“حلمت بأن أصبح طبيبة حتى اصطدمت بسؤال: هل بكرسيك المتحرك هذا ستصلين لتشكيل مغذي الدواء للمرضى؟ بكيت يومها كثيراً، لكنه لم يكن الموقف الأخير. حملت الجامعة كل ما هو مؤذ لي حتى كرهت الدراسة”.

كان على سارة (19 سنة) اسم وهمي، أن تعلم أن قانون الدولة العراقي يمنع ذوي الحاجات الخاصة من دراسة الطب والتخصصات العلمية، قبل أن تحاول، أكثر من سنة، من دون جدوى وبرفض قاطع. فقدت سارة قدرتها على السير بعد إصابة بالغة أثرت في حبلها الشوكي جراء انفجار سيارة مفخخة قريبة منها، وكانت تبلغ من العمر ثماني سنوات حينما قررت الحياة منحها كرسياً متحركاً. وتقول إن الأمل ساعدها على تخطي الخيبة واختيار قسم آخر بديل عن حلمها بالطب.

 

بصورة حذرة، تتجه سارة نحو الكافتيريا بكرسيها المتحرك. الأرض المتعرجة نتيجة إهمال إدامة الأرضية في جامعتها الحكومية سبب لها كثيراً من الآلام في ظهرها، “يقوم والدي كل يوم بحملي نحو الطابق الثالث على ظهره، ثم يعود لرفع الكرسي وإحضاره لي، لا وجود للمصعد، إنه خارج الخدمة منذ أعوام، ولم تخصص الجامعة أو وزارة التعليم أي موازنة لإصلاحه”.

ولا يملك والدا سارة الأموال الكافية لدخول جامعة أهلية “حتى الراتب المخصص لذوي الإعاقة الذي لا يتعدى ما يقارب 110 دولارات شهرياً لا يسد أي شيء”.

لا خدمات لذوي الإعاقة في العراق

إنها ليست مشكلة فردية وحسب، بل يواجه الطلبة من ذوي الحاجات الخاصة في العراق معاناة لا تنتهي، بدءاً بالقوانين القاسية والظالمة التي تفرض عليهم في أحيان كثيرة الاستغناء عن أحلامهم فقط بسبب حالتهم الجسدية، إلى الجامعات التي لا تمنحهم أبسط حقوقهم، لا سيما رصيف مخصص لهم، وصولاً إلى معاملة بعض الأساتذة التي لا تخلو من التمييز والعنصرية.

وأوضحت سارة أنها طالبت أساتذتها كثيراً من أجل حل أزمة المصعد، ولأجل والدها الذي تخطى الـ60 سنة، إذ أصيب هو بألم في فقراته، كما أصيبت هي بخلع في كتفها “هذه الحادثة أجبرتني على ترك الجامعة لفترة من الوقت، ثم عدت وأنا خائفة وأفكر بكل الإحراج الذي سيلاحقني، فلا يستطيع كل يوم الطلبة مساعدتي على حملي مع الكرسي، أحياناً أفضل انتظار والدي”.

 

وتقول أستاذة اللغة الإنجليزية في الجامعة المستنصرية فرح أبوالتمن “من أبرز التحديات التي يواجهها الطلبة من ذوي الإعاقة انعدام وجود وسائل مساعدة تمكنهم من التنقل بين الطوابق أو حتى تجاوز بضع درجات بسيطة، إضافة إلى افتقار الحرم الجامعي لمنحدرات تيسر حركتهم”، وتضيف “أرى أن جامعاتنا وبيئتنا بصورة عامة لا توفر الظروف المناسبة لهذه الفئة، ومع ذلك تطبق عليهم قوانين صارمة”.

ومن الضروري أن تكون هناك هيئة رعاية لذوي الحاجات الخاصة على شكل مديرية مستقلة في تمثيل هذه الفئة بعيداً من وزارة العمل والشؤون الاجتماعية. وترى أبوالتمن أن هؤلاء الطلبة ليس عددهم قليلاً، “وهم يتمتعون بذكاء وكفاءة عاليين ولكنهم، ومن خلال هذا التمييز، يتلاشون وينكمشون حول أنفسهم ويصبحون محبطين للغاية إذ يحاول بعضهم الظن أن ما يحصل له في الجامعة من إهمال أظلم بالقوانين، سيكون مجرد البداية نحو حياة ما بعد التخرج، وهذا ما يحدث غالباً”.

 

التوعية المطلوبة

وتشدد فرح أبوالتمن على أهمية التفات الكادر الإداري في وزارة التعليم العالي لدعم هذه الفئة التي تعد جزءاً لا يتجزأ من المجتمع، وتشير إلى أن توفير أبسط المتطلبات لا يستدعي مبالغ طائلة كالمصاعد أو المتحدرات وحتى المستلزمات التعليمية “لا أعتقد أن العقبات تقتصر على الموارد، بقدر ما تتعلق بمسألة نشر الوعي حول حاجات ذوي الإعاقة. من المهم تنظيم ورش عمل مكثفة تهدف إلى نشر ثقافة الوعي بحاجات هؤلاء الأشخاص، وكيفية توفير السبل الداعمة لوجودهم في بيئة تعليمية مناسبة، تسهم في دمجهم مع زملائهم، إنهم يعانون، ولا أحد حقاً يلتفت لأوجاعهم”.

