عند مستويات أدنى من نظيراتها العالمية، وتطوير بيئة الأعمال، وتعزيز دور القطاع الخاص ليكون شريكاً فاعلاً في التنمية، وترسيخ مكانة المملكة مركزاً اقتصادياً واستثمارياً عالمياً.
حساسية النفط
وفق تقديرات وزارة المالية السعودية، ستبلغ الإيردات غير النفطية في ميزانية العام الجاري 501 مليار ريال، ما سيمثل قرابة 46% من مجمل الإيرادات، وهي الأعلى في خمس سنوات.
رغم التركيز الرسمي على تنويع الاقتصاد، تظل المالية العامة شديدة الحساسية لتحركات أسعار النفط العالمية.
أحد أبرز ملامح المشهد المالي هو الارتفاع المتوقع في إجمالي الدين العام إلى 1.62 تريليون ريال بنهاية العام المقبل، أي ما يعادل 32.7% من الناتج المحلي الإجمالي. في المقابل، تواصل الدولة الاعتماد على صندوق الاستثمارات العامة لقيادة النمو والاستثمار، مع دور مكمل لصندوق التنمية الوطني.
هذا التوازن بين الدين المتصاعد والنشاط الاستثماري تقوده الدولة في ظل تراجع نسبي في فوائض النفط، ما يعزز أهمية إدارة المخاطر الائتمانية في المدى المتوسط، خاصة في حال استمرار الضغوط على أسواق الطاقة العالمية.
وقال وزير المالية محمد الجدعان في مؤتمر صحفي بالرياض الثلاثاء: “عندما تهتز أسعار النفط ستتأثر إيرادات الحكومية بالتالي. لا يمكن أن نقول أننا وصلنا إلى مرحلة مستدامة طالما أننا نتأثر بمثل هذه العوامل ونضطر إلى الاقتراض”.
لكن الجدعان رفض فكرة المبالغة في توصيف الضغوط المالية مؤكداً أنها لا تشكل خطراً “إطلاقاً” ولا تمثل “تحديات كبيرة في المالية العامة”. لكنه شدد على وجوب “أن نسعى ونستمر في السعي للوصول إلى استدامة على مدى طويل جداً”.
تفاؤل بالنمو الاقتصادي
في ظل بيئة تتسم بعدم اليقين، تتبنى المملكة سياسة تجمع بين الاستثمار في النمو طويل الأجل، والتحوط ضد المخاطر قصير ومتوسطة الأجل.
تتوقع تقديرات الميزانية أن يحقق الاقتصاد السعودي نمواً حقيقياً نسبته 4.6% في عام 2026، مدفوعاً بنمو قوي في الأنشطة غير النفطية بنسبة 4.8%، في استمرار لمسار التنويع الاقتصادي الذي تتبنها المملكة منذ انطلاق رؤية 2030.
ويأتي ذلك في ظل أداء إيجابي سجل خلال العام الجاري تمثل في انخفاض معدل البطالة إلى 6.8%، وتدفق الاستثمار الأجنبي المباشر، وتحسن ميزان المدفوعات.
التوقعات السعودية للنمو في العام المقبل تفوق تقديرات صندوق النقد الدولي الذي رأى في أحدث توقعاته الصادرة في أكتوبر الماضي أن الاقتصاد السعودي سيسجل نمواً خلال عامي 2025 و2026 يبلغ 4%، بينما كانت تقديراته السابقة تقف عند معدلات أقل من ذلك.
اقرأ: صندوق النقد يرفع توقعاته لنمو اقتصاد السعودية للمرة الثانية توالياً
هذه الأرقام تستخدم رسمياً كدليل على فعالية الإصلاحات المرتبطة برؤية 2030، لكنها في الوقت ذاته تأتي وسط تراجع الإيرادات النفطية الذي دفع الحكومة إلى خفض توقعاتها للإيرادات العامة بنسبة 13.3% في عام 2025.
عجز مقصود لتنشيط الاقتصاد
رغم تبني سياسة مالية توسعية في عدد من القطاعات الحيوية، تتوقع الميزانية تسجيل عجز مالي قدره 165 ملياري ريال عام 2026، أي ما يعادل 3.3% من الناتج المحلي الإجمالي، لكنه أقل من العجز المتوقع لعام 2025 البالغ 245 مليار ريال.
