يبدو أن بكين تكتشف أن التشجيع على الإنجاب أصعب من كبحه

يبدو أن بكين تكتشف أن التشجيع على الإنجاب أصعب من كبحه

في عصر يوم خريفي في بانجيهوا، وهي مركز لصناعة الفولاذ في جبال جنوب غرب الصين، وقف سبعة أزواج أمام حشد من المتفرجين في “حفل زفاف جماعي” ترعاه الدولة.

جلس حوالي 200 شخص، معظمهم من المتقاعدين والأطفال، على صفوف من الكراسي البلاستيكية الزرقاء، يصفقون كلما تبادل زوجان عهود زواجهما أو جدّدوها. نظّمت الحكومة المحلية هذا الحفل لتعزيز ما تسميه بكين الموقف الصحيح تجاه الأسرة والإنجاب. وتعهد الأزواج بأن يحب أحدهما الآخر وأن يكرموا والديهم وأن ينشئوا أطفالاً.

بالنسبة للقيادة الصينية، أصبح الزواج أولوية وطنية بعد انخفاض قياسي في حفلات الزفاف بنسبة 21% العام الماضي. يولد معظم الأطفال لأزواج متزوجين، وعادةً ما يحتاج الآباء إلى شهادة زواج لتسجيل أطفالهم في الخدمات العامة. إن تنظيم حفلات زفاف جماعية واحدة من تجارب صغيرة كثيرة في جميع أنحاء البلاد، التي تهدف إلى مواجهة تحدٍّ مُلحّ يواجه الحزب الشيوعي الصيني: إقناع المواطنين بإنجاب مزيد من الأطفال.

لا زيادة في عدد الصينيين بعد تسجيل أقل ولادات منذ 1950

انخفض عدد سكان الصين لثلاث سنوات متتالية. حتى زيادة الولادات الصغيرة خلال عام التنين الميمون الذي تزامن مع 2024 لم تُغيّر الوضع؛ إذ ما يزال عدد المواليد ثاني أقل عدد منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949.

حتى مع ازدياد القوة الجيوسياسية للصين بفضل قطاعها الصناعي المتفوق عالمياً، أصبحت التركيبة السكانية -التي كانت أساس نهضة البلاد- إحدى أكبر نقاط ضعفها. يُتوقع أن تنخفض نسبة الأفراد في سن العمل إلى من تزيد أعمارهم عن 65 عاماً (التي تبلغ حالياً حوالي 4 إلى 1) إلى النصف في أقل من عقدين.

كل شيء يتأثر بأزمة عدد السكان

يُهدد انكماش القوى العاملة وشيخوخة المجتمع كل شيء، من طلب المستهلكين إلى الجاهزية العسكرية. ويعتمد النمو الاقتصادي والطموحات العالمية، بل وحتى الاستقرار الاجتماعي، على مدى إمكانية إغراء مزيد من الأزواج الصينيين بإنجاب أطفال.

على مرّ عقود، أبقت سياسة الطفل الواحد السكان تحت سيطرة مشددة. طبّقها المسؤولون المحليون بمزيج من الدعاية والغرامات الباهظة وعمليات التعقيم، وفي بعض الحالات، الإجهاض القسري. 

خُفّفت هذه السياسة رسمياً في عام 2016 عبر السماح بطفلين لكل أسرة، ثم خُفّفت أكثر في عام 2021 للسماح بثلاثة أطفال. وبرغم من قبضة الرئيس شي جين بينغ القوية على السلطة، إلا أن حكومته تكافح لإقناع المواطنين الصينيين بالإنجاب.

تركيبة الصين السكانية مؤشر على انحسار لا على هيمنة

كانت بانجيهوا أول مدينة في الصين تُجرّب الإعانات المؤيدة للإنجاب، حيث تُقدّم مكافآت نقدية لتشجيع الأزواج على الإنجاب. منذ عام 2021، تُقدّم السلطات المحلية للعائلات 500 يوان (حوالي 70 دولاراً) شهرياً لكل طفل ثانٍ وثالث دون سن الثالثة.

