بالتأويل أضحى المثقف أشد الفئات انتهازية، وأكثرها حماسة وثورية في الوقت نفسه. انظر إلى ما يجري من “اعترافات” المثقفين والفنانين الذين آزروا أو صمتوا عن جرائم نظام الأسد، وراقب كيف يلوون أعناق الحقائق، ويستدرجون الناس إلى الغفران عنهم، لأنهم لم يكن لهم حول ولا قوة.

التأويل يحول التراب إلى ذهب، والعكس صحيح. وكلما اشتدت سيطرتك على الكلمات زادت قدرتك على الكذب، وتفسيخ المعاني، وتحويل اتجاه الأفكار كيفما شئت، مثل خياط لديه متسع من القماش يفصله أنى شاء المريد. التأويل لم يقف عند حدود الشعر والأدب ونزعات التفلسف، بل غاص في متون الكتب المقدسة، وراح ينتقي منها ما أرادته السلطة، وما يخدم هيمنتها، سواء كانت سلطة دينية أم سياسية أم اجتماعية. ولعل نظرة فاحصة إلى التاريخ سترد الحرب جلها إلى التأويل، لا سيما إذا كان معطوفاً على الرغبة والميل والهوى.

لم يتحرر الإنسان (إن هو تحرر حقاً) إلا عندما حاصر فاعلية التأويل وضيق نطاقاًتها، وسيطر عليها بأن جعلها علماً له أصوله ومحدداته ومعاييره، وهو ما أنتج تأويلاً وتأويلاً مضاداً، وهكذا في جدلية لا تنتهي. “اللهم اجعلني مفهوماً”. هذا أشد ما ينشده الكاتب الراغب في أن تصل أفكاره إلى الآخرين، كي لا يظل مثل عازف منفرد يتلو أحزانه في حانة معتمة.

كنا تحدثنا في المقالة السابقة عن “فن الإصغاء” (The Art Of Listening)، وها نحن هنا ننتقل إلى معضلة أشد وأمضى تتمثل في “فن الفهم” (The Art Of Understanding). وفي غمرة هذا التوق الجموح لأن يكون مفهوماً، ينهمك الكاتب في الإفصاح، ما أمكن، عن غاياته ومقاصده، فالأولوية، لديه، تمرير المعنى لا للشجار مع الناطور، لكن النواطير كثر وساهرون ليس على حراسة الكروم، وإنما على إفزاع الطيور.

والقراء، غير المهرة، هم الحراس المذعورون الذين يحسبون كل حركة تهديداً يستوجب التأهب، ولا يتركون لليل أن يسير على مهله. ثم إن القراء غير المهرة متطلبون، إذ يعتقدون أن الكاتب مغن في عرس، ويلبي ما يطلبه المستمعون على اختلاف أذواقهم، بل عليه أن يلبي! هؤلاء النفر من القراء يفتشون لا عن المعاني الظاهرة في النص، بل عن المقاصد الخفية والسرية في ذهن الكاتب، مستعيدين تاريخه واتجاهاته وميوله العقائدية، وماذا يعمل وأين، وإلى أية “كتيبة” يتبع، مع أن هذه العناصر و”البينات” لا تغني ولا تسمن من جوع. أمامك نص أيها القارئ الماهر، وعليك التواصل الخلاق معه، أو فدعه، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها!

هنا، نقف على مفترق طرق، القارئ الذي بنبش في لاوعي الكاتب كي يدينه ويصطاده، إنما يفعل ما فعله “دونكيشوت” مع طواحين الهواء، بينما القارئ الخلاق فيفتش في النص عما يغنيه، ولا أقول عما يرضيه، لأن الهدف هو إثارة الجدل، وتشغيل العقل، واستفزاز المخيلة، وإنعاش الذوق، وتنمية مهارة الاختلاف، ورمي متوال للحجارة في المياه الراكدة.

لكن الاختلاف، لا سيما في المجتمعات العربية، يتحول سريعاً إلى خلاف وشقاق ونزاع، فالقارئ، على الغالب، يقرأ بتصوراته المسبقة، أو يطالع برغائبه. هو يريدك أن تقول ما يؤمن به، وما يتطابق مع أفكاره، ويرغب، بصورة فظيعة، في أن يجرد الكاتب من أية مساحة ممكنة.

تحدثت الماركسية عن “ديكتاتورية البروليتاريا”، وهنا نشكو من “ديكتاتورية القراء” الذين يشاء بعضهم، لغاية في نفسه، أو سقم في فهمه، أن يتهم الكاتب بأنه يدس السم في الدسم، وأن هذه الكتابة المسمومة تخرج الكاتب، حكماً، من فضاء “المثقف العضوي” وتحيله إلى عميل للصهيونية!

معضلة فلسفية

وإن شئنا أن نرد هذه الإشكالية إلى جذرها الفلسفي العميق، فلا مندوحة أمامنا من اللجوء إلى “الهرمنيوطيقا”، وتحديداً ما يتصل بـ”الفهم”، إذ تصدى لهذه المعضلة فلاسفة كثر (دلتاي وهوسرل وهيدجر وجادامر وريكور…) بحثوا في النظرية التأويلية الحديثة، وكان شلايماخر، الفيلسوف المثالي اللاهوتي الألماني، في القرن الـ19، من ألمع من قبض على فكرة الفهم، ففي كل حوار يجري، فإن عملية صياغة قول ما وإصداره في كلمات هي شيء، وعملية تلقي هذا القول وفهمه هي شيء آخر مختلف ومتميز كلياً، والهرمنيوطيقا في رأي شلايرماخر إنما تنصب على العملية الثانية وحدها، عملية الفهم، إنها باختصار شديد: فن الفهم، بحسب كتاب “فهم الفهم: مدخل إلى الهرمنيوطيقا: نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر”، للكاتب عادل مصطفى.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

إذاً، في كل كتابة، ثمة طرفان (الكاتب والمتلقي). ومن الضروري، بل من الواجب، أن تنشأ بينهما علاقة حوارية، فالطرف المتحدث وهو من يشيد جملة لكي يعبر عن المعنى الذي لديه، والطرف المستمع وهو من يتلقى سلسلة مكونة من مجرد كلمات، ولكنه فجأة، ومن خلال عملية باطنة وسرية يمكنه أن يستشف معانيها، هذه العملية الباطنية الإشراقية هي عملية التأويل، إنها المجال الحقيقي للهرمنيوطيقا.

الإسهاب في تصورات شلايماخر عن الفهم وفنونه وشروطه تثير الشجون، وتؤسس لنظرية تستأهل النقاش حول عملية التلقي. والقارئ المثابر يتطلع، بالضرورة، إلى إثراء المحتوى، لا هدم المعبد، ويروم أن يشارك في عملية تخليق النص، لا إجهاضه، كما ينشد أن يبحث ويطرح الأسئلة، ولا يقدم، إجابات، فحسب.

الفهم عملية مضنية، ولعلها أكثر إرهاقاً من الكتابة نفسها. ويمكنني أن أتصور حال أبي تمام، وهو يرد على منتقديه المتسائلين المتشككين: لماذا تقول ما لا يفهم؟ مجيباً: لماذا لا تفهمون ما يقال؟ “اللهم اجعلني مفهوماً”!

نقلاً عن : اندبندنت عربية