وقد توفر الجامعات أحياناً الدعم النفسي للطلبة من ذوي الإعاقة، إلا أن ذلك ليس كافياً، كما ترى الأستاذة الجامعية “خصوصاً في ما يتعلق بالجوانب اللوجيستية، لضمان تهيئة بيئة تعليمية غير منحازة، وعلى الوزارة إشعار أن الطالب من ذوي الإعاقة ليس عالة، كما يتم التعامل معه”.

ولا توجد أرقام دقيقة حول عدد الطلبة من ذوي الحاجات الخاصة في العراق لكن الأمم المتحدة تشير، من دون تحديد الإحصاءات الدقيقة، إلى اعتبار العراق إحدى أكثر الدول التي تضم معوقين وفاقدي أطراف بسبب الإرهاب والحروب، مبينة أن خمسة في المئة من إجمالي السكان هم من ذوي الحاجات الخاصة.

وفي أحدث تصريح له أكد وزير العمل والشؤون الاجتماعية أحمد الأسدي، وجود أكثر من 4 ملايين شخص من ذوي الحاجات الخاصة، لم يتحدد من خلاله عدد الطلبة الجامعيين، لكن الوزارة نفسها، أطلقت، قبل شهرين، قراراً بشمول الطلبة، ممن لديهم نسبة عجز 70 في المئة، بالإعفاء من الأجور الدراسية في الجامعات العراقية.

 

كلية الفنون لا تقبل المبدعين

وبعد تعرضه لحادثة فقدان يده، واصل رضوان الخياط دراسته بصورة متقطعة، بين مراحل العلاج. وكانت رحلة قاسية، لكن العقبة الكبرى جاءت عندما طلب منه الحصول على موافقة خاصة للاختبار التقديمي، وهو أن يجرى الاختبار بطريقة شبه شفوية، إذ يجيب رضوان على الأسئلة، ويقوم مدرس مساعد بكتابة الإجابات في دفتر الاختبار، على رغم ألم يفقد يده الثانية وكان قادراً على الكتابة بها.

وكان حلم رضوان الكبير هو دراسة الإخراج في كلية الفنون الجميلة بجامعة بغداد، ويروي تجربته قائلاً “عندما تقدمت للكلية، قابلت الشخص المسؤول. كان متفاجئاً عند رؤيتي والإعاقة التي أعاني منها، لكنه صدم أكثر عندما علم أنني كنت أعمل في مجال الإخراج مسبقاً. الصدمة الكبرى كانت رد فعل المسؤول الذي قال لي: ليس لدينا معوقون في قسم الإخراج، ولا أريدك أن تكون عبئاً على القسم”.

يضيف رضوان، “اعترضت بشدة وحاولت مراسلة وزارة التعليم والمسؤولين، لكن لم أجد من يستمع أو يهتم. اعتبروني شخصاً طارئاً وأحلامي بعيدة من الواقع. أصبت بإحباط شديد بعدما تم تخطي حلمي وتجاهل كل جهودي”.

الرفض الذي واجهه الخياط لم يقف عند هذا الحد، فقد زرع في نفسه فكرة أن الفن يتطلب شخصاً “كاملاً” جسدياً، وأنه ربما لا مكان له في هذا المجال “شعرت أن الفن ليس مكاني”.

“درست الإعلام بعد فترة طويلة من التحديات، وكان الجميع يحذر مني في البداية. يرفض كثر حتى معاونتي، والسبب لأنني أدرس شيئاً بارعاً وأعمل فيه. لا أعلم ما الذي يجب أن أفعله من دون أن يدخل موضوع يدي المبتورة؟”، ويتابع رضوان أن وزارة التعليم العالي تخصص كل عام، مقعداً دراسياً واحداً لذوي الإعاقة في كل تخصص للدراسات العليا، وهذا ليس كافياً، مشيراً إلى أن هناك عشرات الأشخاص يتسابقون على هذا المقعد، وغالباً ما يتم استبعاد المتقدمين بسبب المحسوبيات التي تؤثر في عملية الاختيار، مما يحرم المستحقين من هذه الفرصة.

وقبل أيام قليلة، برزت قصة الطالبة في الجامعة المستنصرية طفوف حسين ومعاناتها كطالبة من ذوي الإعاقة. خرجت وهي تبكي بعدما رفض العاملون في المطار إنزالها من الطائرة إلى البوابة بسبب عدم دفعها 90 ألف دينار عراقي (ما يقارب 70 دولاراً) كرسوم لتأجير الكرسي المتحرك، على رغم تأكيد وزارة العمل على منحهم تأميناً صحياً مجانياً وتخفيضات على تذاكر السفر بنسبة 50 في المئة، لكن مثل هذه الحقوق لا تزال، كما يقول رضوان، غير مفعلة مطلقاً، ولا يستفيد منها المستحقون أبداً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أعوام من المطالبة بالحقوق

احتاج مصطفى محمد، ثلاثة أعوام من أجل استحصال الموافقات لدراسة الصيدلة. يرفض القانون العراقي دراسة ذوي الحاجات الخاصة التخصصات العلمية وتكون الأدبية هي المتاحة لهم فحسب، هذا الشيء الذي لم يتقبله مصطفى، لأنه لم يكن، بحسب قوله، يحمل ذنباً بتلقي رصاصة طائشة تجبره على الكرسي المتحرك طوال حياته.

