على بعد ثلاثة أيام فقط من دخول الرئيس الأميركي دونالد ترمب مكتبه في البيت الأبيض، يقوم الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في الـ 17 من يناير (كانون الثاني) الجاري بأول زيارة رسمية للعاصمة الروسية موسكو لعقد قمة ثنائية مع نظير الروسي فلاديمير بوتين.
زيارة بزشكيان، وإن كانت مجدولة ومقررة من قبل، لكنها تحمل كثيراً من العناوين والأبعاد، سواء على مستوى العلاقة الثنائية بين الطرفين أو مستوى التعاون والتنسيق المتعلق بالملفات الدولية، لأنها تأتي في ظل ما شهدته وتشهده منطقة غرب آسيا من تداعيات وتطورات طاولت تأثيراتها السلبية الموقع الإستراتيجي والجيوسياسي لإيران في منطقة غرب آسيا، أكثر من آثار خسارة موسكو وجودها العسكري التاريخي في سوريا وقاعدتها البحرية الوحيدة خارج أراضيها في المياه الدافئة.
والزيارة التي يحتل موضوع التوقيع على اتفاق التعاون الإستراتيجي بين البلدين رأس جدول أعمالها، تأتي بعد أيام معدودة من انقعاد الجولة الثالثة من الحوارات بين إيران والـ “ترويكا” الأوروبية ومساعد منسق العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي، لبحث إمكان وآليات العودة لطاولة التفاوض حول الملف النووي، وإعادة احياء اتفاق عام 2015 وإنهاء العقوبات الاقتصادية الأميركية المفروضة على إيران.
موسكو التي ترصد بكثير من الحذر المسار الذي بدأته السلطة التنفيذية الإيرانية برئاسة بزشكيان، والساعي إلى إعادة الانفتاح على الدول الغربية، وحتى الاستعداد لبدء حوار جدي مع الإدارة الأميركية من منطلق الحفاظ على الندية والمصالح الإيرانية، تحركت منذ سبتمبر (أيلول) الماضي من خلال كلام وزير الخارجية سيرغي لافروف المكرر عن الجهوزية الروسية للدفع إلى التوقيع وتنفيذ الاتفاق الإستراتيجي بين البلدين، وقد ارتفعت وتيرة الحديث الروسي بخاصة بعد الخطاب الذي ألقاه الرئيس الإيراني أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة، وحدد فيه إستراتيجية حكومته المقبلة في ما يتعلق بالحوار والانفتاح والتعاون مع المجتمع الدولي، وحتى الإدارة الأميركية التي بإمكانها أن تكون صديقة لإيران في حال لم تهدد المصالح الإيرانية القومية والإستراتيجية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
انتقادات كثيرة تعرض لها الرئيس الإيراني خلال حملته الانتخابية وبعد توليه رئاسة السلطة التنفيذية، إذ واجه حملة وهجوماً من قبل القوى المحافظة المتمسكة بإستراتيجية التوجه نحو الشرق وبناء تحالفات إستراتيجية مع كل من روسيا والصين، أو إقامة تحالف المتضررين من السياسة والعقوبات الأميركية، فهو متهم بأنه لم يبد كثيراً من الحماسة للاستمرار في هذه السياسية، ويسعى إلى الارتماء في الأحضان الغربية والانفتاح على الإدارة في البيت الأبيض، وهذا الموقف لم يكن مقتصراً على الداخل الإيراني والقوى المحافظة وحسب، بل ظهر أيضاً لدى الجانب الروسي الذي تعامل بكثير من الحذر مع وصول بزشيكان إلى رئاسة السلطة التنفيذية، انطلاقاً من قراءة روسية تنسجم مع قراءة القوة الإيرانية المتشددة التي ترى أن كل ما هو إصلاحي في إيران يعني مزيداً من الانفتاح على الغرب على حساب العلاقة مع الشرق، ومن هنا فإن موسكو تعاملت مع خطاب بزشيكان الذي أكد فيه بداية رئاسته تعزيز التعاون والتحالف مع روسيا والصين، باعتباره خطاباً يترجم إرادة المرشد الأعلى للنظام الذي لا يزال متمسكاً بهذه الإستراتيجية ويراهن عليها في مواجهة الضغوط الأميركية والحصار الغربي على إيران والنظام.