شهد معدل المواليد في المدينة، الذي كان متأخراً لفترة طويلة عن المتوسط ​​الوطني، ارتفاعاً طفيفاً في عام 2023 قبل أن ينخفض ​​مجدداً. ربما كان للدعم أيضاً أثر جانبي ملحوظ: فقد نما إنفاق المستهلكين في بانجيهوا بوتيرة أسرع من المتوسط ​​الوطني، ما وسّع الفجوة في نمو مبيعات التجزئة منذ بدء البرنامج.

رفضت حكومة مدينة بانجيهوا إجراء مقابلة. ولم تستجب اللجنة الوطنية للصحة في الصين، وهي الهيئة المسؤولة عن سياسات السكان، لطلبات التعليق.

تحول في السياسة يفرضه تراجع الولادات

هذا العام، أطلقت الحكومة المركزية نسخة وطنية من هذه السياسة، فقد منحت الأزواج حوالي 500 دولار سنوياً لكل طفل دون سن الثالثة وُلد في أو بعد 1 يناير 2025. تُعدّ هذه المدفوعات متواضعة، لكنها تمثّل تحوّلاً ملحوظاً، نظراً لأن بكين قاومت لفترة طويلة تقديم مساعدات نقدية مباشرة لفئات أخرى غير الفقراء.

قال إرنان كوي، المحلل في غافيكال دراغونوميكس: “الإنجاز هو أن دعم المواليد هو المرة الأولى التي تُنشئ فيها السلطات قناة لتحويل الدخل إلى الأسر بغض النظر عن وضع دخلها”. هذا يهيئ سيناريو جديد لمزيد من المساعدات النقدية في المستقبل، ويظهر استعداداً أكبر لدعم الاستهلاك بشكل مباشر.

مع ذلك، لا يلتفت كثير من الآباء إلى عرض المال، إذ أن الصين واحدةً من أغلى الدول من حيث تكلفة تربية الأطفال، وفقاً لتقريرٍ صدر عام 2024 عن معهد يووا لأبحاث السكان في بكين. وقدّر الباحثون تكلفة تربية طفلٍ واحدٍ حتى سن 18 عاماً في الصين بـ538 ألف يوان.

هذا يُعادل أكثر من ستة أضعاف نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. في الولايات المتحدة، تبلغ النسبة المُقارنة 4 إلى 1، وفي أستراليا 2 إلى 1.

الصين تطالب الشعب بزيادة الإنجاب بعد عقود من سياسة الطفل الواحد

تساءلت يانغ، 27 عاماً، وهي ممرضة تنتظر مولودها الأول وقد طلبت عدم ذكر اسمها الكامل لأسباب تتعلق بالخصوصية: “لا أستطيع تحمل تكلفة إنجاب طفلٍ واحد، فلماذا أُنجب طفلًا ثانياً؟” تركت يانغ عملها في بانجيهوا بعد حملها، بسبب تكرار متطلبات العمل ليلاً.

كما تطرقت إلى عدم مرونة فحوصات ما قبل الولادة. وتقول إنه لو لم تكن الظروف المالية عائقاً، لرغبت في إنجاب طفلين أو ثلاثة.

كانت بانجيهوا رمزاً للطموح الصناعي للصين. في ستينيات القرن الماضي، كانت جزءاً من برنامج ماو تسي تونغ المسمى “بناء الجبهة الثالثة”، الذي سعى إلى نقل المنشآت الصناعية والعسكرية الحيوية من المناطق المكتظة بالسكان إلى المناطق النائية الغربية للبلاد، مدفوعاً بمخاوف الحرب الباردة من هجوم نووي. تدفق عشرات الآلاف من العمال إلى المنطقة الجبلية للبناء والعمل في مصانع الصلب.

“مجتمع صديق للخصوبة”

أغلقت معظم هذه المصانع أو خفضت إنتاجها. وانتقل كثير من أبناء العمال إلى أماكن أخرى، ويتزايد عدد سكان المدينة. ويحاول المسؤولون جذب الشباب للعودة بحوافز تشمل، إلى جانب مكافآت المواليد الجدد، خصومات على السكن للعائلات التي لديها عدة أطفال، وإجازة أمومة وأبوة ممتدة، ودعماً لفحوصات ما قبل الولادة والمساعدة على الإنجاب- وهي سابقة أخرى في الصين.

