تتميز الإمارات بسعيها الريادي نحو استباق المستقبل، من خلال استثمارات ضخمة في التكنولوجيا والعلوم والتعليم، حتى باتت دولة الإمارات مرادفاً للتطوير السريع والرؤى الطموحة، لم تكتف فقط ببناء الأبراج، وإنما تسعى لبناء ما هو أعمق وأبقى، بناء «ثقافة المستقبل»، فالتنمية في مفهومها الإماراتي ليست محصورة في البنية التحتية أو الاقتصاد، بل تشمل الوعي الثقافي والمعرفي للمجتمع، ومن هنا جاء بناء متحف المستقبل في دبي ليكون رمزاً لفكر جديد يرى في الثقافة أداة لتشكيل الغد.
تحول المتحف منذ افتتاحه عام 2022، إلى أحد أبرز المعالم الثقافية في العالم، ليس لجمال تصميمه الهندسي وحده، بل لأنه يقدم مفهوم الثقافة في سياق تكنولوجي وإنساني متقدم، يمزج بين العلم والفن والفكر، ليقدم للزائر تجربة فريدة تتيح له أن يعيش المستقبل بكل حواسه.
رؤية
ما قدمته الإمارات من خلال متحف المستقبل يتجاوز المفهوم التقليدي للعرض المتحفي، إذ يسعى إلى ترسيخ ثقافة التفكير بالمستقبل كجزء أساسي من الهوية، فعندما تقول دبي، إنها «مدينة لا تعرف المستحيل»، فذلك ليس شعاراً إعلامياً، بل تعبير عملي عن رؤية مؤسسية تعتبر الثقافة محركاً للابتكار، وترى في الخيال العلمي وسيلة معرفية لصياغة واقع جديد.
يعد المتحف في جوهره مساحة حرة للأفكار، تتيح للإنسان التفاعل مع أحدث التقنيات، والتأمل في قضايا الذكاء الاصطناعي واستدامة الطاقة واستكشاف الفضاء وصناعة المدن الذكية، وهذه الموضوعات هي التي تشغل اليوم مراكز البحث العلمي والجامعات الكبرى، ليعيد المتحف تقديمها في صورة ثقافية تفاعلية تمكن الزائر من المشاركة في عملية التفكير والابتكار.
متحف المستقبل يعيد تعريف العلاقة بين الثقافة والعلم، ويهدم الحاجز القديم الذي كان يفصل بين الفن والمعرفة التقنية، ففي أروقته يلتقي الخيال الأدبي بالبرمجة، والتصميم بعلم البيانات، والعاطفة الإنسانية بالذكاء الاصطناعي، ومن خلال هذا الصرح الفريد، تقدم الإمارات للعالم رؤية ثقافية جديدة تؤكد أن الابتكار امتداد طبيعي للثقافة البشرية.
تصميم فريد
الحديث عن متحف المستقبل لا يكتمل من دون التوقف عند تصميمه المعماري المميز، الذي أصبح أيقونة بصرية تعكس فكر الإمارات وطموحها، صممه المهندس المعماري البريطاني شون كيلا ليكون تحفة هندسية تتحدى المألوف، على هيئة حلقة بيضاوية مجوفة تتخللها فراغات مكسوة بالخط العربي، وتتزين الواجهة الخارجية للمتحف بعبارات مستوحاة من رؤية صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، حاكم دبي، رعاه الله، وقد جسد الفنان الإماراتي مطر بن لاحج هذه العبارات بخطوطه التي نقلت الحرف العربي إلى إبداع معماري ثلاثي الأبعاد يجمع بين انسيابية الحروف وجماليات المعدن المعاصر.
تتضمن النقوش على واجهة المتحف عبارات تحمل في قلبها رسالة الحاضر إلى المستقبل، منها:
«لن نعيش مئات السنين، ولكن يمكن أن نبدع شيئاً يستمر لمئات السنين».
«المستقبل سيكون لمن يستطيع تخيله وتصميمه وتنفيذه، فالمستقبل لا ينتظر، بل يصنع اليوم».
«سر تجدد الحياة وتطور الحضارة وتقدم البشرية يكمن في كلمة واحدة: الابتكار».
ما يميز متحف المستقبل أيضاً، هو كونه منصة فكرية مفتوحة للحوار العالمي حول مستقبل الإنسان، فبرنامجه الثقافي يشمل مؤتمرات وندوات، تستضيف مفكرين وعلماء وفنانين من مختلف أنحاء العالم، يناقشون قضايا محورية مثل الذكاء الاصطناعي الأخلاقي، وأثر التكنولوجيا في الإبداع، ومستقبل التعليم والعمل، ومن خلال هذه الفعاليات يتحول المتحف إلى ملتقى ثقافي عالمي يربط بين الشرق والغرب بلغة مشتركة هي «لغة المعرفة»، في إشارة لطيفة إلى أن مستقبل الدول لا يقاس بقوة اقتصادها، بل بقدرتها على إنتاج الأفكار وتبادلها.
نموذج
اللافت في تجربة متحف المستقبل أنه لا يقدم «المستقبل» كموضوع منفصل عن الإنسان، بل يضع الإنسان في مركز التجربة، ويثير الأسئلة الإنسانية الجوهرية، حول الذكاء الاصطناعي والقيم الإنسانية، وكيف يمكن تسخير التكنولوجيا لخدمة البشرية، وكيف يمكن للأخلاق أن ترافق التطور العلمي، بهذه المحاور يتحول المتحف إلى أفق تربوي وثقافي يسهم في تشكيل وعي الأجيال الجديدة، ويدفعها نحو الإبداع والمسؤولية معاً، لتقدم الإمارات نموذجاً مختلفاً للعالم حول التعامل مع التطور التكنولوجي، لصناعة ثقافة معرفية متوازنة تبقي الإنسان محور التقدم وهدفه.
خلال فترة وجيزة، تحول متحف المستقبل إلى أيقونة عالمية تتصدر أبرز الصحف والمجلات ضمن قوائم أجمل المتاحف وأهمها على مستوى العالم، غير أن قيمته الحقيقية تتجاوز روعة هندسته وجمال تصميمه البصري، لتكمن في قدرته على تقديم نموذج عربي معاصر للفكر العلمي والثقافي، فهو يؤكد أن العالم العربي قادر على إنتاج تصورات جديدة حول علاقة الإنسان بالمستقبل وليس فقط مستهلكاً للتكنولوجيا.
لقد استطاعت الإمارات، من خلال هذا الصرح الثقافي، أن تترجم فلسفتها التنموية إلى رمز عالمي، وتضع الثقافة في قلب مشروعها الحضاري، وهكذا يصبح المستقبل في رؤيتها تجربة حقيقية تسكن الفن والمعمار والفكر الإنساني، وتؤكد أن كل تقدم حضاري يبدأ من فكرة.
المصدر : صحيفة الخليج
