بعد خفض أسعار الفائدة بأكثر من نقطة مئوية، بات مسؤولو بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي يتساءلون عن ما هو المستوى الذي عليهم التوقف عنده، كما ظهر لهم تزايد الخلافات أكثر من أي وقت مضى.
خلال العام الماضي، أو نحو ذلك، سجلت تقديرات مآل أسعار الفائدة في النهاية أكبر تباين منذ 2012 على الأقل، عندما بدأ مسؤولو البنك المركزي الأميركي نشر توقعاتهم، ما غذى انقساماً علنياً غير معتاد بشأن إجراء خفض آخر الأسبوع المقبل، وما سيحدث بعد ذلك.
أقر رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول بـ”التباين الشديد في الآراء” على مستوى لجنة السياسة النقدية بشأن أي من هدفيها، استقرار الأسعار والوصول إلى الحد الأقصى من التوظيف، يجب أن يُعطى الأولوية. وتلخص الأمر في سؤال عما إذا كان الاقتصاد يحتاج إلى دفعة إضافية لدعم أسواق العمل، وهل كان على صناع السياسة النقدية إبطاء وتيرة التحفيز مع تجاوز التضخم المعدل المستهدف، واحتمال أن تؤدي الرسوم الجمركية إلى ارتفاعه.
لكن هذا يطرح سؤالاً آخر، وإن كان أكثر تجريداً لكنه ذو أهمية متزايدة للنقاش بأكمله: ما سعر الفائدة الذي لن يحفز الاقتصاد ولن يضغط عليه؟ هذه هي نقطة النهاية المفترضة لدورة التيسير النقدي، وتُعرف أيضاً باسم “سعر الفائدة المحايد”، ويواجه مسؤولو الاحتياطي الفيدرالي حالياً بشكل جماعي صعوبة في تحديد مستواه.
اقرأ أيضاً: ترمب سيعلن عن رئيس جديد للاحتياطي الفيدرالي أوائل 2026
تزايد التباين في توقعات سعر الفائدة المحايد
كانت المرة الماضية التي نشر فيها مسؤولو البنك توقعاتهم في سبتمبر، وقدم فيها 19 مسؤولاً 11 توقعاً مختلفاً، تتراوح ما بين 2.6% و3.9%، علماً بأن الأخير يقارب مستوى أسعار الفائدة حالياً.
قال ستيفن ستانلي، كبير محللي الاقتصاد الأميركي لدى “سانتاندير” (Santander): “هناك اختلاف شديد في الآراء. هناك خلاف بدرجة ما في هذا الشأن، إلا أن نطاقه اتسع في الفترة الحالية”.
اقرأ أيضاً: محضر “الفيدرالي”: العديد من مسؤولي السياسة النقدية يميلون لإبقاء الفائدة في ديسمبر
كما يرى ستانلي تزايد أهمية التقديرات، مع بلوغ سعر الفائدة الرئيسي في الاحتياطي الفيدرالي إلى الحد الأعلى من نطاق التوقعات، وأضاف قائلاً: “بدأ الأمر يتحول إلى قيد ملزم محتمل لعدد من أعضاء الاحتياطي الفيدرالي الأكثر ميلاً للتشديد النقدي. وهذا بالتأكيد يعني تزايد صعوبة كل خفض لاحق مرة تلو الأخرى”.
يتأكد كل ذلك في بعض تصريحات مسؤولي البنك المركزي في الآونة الأخيرة، فقد أوضحت رئيسة الاحتياطي الفيدرالي في فيلادلفيا آنا بولسون، في 20 نوفمبر كيف دفعتها المخاطر المزدوجة المتمثلة في ارتفاع معدلي التضخم والبطالة، مع اقترانها باحتمال اقتراب أسعار الفائدة من المستوى المحايد بالفعل، إلى توخي الحذر قبيل اجتماع ديسمبر.
وقالت: “يتعين أن توازن السياسة النقدية بدقة بين الهدفين، فكل خفض لأسعار الفائدة يقربنا إلى المستوى الذي قد تتحول فيه السياسة من كبح النشاط الاقتصادي بقدر ما إلى البدء في إعطائه دفعة”.
جدل حول سعر الفائدة المحايد
يُعرف سعر الفائدة المحايد أيضاً باسم “آر ستار” (r-star)، بناءً على الرمز الرياضي المستخدم للتعبير عنه في النماذج، أو سعر الفائدة الطبيعي، ولا يمكن رصده مباشرةً، بل يُستنتج فقط. وقد أثار خلافاً شديداً لأكثر من قرن، وتساءل عدد من الاقتصاديين، من بينهم جون ماينارد كينز، عما إذا كان يشكل أداة مفيدة في الأساس، لكن قلة من مديري البنوك المركزية المعاصرين يتفقون مع ذلك الرأي.
تشكل هذه الفكرة “صميم النظرية النقدية وتطبيقها”، بحسب رئيس الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك جون وليامز، المتخصص في هذا الموضوع. وأشار إلى أن إخفاق صناع السياسة النقدية في تحديد التغيرات في المستويات الطبيعية أو المحايدة لأسعار الفائدة والبطالة قد يكون له عواقب وخيمة، مستشهداً بارتفاع توقعات التضخم خلال الستينيات والسبعينيات.
اقرأ أيضاً: مخطط النقاط: كيف يستشرف الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة؟
ويُنظر إلى أسعار الفائدة المحايدة على نطاق واسع على أنها مدفوعة بالتحولات طويلة المدى في عوامل مثل التركيبة السكانية، والتكنولوجيا، والإنتاجية، وأعباء الديون، وكلها تؤثر على أنماط الادخار والاستثمار.