حسب توقعات وزارة المالية فإن ميزانية السعودية ستسجل عجزاً لأربع سنوات متتالية من 2025 حتى 2028.
وأكدت الوزارة في بيان أن “العجز في 2026 استمرارٌ لنهج الإنفاق التوسعي المعاكس للدورة الاقتصادية الهادف إلى دعم النمو وتحفيز الاستثمار بهدف التوسع في المشاريع التحولية وتحقيق مستهدفات رؤية 2030”.
ووفقاً للوزارة، سيدار هذا العجز من خلال أدوات تمويلية متنوعة ضمن إطار استراتيجية الدين متوسطة المدى، بما يضمن الاستفادة من الأوضاع المواتية في أسواق الدين، المحلية والدولية، مع الحفاظ على مستويات دين مقبولة عند حدود 32.7% من الناتج المحلي.
وقال وزير المالية محمد الجدعان في المؤتمر: “سنستدين بمستوى العجز، إضافة إلى أي إعادة تمويل ديون ستستحق خلال العام 2026”.
وترى المملكة أن تعزيز الإنفاق الاستثماري وخاصة على المشروعات الكبرى يحقق عائداً اقتصادياً على المديين المتوسط والبعيد يفوق كلفة الاستدانة.
اقرأ المزيد: وزير مالية السعودية لـ”الشرق”: العائد الاقتصادي لعجز الميزانية يفوق كلفة الاستدانة
وعلى الرغم من وجود ودائع احتياطية للحكومة لدى البنك المركزي قدرها 390 مليار ريال حالياً، شدد الجدعان “لن نسحب من هذه الاحتياطيات فهي أحد مصادر قوة المالية العامة”. ولفت إلى أن مستوى ديون السعودية أقل مقارنة بدول مجموعة العشرين. و”لا يزال العائد على هذا الدين (مردوده على الاقتصاد) مرتفع من خلال ما نشاهده من نمو الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي وكذلك نمو الإيرادات غير النفطية. وبالتالي سنحافظ على الاحتياطيات بنفس المستوى.”
الإيرادات والنفقات
الميزانية المعتمدة قدّرت إيرادات المملكة خلال 2026 بقيمة 1.15 تريليون ريال، وهي نفس توقعات البيان التمهيدي، لكنها أقل من التقديرات السابقة التي كانت تشير إلى إيرادات عند 1.2 تريليون ريال. في انعكاس لإمكانية تراجع عائدات النفط بسبب هبوط الأسعار، وسط تراجع سعر مزيج برنت بنحو 10% هذا العام إلى حدود 68 دولاراً للبرميل. بينما جاءت تقديرات النفقات عند 1.31 تريليون أعلى بشكل طفيف من تقديرات نوفمبر البالغة 1.29 تريليون ريال.
أوجه الإنفاق العام
أوضحت وزارة المالية أوجه الإنفاق في الميزانية، حيث من المتوقع أن يبلغ الإنفاق العسكري 240 مليار ريال في 2026 مقارنة بـ239 مليار ريال في 2025 بنمو طفيف نسبته 0.3%.
كما يرتفع الإنفاق على قطاع التعليم 1.5% خلال 2026 مقارنة بعام 2025 ليبلغ 202 مليار ريال في 2026 مقارنة بـ199 مليار ريال في 2025.
وتبلغ النفقات على قطاع الصحة والتنمية الاجتماعية 259 مليار ريال، أما الإنفاق الرأسمالي في 2026 فيضل عند 162 مليار ريال مقارنة بـ172 مليار ريال في 2025، بينما سيتراجع الإنفاق على قطاع الصحة والتنمية الاجتماعية في 2026 مقارنة في 2025 بنسبة 3.5% إلى 259 مليار ريال، كما من المتوقع أن يتراجع الإنفاق على قطاع الخدمات البلدية بنسبة 21% ليبلغ 72 مليار ريال.
المصدر : الشرق بلومبرج
