يبرع الفنانون المشاركون في مهرجان الفنون الإسلامية في دورته السادسة والعشرين المنعقدة تحت عنوان «سراج»، في اختبار البعد الإيماني والروحي لمفاهيم الإسلام، من خلال أعمال غاية في الدهشة، وتكاد هذه المشاركات ترتكز في مجملها على فكرة الضوء، واستشفاف هذه الطاقة الكونية، أو النورانية، في أعمال معاصرة تستخدم الزخارف والمواد والتركيبات والألوان المختلفة، حيث تمزج بين الأساليب التقليدية والمعاصرة، بهدف البحث عن الكمال اللامتناهي لله، سبحانه وتعالى، والوحدة الكونية.
هذه الابتكارات الفنية المشاركة في المعرض، تظهر تصوّرات فنية وجمالية جديدة، تحقق مجموعة من الشروط، من بينها تحفيز المشاهد على أن يكون جزءاً من هذه التجربة الفنية والجمالية في بعدها الروحي، ومن بين هذه الأعمال «معابر مضيئة.. الأركان الخمسة»، للفنانة البريطانية رومينا خانوم، وهو عبارة عن رحلة مجازية عبر الإيمان، باستلهام فكرة السراج الذي وظفته الفنانة بوصفه رمزاً عريقاً للاهتداء، والإيمان، والتأمل.
استخدمت الفنانة خمسة ألواح ملونة من الأكريليك، نحتت بدقة متناهية من خلال الليزر، وزينت بنقوش هندسية إسلامية، حيث يمثل كل لوح منها إحدى الصلوات الخمس، ووضعت هذه الألواح في ترتيب خطي يرشّح الضوء الطبيعي نهاراً في الأوقات المحدّدة للصلاة.
*ظلال نابضة
اشتغلت الفنانة في هذا العمل على فكرة اختراق ضوء الشمس للنقوش الزخرفية في الألواح، وهذا الاختراق يلقي بظلال نابضة بالحركة والحياة، تنعكس أمام الألواح بألوانها المختلفة، والتي تتغيّر بتغيّر أوقات الصلاة، فيحاكي وميضها وميض السراج التقليدي، وهذا يستدعي لحظات من التأمل والصمت في وعي المشاهد. وحين يخفت الضوء في الليل، فإن الإضاءة الداخلية في الألواح تحول هذا العمل الفني إلى ممر متوهّج بالعبادة، ويفيض بدلالاته الروحية والإيمانية.
اشتغلت الفنانة رومينا في هذا العمل على فكرة الهندسة البصرية، وهي فرع من فروع علم الهندسة الذي يتعامل مع الظواهر والتقنيات المتعلقة بالضوء، مثل توليده، ومعالجته، ونقله واكتشافه، أي أنه علم يعنى بدراسة سلوك الضوء على أنه أشعة تنتقل في خطوط مستقيمة، وتتبع قوانين الانعكاس والانكسار عند انتقالها بين وسطين مختلفين. وتشير رومينا إلى أنها صممت عملها هذا، من عمق التقاليد الفنية الإسلامية، فهي لا تنظر إلى الضوء والهندسة بوصفهما مجرد زينة بصرية ليس إلّا، بل باعتبارهما تعبيراً متجسداً عن الروحانية الخالصة، حيث يقدم عملها تفسيراً معاصراً لقداسة الزمان والمكان، ما يشجع المتلقي على التفاعل العميق مع طقوس الصلاة، واستبطان النور كحضور، مقدس وسامٍ.
*منارة
الفنانة الإماراتية سلمى المنصوري، تشارك في المهرجان بعمل نحتي عنوانه «منارة»، وإضافة إلى الوظيفة الدينية للمنارة، فإن لها وظيفة رمزية واجتماعية وثقافية وسياسية، فهي تشهد على قوة الإسلام وتأثيره، وتعمل كمعلَم بصري يميز المباني الإسلامية عن غيرها في محيطها.
وقد استلهمت سلمى هذه الأفكار المتعلقة بالمنارة باستخدام هذا العمل النحتي المعاصر لتعيد من خلاله تصور الزخارف الإسلامية التي خبت ملامحها في العمارة الإسلامية لمدينة «غياثي»، الواقعة في إمارة أبوظبي، سعياً منها لتسليط الضوء على البعد الإسلامي في هذه المدينة، هذا البعد الذي يظهر جلياً في كونها جزءاً من مجتمع إماراتي له جذور ثقافية إسلامية عميقة، وتتجلى هذه الجوانب في ارتباط المكان بالعادات والتقاليد المحلية التي ترتكز على القيم الإسلامية، وثانياً لكون مدينة «غياثي» تعتبر مركزاً تاريخياً يضم مجتمعاً له جذور إسلامية قديمة.
استلهمت سلمى المنصوري فكرة المئذنة ووهج السراج التقليدي، لكي تحفز المشاهد على تأمل رموز الهداية، والنور، واليقظة الروحية، على الرغم من طغيان مظاهر العصر الحديث.
ويجسد عمل «منارة» نصباً تذكارياً حديثاً، أو حاضنة مضاءة بالذاكرة تكرّم تراث مدينة «غياثي»، وتستلهم جماليات زخارفها التي كانت يوماً جوهراً لهوية المدينة، والعمل النحتي هذا يقدم مشهداً بصرياً في تباين هادئ مع مظاهر التحضر، وهو بمثابة إيماءة رشيقة نحو استمرارية ثقافية لا تنقطع.
ويدعو «منارة» الذي صمم كأنه سراج يشق عتمة الطريق، المشاهد إلى التأمل في المكان، والذاكرة، والزمان، بل هو يغدو بمثابة عتبة بيت الماضي والحاضر، وهو يذكّر بالضرورة بأن النور الكامن في الروح سوف يبقى حياً، على الرغم من تغيّر المشهد من حوله، كما أن اشتغال الفنانة على فكرة المنارة هو بحد ذاتها فكرة تؤدي وظيفة دينية، ورمزية ملموسة تشير لقوة الإسلام، وتعد دليلاً واضحاً على وجوده في كثير من المدن، والحواضر، والأمكنة التي عاشت عصوراً مختلفة، وهي بهذا الوعي تقدم معلماً بصرياً مميزاً، بما فيه من رمزية دينية في الذاكرة الإسلامية التي لا يمكن تجاوز وظيفتها الروحية على مدار التاريخ.
وفي كلا العملين «معابر مضيئة»، و«منارة»، كان السراج حاضراً بمعناه الرمزي والملموس.
فالمعنى الملموس للسراج، هو ما تدركه الحواس، وهو يعني الضوء في أشكاله المختلفة، مثل ضوء الشمس، أو القمر، وهو حاضر في حياتنا اليومية بمعناه المادي، كالمصباح الذي يستخدم لإضاءة الطريق. وهو يدعو المشاهد في كل أحواله إلى استشفاف رمزيته الروحية، الرمزية التي تتلخص في النور والمعرفة، وبوصفه أيضاً يمثل الهدي الإلهي، وهذه السياقات الروحية التي يمكن استشفافها من السراج، هي دليل للحياة الروحية التي لا بد لها أن تسطع في وعي المشاهد، وتدلّه على ذلك الطريق المرصوف برموز الإيمان والمعرفة التي تكشف ما بداخل النفس من شرارة نورانية، تضيء على ما أخفته تبدلات الزمان والمكان.
المصدر : صحيفة الخليج