حليف ترمب في “الفيدرالي” يدعو لخفض الفائدة
إضافة إلى عدم التوافق على التقديرات الحالية في الاحتياطي الفيدرالي، هناك خلاف أيضاً على اتجاهها.
فيتوقع رئيس الاحتياطي الفيدرالي في مينيابوليس، نيل كاشكاري، أن يؤدي تبني الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع إلى نمو الإنتاجية بوتيرة أسرع، ما سيرفع سعر الفائدة المحايد مع ارتفاع الطلب على رأس المال بفعل فرص الاستثمار الجديدة.
أما عضو مجلس محافظي الاحتياطي الفيدرالي ستيفن ميران، الذي عيّنه الرئيس دونالد ترمب في البنك المركزي في الآونة الأخيرة، فأشار إلى أن السياسات الحالية يجب أن تؤدي دوراً أيضاً في النقاش.
وفي أول خطاب عن السياسة النقدية بعد انضمامه إلى الاحتياطي الفيدرالي، ساق ميران حججاً على أن ما أقره ترمب من رسوم جمركية، وقيود على الهجرة، وتخفيضات ضريبية، كلها عوامل تضافرت لخفض سعر الفائدة المحايد، وإن كان مؤقتاً فقط، لذا، يجب على الاحتياطي الفيدرالي تيسير السياسة النقدية بشكل كبير تجنباً للإضرار بالاقتصاد.
من جهته، أعرب وليامز الشهر الماضي عن شكوكه في السماح بإدخال التغيرات قصيرة الأجل في التقديرات، مشيراً إلى أن الاتجاهات العالمية، مثل شيخوخة السكان، تبقي تقديرات سعر الفائدة المحايد عند مستويات منخفضة من الناحية التاريخية.
“الفيدرالي” يستعد لإدارة جديدة العام المقبل
لعقد أو نحو ذلك قبل الجائحة، عندما كان التضخم منخفضاً وأسعار الفائدة قرب الصفر، بدا أن صناع السياسة متفقون تقريباً على مستوى سعر الفائدة المحايد، لكن ارتفاع الأسعار منذ ذلك الحين، إلى جانب الضبابية المحيطة بالتجارة والهجرة، وتأثير الذكاء الاصطناعي على الاقتصاد، ترك عدداً من المحللين يتساءلون عما إذا كان تباين التقديرات هو الوضع الطبيعي الجديد.
اقرأ أيضاً: هاسيت الأوفر حظاً لتولي منصب رئيس الاحتياطي الفيدرالي
علاوة على ذلك، يستعد الاحتياطي الفيدرالي لتغيير إدارته في 2026، مع تعهد ترمب باختيار رئيس جديد يلتزم بخفض أسعار الفائدة، وقد تتاح للرئيس الأميركي فرصاً أخرى لتعيين حلفائه في البنك المركزي. ويُتوقع أن يدافع صُناع السياسة الجدد عن الأموال الرخيصة، كما يفعل ميران، وربما تشير تقديراتهم أيضاً إلى انخفاض سعر الفائدة المحايد في الفترة الحالية.
الأوضاع المالية تواصل دعم الاقتصاد الأميركي
رغم أن سعر الفائدة المحايد يمثل للاقتصاديين ما تمثله “المادة المظلمة” لعلماء الفلك؛ أي شيء لا يمكن رؤيته مباشرةً، يفضل بعض صناع السياسة النقدية الحكم عليه “من نتائجه”، وفق تعبير باول.
يشير رئيس الاحتياطي الفيدرالي في سانت لويس، ألبرتو موسالم، إلى أن تراجع معدلات التعثر يظهر أن الأوضاع المالية لا تزال تدعم الاقتصاد، أما نظيرته في الاحتياطي الفيدرالي في كليفلاند، بيث هاماك، فقالت إن تقلُص فوارق الائتمان يشير إلى أن السياسة النقدية “بالكاد متشددة، إن كانت في الأصل”.
رغم ذلك، فإن استخلاص المؤشرات من الأسواق المالية ليس مهمة سهلة، إذ إن بعض مسؤولي الاحتياطي الفيدرالي يعُدون عائد سندات الخزانة لأجل 10سنوات، الذي يحوم قرب 4%، دليلاً على أن الأوضاع المالية لا تكبح الاقتصاد، بينما يشير آخرون إلى أن تلك المؤشرات تعكس التوقعات بشأن مسار الاقتصاد، إلى جانب الطلب العالمي على الأصول الآمنة، ما يعني أن نفعها لا يُذكر عند محاولة تقدير أسعار الفائدة المحايدة.
قرارات السياسة النقدية تعتمد على البيانات الفعلية
في ظل الضبابية الكبيرة المحيطة بالتوقعات، يُستبعد أن تنتهي الخلافات حول سعر الفائدة المحايد عندما يكشف مسؤولو الاحتياطي الفيدرالي عن أحدث تقديراتهم الأسبوع المقبل.
اقرأ أيضاً: انشقاق داخل الفيدرالي الأميركي يهدد فرص خفض الفائدة في ديسمبر
في الوقت نفسه، فإن العوامل الملموسة، “بيانات سوق العمل وبيانات الأسعار”، هي التي ستقود قرارات السياسة النقدية الفعلية، بحسب باتريك هاركر، الذي شغل منصب رئيس الاحتياطي الفيدرالي في فيلادلفيا حتى تقاعده هذا العام.
وقال هاركر إن سعر الفائدة المحايد “يشكل أداة تحليلية مفيدة، لكنها مجرد أداة. إنها لا توجه قرارات السياسة النقدية”. وأضاف قائلاً: “لا أذكر قط حالة اجتمع فيها الجميع، وكان محور المحادثة بأكملها هو سؤال؛ ما سعر الفائدة المحايد؟”.
المصدر : الشرق بلومبرج
