يوسف أبولوز
بدأت سموّ الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي، قصة بحثها عن ملكة مليحة في كتابها «أخبروهم أنها هنا»، من الإلهام الكامن في حكمة الجبال، أولاً، حكمة الجبال في كلباء، ملاذ طائر الرفراف الأبيض، وأرض شوك أم الغيلان، وهناك تقع على قبر، سيكون أيضاً جزءاً من رحلة البحث الأرضية، والتي سوف تتحول إلى مناجاة، وابتهال ونسيج نوراني، تلك الرحلة المعكوسة إلى داخلها في نهاية البحث والتأمل في تاريخ الأرض وولاداتها الحضارية، والثقافية، والملكية.
قبل ذلك، تسلّقت سموّ الشيخة بدور جبل كليمنجارو، ولم يكن الأمر مجرّد تسلّق جبل، بل، اكتشاف الإلهام الكامن فيه، والحكمة التي يرسلها لمن يريد الوصول إلى القمة، ومنذ ذلك الحين صارت الجبال هي دائرتها العلوية المرآوية «من المرآة»، تقول: «إن كل جبل يحمل مرآة»، وإن الجبل لا يحمل ما تريد، بل، يقبل فقط ما تحتاج، وإن ما نمنحه للجبل، يعود دوماً في صداه.
تقول الشاعرة الأمريكية «إميلي ديكنسون»: «الجبال الحلوة، لا تكذب عليَّ أبداً، لا تخيّب أملي، ولا تطير»، والجبال لا تطير فعلاً ولكنها تعلّمنا الصعود، وفي هذا الكتاب نتعلم من سموّ الشيخة بدور حكمة الصعود أيضاً حيث في القمم تنفرد أجنحة النسور، وفي داخل كل منّا نِسر.
حكمة الصقر
سموّ الشيخة بدور تدرّبت على حكمة الصقر، وتأمّلت قوّته وشموخه وذكاءه، وقالت لنفسها: «إن نسج علاقة مع طائر هو في جوهره نقش ذاكرة في جسد الأرض».
تسلّق الجبل أيضاً يعلمنا ما ينبغي تركه، وما يستحق البقاء، وسوف تتكشف كل هذه الخبرة التأملية والجبلية في قلب باحثة عن الحقيقة، حقيقة الأرض التي قامت على القوة العاطفية والقيادية لصف من الملكات هن السلالة الأولى لسيدة وجدت كل هؤلاء الملكات في داخلها، ملكات الأرض، هن ملكات الروح وَ.. «إذا تعرفت على أرضك أدركت ذاتك».
من قبر مهجور في كلباء بدأت الحكاية، والحكايات كما ترى سموّ الشيخة بدور هي عظام الثقافة، والحكايات ليست في الورق، وفي السرد، وفي الكلام الشفوي الشهرزادي فقط، الحكايات في الحجر، وفي الشجر، وفي الطير، في الأفعى، وفي البومة، ومرة ثانية في الجبل، ومن هذه الينابيع كانت خلاصة هذا البحث الروحي، الصوفي، والجمالي، والفلسفي في المكان، وفي الزمان.
استوعبت أو الأصح هضمت سموّ الشيخة بدور ثقافة الأساطير والحكايات، وهي تقول «.. إن أساطير الخلق في ثقافات الشعوب الأصلية ليست قصصاً وحسب، بل هي خرائط روحية منسوجة بخيوط تجمع عالم الأرواح وعالم الحيوان، وعالم النبات».
صوت الروح
قصة البحث عن ملكات مليحة في رحلة الكشف الإشراقية هذه، تطلبت من الشيخة بدور أن تتعلم «كيف أصغي إلى ذلك الصوت الهادئ الملح في داخلي.. صوت روحي..».
الإصغاء، أو لنقل فن الإصغاء، أو نبل الإصغاء.. ثيمة أساسية في سردية سموّ الشيخة بدور.. تقول: «أتيت لأذكركم بأراضٍ كانت تعرف أسماءكم يوماً../.. وبألسنة رقصت والتفت حول ضوء نيران عتيقة، طواها الزمان، لكنها لم تندثر فمن يحسن الإصغاء يدرك المعنى..».
أصغت سموّ الشيخة بدور إلى فراغ القبر، أصغت إلى عاصفة الجن، أصغت إلى لغة الحجر، أصغت إلى العقل والقلب، وبكليتها، وبكينونتها، وبشغف البحث عن الروح الملكية في المكان أصغت إلى مليحة: «.. مليحة مملكة عتيقة تكتنفها الأساطير والذكريات، سهل صحراوي تعلو فيه الكثبان كأنها شهود صامتون، وتحتفظ حجارته بأنفاس عوالم منسية..».