ومن أهم العقبات التي واجهت مصطفى خلال مسيرته التعليمية تمثلت في عدم تهيئة المدارس والجامعة لتلبية حاجاته، ويلفت إلى أنه كان يضطر إلى العودة إلى المنزل ثم العودة مرة أخرى إلى الجامعة بسبب غياب دورات مياه مخصصة لذوي الإعاقة، “لم تكن هناك أي أدوات أو مستلزمات متاحة لي من المدرسة، وكان والدي هو من يشتري ويوفر كل ما أحتاجه، حتى إنه بنى منحدرات بنفسه لنزول السلالم”.

ويتحدث مصطفى أيضاً عن تجربته المريرة في الالتحاق بالجامعة، “بسبب التمييز الذي تعرضت له، تم حرماني من القبول في الكلية مدة ثلاثة أعوام، رغم حصولي على معدل عال يؤهلني للقبول في المجموعة الطبية وتحقيق طموحي في دراسة الصيدلة”.

حاول مصطفى خلال هذه الأعوام، ولم يترك مسؤولاً إلا ولجأ إليه “توسلت للحصول على حقي الذي هو في الأساس حق مشروع، لكن الجامعة كانت ترفض قبولي بحجة الحصول على كتاب استثناء باسمي، كي يحموا أنفسهم من المساءلة القانونية في حال رفضت الوزارة”.

يضيف، “للأسف، لم يكن هناك أي شيء مهيأ في الجامعة، لا ممرات، ولا دورات مياه مخصصة، ولا مصاعد كهربائية، كنت مستثنى من الأنشطة الرياضية، ولم توفر الجامعة أي مرافق أو تجهيزات خاصة بالطلبة من ذوي الحاجات الخاصة”.

بعضهم يترك الدراسة

يقول موفق الخفاجي مسؤول تجمع المعوقين في العراق “لا تزال البنى التحتية للمؤسسات التعليمية، سواء المدارس أو الجامعات، تفتقر إلى التسهيلات اللازمة لاستقبال ودمج ذوي الإعاقة. التحديات البيئية داخل هذه المؤسسات تجعل من الصعب على الطلاب ذوي الحاجات الخاصة مواصلة تعليمهم. بعضهم يترك الدراسة بسبب الصعوبات فعلياً”. ويضيف الخفاجي أن ذوي الإعاقة في حاجة ماسة إلى تأمين غرف في كل مدرسة وجامعة، تتوفر فيها أدوات ووسائل إيضاح مخصصة للتعليم الخاص بهم، “هذه الغرف يجب أن تكون مجهزة بأحدث التقنيات والتكنولوجيا التي تمكن هؤلاء الطلاب من التعلم على قدم المساواة مع زملائهم. بينما يشهد العالم خطوات متقدمة في تسخير الذكاء الاصطناعي لمساعدة وتمكين ذوي الإعاقة، يبقى نظام التعليم في العراق غير دامج بالدرجة المطلوبة ومخيباً. حتى المدارس الخاصة غالباً ما تكون عازلة، حيث يفصل الطلاب ذوو الحاجات الخاصة عن أقرانهم، مما يؤثر نفسياً وتربوياً ليهم”.

ويشير الخفاجي إلى أن “هذه العزلة داخل الفصول الدراسية لها أثر سلبي على نفوس الطلاب، إضافة إلى افتقار عديد من المدارس لأدوات ووسائل الإيضاح الضرورية للتربية الخاصة”.

وتحتفظ الحكومة العراقية بحصة خمسة في المئة للأشخاص ذوي الإعاقة في الوظائف الحكومية والقطاع العام، لكنها لا تمنحهم حتى أقل من واحد في المئة بحسب ما يقول مسؤول التجمع مضيفاً “غالباً ما نرى الشكاوى والتظلمات من ذوي الإعاقة وأهاليهم نتيجة ما يواجهون من عدم ترحيب بهم والتنمر الذي يتعرضون له من قبل زملائهم الطلاب، سواء في المدارس أو الجامعات. هذا التنمر يأتي نتيجة عدم الالتزام الجاد بالتعليمات التي تنص على المساواة، مما يتطلب حملات توعوية وتدريبية. حتى في الجامعات، نجد طلاباً على وشك التخرج يتنمرون على زملائهم من ذوي الإعاقة”، ويتابع “القوانين تبقى حبراً على ورق في ظل ضعف التشريعات وغياب التنفيذ الجاد، كما أن أدوات الرصد الخاصة بجودة التعليم ومدى التزام المؤسسات في حاجة إلى تطوير فعلي وفاعلية أكبر في التشخيص، وليس هناك ضحية سوى الطالب وحده”.

نقلاً عن : اندبندنت عربية