وبزشكيان سيزور موسكو محملاً هذه المرة بشعور كبير بحجم الخيانة التي تعرضت لها إيران ونظامها خلال الأحداث السورية، وهذا الشعور لم يكن صادراً عن جهات تضع علامات استفهام على العلاقة الاندماجية التي تتبناها بعض القوى الداخلية المحافظة مع روسيا، بل ظهر هذا الشعور في الكلام المسرب عن قيادات في “حرس الثورة” تعتبر من أكثر المتحمسين لهذه العلاقة وهذا التحالف، كما ظهر في كلام الجنرال بهروز إثباتي الذي يعتبر آخر الجنرالات الإيرانيين الذين خرجوا من دمشق بعد سقوطها وهرب الأسد، وذلك عندما تحدث عن خديعة روسية وتخلي موسكو عن القيام بأية خطوة تمنع الانهيار، فضلاً عن فضحه لما حاولت إيران التستر عليه طوال الأعوام الماضية من تعاون روسي – إسرائيلي خلال عمليات استهداف المواقع والمقار التابعة لـ “حرس الثورة” على الأراضي السورية.
هذا المستجد المتعلق بتراجع الثقة بالحليف الروسي داخل المؤسسة العسكرية، يضاف إليه تراكم الشكوك حول الأهداف الروسية بين فريق الرئيس بزشيكان، بخاصة لدى مستشاره للشؤون الإستراتيجية محمد جواد ظريف ووزير خارجيته الحالي عباس عراقجي، بناء على تجربة التفاوض التي خاضاها في إطار “السداسية الدولية” من أجل الوصول إلى اتفاق عام 2015، فضلاً عن الدور السلبي الذي لعبته موسكو عبر وزير خارجيتها لافروف في إعاقة الوصول إلى تفاهم مع الإدارة الأميركية بداية عهد الرئيس جو بايدن، عندما اشترطت إعفاءها من أية عقوبات اقتصادية في علاقتها مع إيران، وذلك قبيل إعلان حربها على أوكرانيا، إضافة إلى الدور السلبي الذي لعبته في تأجيج الخلاف بين طهران والدول الأوروبية على خلفية كشفها عن التعاون العسكري وتزويدها بالطائرات المسيرة الانتحارية والصواريخ الباليستية، وما تحدث به ظريف عن أهداف التدخل الروسي في سوريا والذي جاء على حساب المصالح الإيرانية، في وقت كانت الأمور تتجه إلى حسم الموقف من دون الحاجة إلى هذا الوجود.
وعلى رغم كل علامات الاستفهام فإن توقيع الطرفين على هذا الاتفاق الإستراتيجي يبدو في هذه المرحلة حاجة ثنائية، بخاصة إلى طهران التي تواجه تحديات غير مسبوقة نتيجة التطورات التي شهدتها منطقة غرب آسيا، وتحديداً الساحتين اللبنانية والسورية، وتصاعد التهديد بإمكان دخولها في مرحلة عدم استقرار، إما لأسباب داخلية أو تهديد خارجي، وبالتالي فهي بحاجة إلى بناء شبكة تحالفات مع روسيا والصين لمواجهة ذلك وتخفيف الآثار السلبية عليها، بخاصة أن طهران لم تتلق أية إشارات إيجابية أميركية حول إمكان التراجع عن قرار انسحابها من “السداسية الدولية” المعنية باتفاق عام 2015، أو العودة لطاولة التفاوض، بحسب تعبير الوزير عراقجي.
أما الحاجة الروسية فتبرز من خلال سعيها إلى الاحتفاظ بالبوابة الإيرانية في منطقة غرب آسيا في حال واجهت أزمة في علاقتها مع الصين نتيجة الضغوط الأميركية المقبلة مع الرئيس ترمب، والذي من المتوقع أن يعمل على فصل هذه العلاقة، على رغم ما قد يقدمه لبوتين من إنهاء لأزمة الحرب الأوكرانية، وبالتالي فإن الاحتفاظ بالعلاقة الإيرانية وتعزيزها، وإن كان يُوجب على موسكو إزالة ما شابها من سلبيات خلال الأعوام الماضية، فإنه يضمن لها أن تكون على خريطة الممرات التجارية في منطقة غرب آسيا، من خلال الموقع الإستراتيجي الذي تتمتع به الجغرافيا الإيرانية كنقطة وصل بين الشرق والغرب والشمال والجنوب.
نقلاً عن : اندبندنت عربية