تكررت زيارات سموّ الشيخة بدور إلى مليحة.. زيارات تبدأ مع الفجر، كأنه الوقت الأكثر مثالية لملاقاة روح ملكة المكان.. تقول: «بمرور الوقت صرت أزور المكان وحدي، كان الصمت يجذبني إلى حكمة الصحراء الهادئة، أجلس قرب نيران الحطب، وأدع السكون يتسرّب إلى عظامي، وأسهر حتى يتسلل أول ضوء للفجر عبر الرمال، في فراغها الشاسع، كانت الصحراء تمنحني شعوراً بالاكتمال..».
تحت النجوم
هنا، أجد نفسي أثناء قراءة هذا الكتاب في مكان آخر أيضاً في مليحة.. بدور تحت النجوم، وسوف يكتشف القارئ العلاقة الضمنية بين معنى النور والضوء في اسم الملكة التي تبحث عن ملكة، وبين المعنى النوراني الذي ترسله النجوم. إن النجوم بالنسبة إلى الكاتبة هي علامات الترقيم في هذا المخطوط الإلهي، «فوقي، توهجت النجوم كأنها نقوش في مخطوط إلهي. تحتي، كانت الأرض تحتضن عظام ملكات وأسلاف وحكايات منسية»، وتقول في مكان آخر: «لم تعد السماء فوقي مجرد سماء، بل تحولت إلى ذاكرة ومرآة وبوابة».
تتبُّع الصور والأحداث والوقائع في هذا الكتاب يضعك أمام شريط بصري صحراوي، هو في حقيقته شريط الروح التي تبحث عن روحها.. وهنا نقف أمام صورة النار. إنها ليست نار غاستون باشلار، ولا نار جحيم دانتي، ولا نار المجوس، إنها نار مليحة مملكة الملكات، مملكة ماوية، ومملكة أبيئيل.. تجلس الكاتبة أمام النار كما ينبغي أن تجلس ملكة أمام اللهب، لكن هنا يمتزج اللهب، فجأة، بصورة ذئبين: «.. وفي ليلة أخرى، وحيدة، مجدداً أمام النار، جالسة كما جلس أسلافي من قبل، منتصبة، متجذرة في الأرض، مصغية بعمق، تجلّت لي رؤية رأيت فيها ذئبين يزورانني، جلس أحدهما إلى يميني، والآخر إلى يساري، كانا قريبين حتى إنني كدت ألمس فراءهما الرمادي الفاتح..».
كانت تلك رؤيا الذئبين، وفي طريق الكشف والاكتشاف وصولاً إلى الحقيقة الملكية في مليحة، كانت هناك أيضاً رؤيا عاصفة الرمل، «الرمال الدوّامة» التي يقال إنها أنفاس الجن.. كلما دنت شامخة كجدار من أنفاس قديمة سمعت صوتاً ينبثق من قلب الرمال – الدوّامة، كان يتكلم بثقل القرون: «لقد كنا ننتظرك».
فسألت: «من أنتم؟».
فأجاب الصوت واطئاً راسخاً: «نحن القبائل الخفية في مليحة. لقد كنا ننتظرك».
غمرني طوفان من الدهشة، فسألتهم: «ومنذ متى تنتظرون؟».
أجابوا: «منذ قرون، لقد كنا ننتظرك منذ قرون..».
تلك هي الرحلة، إذاً، الرحلة التي قادتها كما تقول إلى عوالم شاسعة مختلفة «تلامست مع الأفاعي، والبوم، والذئاب، والخيول، والصقور والحيتان. اتصلت بأصلي وجذوري وسلالة أجدادي..».
«أنا الملكة التي كنت أبحث عنها».
كتاب ملكات
قبل أن تعثر على الملكة التي كانت تبحث عنها، ووجدتها في داخلها، ها هي الكاتبة، أو الباحثة، أو العارفة تطوف بنا في فلك من الملكات: من مليحة إلى الجزيرة العربية، إلى اليمن.
تكتشف سموّ الشيخة بدور، وبالصدفة، ملكة عربية قديمة قبل قرون عديدة هي الملكة ماوية «ماوية السرسنية» «حكمت في القرن الرابع الميلادي زعيمة مهيبة لاتحاد قبائل التنوخيين، ورغم أن مملكتها قامت بعيداً عن مليحة، فإن صدى حضورها تردد في أرجاء الجزيرة العربية..».
وفي مليحة عملات معدنية كان اسم الملكة «أبيئيل» مضروباً عليها. لم تكن ملكة واحدة «كان هناك على الأقل أربع نساء ضربن عملات بأسمائهن في شرق الجزيرة العربية: أبيئيل، ابنة ناصيل، أبيئيل، ابنة ماساماس، أبيئيل، ابنة لابيس/لاباي. أبيئيل، ابنة باغلان.