على المستوى الوطني، أطلقت الحكومة حملة شاملة لتعزيز “مجتمع صديق للخصوبة”. تُصوّر اللوحات الإعلانية والتماثيل عائلات كبيرة وسعيدة. في بعض الأماكن، يستشهد المسؤولون بدراسات تشير إلى أن الأمومة يمكن أن تجعل المرأة أكثر ذكاءً وصحة، وهو ادعاء أثار استياءً أكثر من تحفيزه للحماس.

تواجه هذه الجهود تحولات مجتمعية أعمق. فالشباب الصينيون يتزوجون متأخراً أو لا يتزوجون مطلقاً. وقد نشأ كثير منهم كأطفال وحيدين، في عائلات سخّرت مواردها لتعليمهم ولوظائفهم. والآن، في ظل التباطؤ الاقتصادي وصعوبة سوق العمل، يختار مزيد منهم تأجيل الزواج والأبوة. ويبتعد آخرون عن ثقافة البلاد الأبوية وتوقعاتها المحافظة للأدوار المنزلية التقليدية للمرأة.

داخل متجر لمستلزمات الأمومة في بانجيهوا، تُكدّس تانغ بينغ زجاجات مشروبات رياضية في ثلاجة صغيرة. تقول الأم البالغة من العمر 36 عاماً، وهي أم لطفلين، إنها لاحظت اختلافات ملحوظة بين الأجيال. وتضيف: “بالنسبة لمن ولدوا في السبعينيات والثمانينيات، كنا أكثر تحفظاً. أما الآن، فالناس يعيشون لأنفسهم، لا لغيرهم”.

تعمل تانغ باستمرار منذ ولادة طفلها الأول، الذي أصبح الآن مراهقاً. وتقول: “أنا متعبة جداً، وهذا برغم أن زوجي يتولى كل أعمال الطبخ والغسيل، بما في ذلك غسل الجوارب”. وتضيف أن الجيل الأصغر سناً، من النساء والرجال، لا يريد هذا النوع من المشقة.

مكتب الإحصاء: عدد سكان أميركا سيبدأ بالانكماش في 2100

تتجاوز التحديات مجرد المال أو مجرد الرغبة في حياة أكثر راحة. أصبح العثور على وظائف أصعب والترقيات أقل. لقد تضاءل الاعتقاد بأن مستويات المعيشة ستستمر في الارتفاع- وهو وعد غذّى سنوات الازدهار في الصين.

قالت إيما زانغ، الأستاذة المساعدة في علم الاجتماع بجامعة ييل: “مع تباطؤ التنمية الاقتصادية في الصين، أصبح صعباً بشكل متزايد على الشباب تحقيق الترقي الاجتماعي”. هذا التشاؤم الثقافي هو السبب الجذري لعدم إعطاء الأجيال الشابة الأولوية للأبوة والأمومة. فهم لا يريدون مزيداً من المسؤوليات المضافة إلى حياتهم المرهقة أصلاً.

لقد بات هذا الشعور بخيبة الأمل سمةً لثقافة الصين، إذ إن حركة “الاستلقاء على الأرض” تحتفي بالقيام بأقل قدر ممكن؛ بينما يمزح آخرون حول كونهم “فئراناً” عالقين في أدنى درجات السلم الاجتماعي، راضين بالبقاء بعيداً عن سباق المجتمع تماماً.

قال زانغ: “قد تؤدي تربية الأطفال إلى تراجع في الدخل أو فقدان للدخل. إذا شعر الشباب بانعدام الأمل في حياتهم أو في المجتمع، فإن إنجاب الأطفال قد لا يكون بمثابة إنجاز بل عبء”.

كان الأزواج السبعة في بانجيهوا، وهم يبتسمون للكاميرات بعدما تبادلوا عهوداً متطابقة، بمثابة تذكير بأن هذا البلد ما تزال حكومته تحاول تشكيل أكثر جوانب الحياة حميمية. ومع ذلك، تجد نفسها منعزلةً بشكل متزايد عنهم.

المصدر : الشرق بلومبرج