قراءات سموّ الشيخة بدور، وشغفها في البحث عن درب الملكات قادها إلى العديد من الدراسات التي كشفت لها جوانب عدة من غموض رحلتها الملكية، ومنها دراسة الباحث ماكدونالد ومن خلالها.. تقول: وصلتني أسماؤهن «أسماء الملكات» كإيقاعات طبول تخترق الزمن – مهيبة، شامخة، يتردد صداها على مر العصور:
– زبيبة 738 ق.م
– سمسي 734 – 716 ق.م
– يثيعة 703 ق.م
– تألهونو 691 ق.م
– تبوعة 681 ق.م
– عادية قبل 652 ق.م
«ست ملكات وقفن في وجه واحدة من أعظم وأعتى الإمبراطوريات التي عرفها التاريخ.. الإمبراطورية الآشورية الحديثة.. ست ملكات لم يركعن..».
صدى صوت كل ملكة أو رجع صدى صوت كل ملكة يتردد في مسمع سموّ الشيخة بدور في ليل مليحة وأمام لهب النار، وغاستون باشلار يقول – الأذن حاسة الليل. الليل يجلو الصوت، ويصقله، ويوصله بلا شائبة.
ابنة البخور
تصغي الكاتبة إلى أصوات مَلَكِيّة أخرى.. ملكة سبأ «ابنة البخور ورياح التجارة العتيقة، تحمل أسطورتها على ظهور الجمال العابرة للرمال الملتهبة نحو القدس». تصغي إلى وقع تاريخ وأسطورة الملكة «نادين ذي صدقن شمس» «الملكة التي استحقت كبرياءها عن جدارة، كانت امرأة تشتعل أنوثة وجرأة»، ثم الملكة لميس بنت نوف بن يريم ذي مر «حكمت بعزيمة مملكة تزخر بالليان والحكمة»، ثم الملكة «شمس» التي يقال إنها جلست على عرش سبأ في عام 732 قبل الميلاد، والملكة أروى الصليحي.. «كانت سيدة بكل ما تحمله السيادة من معنى، لم يكن بلاطها مركزاً للحكم وحده، بل، منارة – للعلم، ومجمع لاهوتي، وميدان للشعر والدبلوماسية».
الحكاية والأسطورة والثقافة الشعبية، بل إن عصب هذه المادة الميثولوجية هو حزمة المعتقدات التي نجدها في طريق البحث عن ذاكرات ملكية عتيقة.
بعد رؤيا الذئبين، وبعد لقاء لسموّ الشيخة بدور بالباحث والشاعر عبد العزيز المسلم قال لها: «هل تعلمين أن النساء في الأزمنة الغابرة لم يدخلن الصحراء ليلاً قط إلا وهن يحملن حول أعناقهن ناب ذئب، وسألته: لماذا؟ ويجيب المسلم: لأن الذئاب وحدها ترى الجن، والجن تخاف من الذئاي، لذا كانت النساء يعلّقن ناب الذئاب للحماية، وحين تعثر على بعض الكتابات والنقوش على اللقى الآثارية مثل عبارة «نَفَس وقبر»، فإنها تقارب هذه اللقى المكتوبة مع الثقافات الأخرى، وتقول: «في الثقافة اليونانية القديمة، كان الاعتقاد قائماً بأن مجرد نطق اسم الميت يمكن أن يعيده للحياة لحظة قصيرة..».
الروح الأدبية
كتاب «أخبروهم أنها هنا» ليس فضاء معتقدات، وحكايات، وطريق ملكات فقط، بل، هو أيضاً فضاء علمي يلتقي بالروح الأدبية والآثارية الماثلة في النص، لا بل إن هذا الفضاء العلمي يلتقي أيضاً مع الروح الملكية في هذه السردية الممتعة، وعلى سبيل المثال تقول.. يخبرنا العلم بحقيقة مدهشة: فجميع البويضات التي تنتجها المرأة طوال حياتها تتكون فعلياً وهي لا تزال جنيناً في رحم أمها، وهذا يعني أن حياتنا الخلوية، شرارة وجودنا الأول، تبدأ ليس في أحشاء أمهاتنا فحسب، بل، أيضاً في رحم جداتنا..»، وتقول: «الأمهات أوعية الرحمة».
حقائق علمية عدة، جدلية، وعلى درجة من القبول والاختلاف مثل فرضية، وربما حقيقة أن هناك أهرامات في البوسنة هي أقدم بكثير في التاريخ من أهرامات مصر.
جبال كلباء، مرة ثانية، كما هي فضاءات للرؤية والرؤيا، هي أيضاً «صيدلية» ربانية طبيعية مفتوحة للإنسان بكرم وبالمجان.. ستتعرف سموّ الشيخة بدور إلى نباتات وزهور ربيعية، منها زهرة الحمراء أو الكحيل.. «كانت تنمو قريبة من الأرض، متواضعة في هيئتها، لكن إرثها عظيم العمق، فمن جذورها كان يستخرج إكسير شافٍ يستعمل لعلاج القرح والدمامل والجروح المفتوحة وأمراض الحلق، وفي طب الصحراء، كانت هذه النبتة الواحدة بمثابة صيدلية كاملة: تخفف الحمى، وتهدئ الصداع، بل، وتمنح صبغتها النيلية لفن تلوين الوجه الذي كان يمارس في الطقوس أو اتقاء لوهج شمس الصحراء القاسية..».
أما شجرة السَّمُر وعسلها الذهبي فهي نعمة من الله، وهي شجرة المكان في كلباء.
شعر مُعَتق
في الطريق الملكي الذي سلكته سموّ الشيخة بدور أمامنا شعبتان في هذه الرحلة المضاءة بالرؤية، والرؤيا، والحلم، والإصغاء أولاً: شعبة الشعر، وثانياً: شعبة الحكمة.
أقع على ذروات شعرية عديدة في هذا النص المرتب بنظام عرفاني، وروحي، وعلمي، وإدراكي، لكن أعلى هذه الذروات الشعرية أراها في هذا النص البالغ الشفافية:
– أنا أنير الطريق، أنا حافظة الذاكرة../.. وناسجة الدرب
– أنا إناءٌ لما هو غير منظور ليغدو منظوراً
– كل كلمة أنطقها خيط، وكل صمت رتقة.
هنا، ليسمح لنا القارئ بالعودة إلى المقدمة، المكثفة، المقطرة التي أخذت عنوان «ناسجات العالم».. إن سموّ الشيخة بدور، وهي بهذه الروحية الشعرية إنما هي واحدة من ناسجات هذا العالم، والنساء الناسجات أو – النسّاجات هن حارسات العالم:
«.. النساء منذ الأزل، حافظات الأنوال، اللواتي يغزلن الحياة بأناملهن، وأنفاسهن، وأرحامهن.. إن النسيج هو استدعاء للمستور، هو تشكيل للنظام من قلب الفوضى..».
منذ الصعود إلى جبال كلباء، ثم الجلوس الروحي أمام النار، ثم الشعور الداخلي الذي يتحقق في فكرة الاكتمال داخل الفراغ، إلى الصعود الرمزي نحو عروش ملكات الجزيرة، ومليحة، واليمن.. وعلى طول هذه المخطوطة الآثارية والنفسية والوجودية لم تبتعد سموّ الشيخة بدور عن فكرة النسيج.
أنوالها معها دائماً. جاهزة وحرة وحرفية بأصابع تعرف كيف تجسّ الصوف، وأين تضع الخيط في الخيط.
حتى صناعة أو طهو رغيف خبز، كما فعلت في تجربتها الإنسانية الراقية هو نوع آخر من النسيج.
وفق فكرة النسيج هذه، الدقيقة والرقيقة في آن واحد، نقرأ شعرية هذا النص المتدفق بالحكمة أيضاً، والحكمة أخت الشعر، وهي دائماً أول وآخر من يُعرّف بنفسها، هي من تعرف بعملها الذي تقوم به في هذا الجزء من جغرافية العالم.. «كنت الرمل والحوت والغيمة والأحفورة وغبار النجوم، كنت الباحثة والحكاية السؤال والجواب». ولكن أين الحكمة؟؟ نعم خذ هنا قبساً منها:
تقول سموّ الشيخة بدور:
– أن تأتي بلا شيء وترحل بلا شيء ليس خسارة، بل حرية.
– لم يكن هناك ما يؤخذ، كان هناك فقط ما يمكن أن يُعطى.
– الحكماء يرفعون أبصارهم إلى السماء.. ثم إلى الداخل.
– الحقيقة حين تدفن في جسد الأرض، لا تموت.
– ليس كل الحقائق تستخرج من الحجر.
– اجلسي إلى النار كأنها روح حية.
– هذه الرحلة لم تكن رحلتي وحدي.
×××
كتاب يقرأ أكثر من مرة، وَيُصغى إليه أمام نار هادئة.
وأفكر الآن جازماً أن من يذهب إلى مليحة وقد قرأ الكتاب، ليس هو من كان قد ذهب إلى مليحة، قبل أن يقرأ هذا الخيط المركب من الضوء، والحلم، والإشراق.
المصدر : صحيفة الخليج
