في لحظة جرأة وبعد محاولات لتأمين قلم أو حبة زيتون حفر المعتقلون في سجون النظام الأسدي كلماتهم وذكرياتهم ورسوماتهم على جدران أقبية التوقيف والاعتقال المتناثرة في أرجاء البلاد، التي قد يكون بعضها آخر كلمات لهم وصلتنا حين رأت النور أخيراً عندما فر السجانون والجلادون، وأشرعت أبواب السجون والمعتقلات ليقتحمها نور الحرية وضوء الشمس بعد سقوط النظام.

طوى فرار بشار حقبة خمسة عقود من حكم عائلة الأسد، وفي ليلة سقوط دمشق بيد قوات المعارضة، فتحت السجون ومنها سجن صيدنايا، الأكثر رعباً الذي يوصف بالمسلخ البشري حيث تفوح منه رائحة الموت. وأطلق سراح كل المعتقلين وسط فرحة عارمة لم تكتمل لوجود مفقودين، ولتخريب وعبث بالوثائق في السجن، حيث ظلت الأيادي تحفر الأرض ليل نهار لمعرفة مصير بقية السجناء والمعتقلين، وسط تخريب وعبث بكاميرات المراقبة، وبسجلات ووثائق رسمية.

وعلى رغم هذا الانتهاك الفاضح للوثائق الرسمية في سجن صيدنايا يتكرر المشهد في سجن فرع الأمن السياسي في مدينة اللاذقية غرب البلاد، حين أقدم شبان وشابات من فريق يدعى اسم “سواعد الخير” بغية طلاء جدران السجن ويرسمون لوحات وعبارات تعبيرية تمجد الحرية، مما أثار موجة غضب واسعة بين السوريين خصوصاً عائلات المفقودين، واعتبروا ما حدث انتهاكاً لمسرح الجريمة.

تحطيم الأدلة

في المقابل علقت رابطة معتقلي الثورة السورية على واقعة طلاء السجون بأنها “قضية شديدة الخطورة تتعلق بالتلاعب بآثار وأدلة مرتبطة بمواقع الاعتقال والتعذيب في سوريا”، مطالبة بالتوقف عن ذلك. واستعرضت انعكاسات ما حدث وأبرزها طمس معالم الجريمة، إذ تمثل إزالة الكتابات والأسماء المنقوشة على جدران الزنازين انتهاكاً صريحاً لمحاولات التوثيق التاريخي، وهذه الكتابات ليست مجرد رسوم وعبارات بل شواهد حية لجرائم اختفاء قسري، وتعذيب مارستها أجهزة النظام.

 

 

واعتبرت الرابطة أن وجود عملية منظمة لتحطيم الأدلة مثل الكاميرات والوثائق وسجلات المعتقلين يعكس نمطاً ممنهجاً لطمس الحقيقة، ومنها حادثة تخريب المواقع وسرقة الوثائق في فروع أمنية مختلفة مثل سجن صيدنايا أو فرع فلسطين، وهي ليست حالات فردية، بل جزءاً من سياسة مستمرة، علاوة عن التلاعب بالذاكرة الجماعية والعدالة الانتقالية، إذ الاعتداء على هذه المواقع يمثل جريمة ثانية في حق الضحايا وعائلاتهم، إذ يحرمهم من فرصة معرفة الحقيقة وتحقيق العدالة، والمواقع التي شهدت انتهاكات حقوق الإنسان يجب أن تتعامل كمواقع تاريخية ووثائق توثيقية للعدالة.

دفاتر المعتقلين

“الجدران هي دفاتر المساجين” هكذا يصف المتخصص بشؤون السجون السورية جابر بكر في حديثه إلى “اندبندنت عربية” حال جداريات السجون التي تتحول إلى مساحة للرسم وكتابة التذكارات، كنوع من إثبات الوجود أو التعبير عن حال قلقة من انعدام التوازن وسط تخيلات وتوقعات التعذيب والموت السائدة.

ويعتقد بكر أنه ولتاريخ اليوم، وبحسب معلومات مؤكدة من وقائع الميدان، لم تنطلق عمليات أرشفة الوثائق تقنياً بل جُردت في بعض مقار الأفرع الأمنية وليس جميع أفرع الاستخبارات، ومن المتوقع أن تأخذ عملية الأرشفة أعواماً طويلة، إذ توجد أجهزة استخبارات مركزية في دمشق مثل شعبة الاستخبارات العسكرية أو إدارة أمن الدولة، وإدارة الاستخبارات الجوية أو الأمن السياسي، وجميع هذه الإدارات العامة لديها وثائق، وهناك أيضاً مؤسسات إدارية في المحافظات، وكلها لم يقرأها أحد أو يطلع عليها ويشاركها مع الناس أو أصحاب العلاقة إن كانوا أهالي ضحايا أو مفقودين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويفسر المتخصص بشؤون السجون السورية استياء الناس من طلاء جدراء السجون كونها تمثل تخليداً لذكرى المعتقلين، مطالباً بتحويل هذه الأماكن إلى متاحف. وأضاف “نعمل على مشروع متحف المعنى، ومن الممكن أن يكون بمكان فيزيائي في أي بلد في العالم وليس شرطاً أن يكون في سوريا، وسيكون متاحاً ليشاهده الناس افتراضياً (أونلاين) وسيتوفر الرابط بعد جهوزية المشروع، بحيث يتيح المشروع للزائرين لهذا الموقع زيارة كاملة للسجن ويعرض تفاصيله وخرائطه وذكريات المعتقلين وصور الجدران”.

حكاية الاعتقال

وكانت سوريا شهدت خلال عقد من الزمن صراعاً مسلحاً على خلفية احتجاجات شعبية اندلعت من درعا جنوب سوريا، في أعقاب اعتقال أطفال وتعذيبهم في السجون واقتلاع أظافرهم بعد كتابتهم شعارات مناهضة للحكم، واشتعلت من هنا الثورة منذ عام 2011 وانتقلت إلى حرب ضروس لم تنته فصولها إلا بإسقاط الأسد في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024، وفي أوج فرحة الانتصار التي سرت بين معارضي النظام المخلوع كانت هناك “غصة” المفقودين من الذين غيبوا أثناء احتجازهم من قبل أجهزة الاستخبارات.

إلى ذلك عبر تيار المستقبل السوري عن استهجانه من حادثة طلاء جدران سجن فرع الأمن السياسي في اللاذقية، واعتبرها جريمة وتهديداً مباشراً لجهود توثيق الانتهاكات التي يعتقد أنها حدثت في هذا المركز بما في ذلك التعرف إلى مصير المعتقلين ومحاسبة المتورطين في تعذيبهم، داعياً إلى “التحقيق مع فريق ’سواعد الخير‘ مع تقدير دورهم، ونشاطهم التطوعي الوطني”.

 

 

في المقابل تروي عضو حركة “عائلات من أجل الحرية” ربيعة برازي تأثير طمس الحقائق على مسار العدالة، منوهة بدور مهم للمجتمع الأهلي السوري والمنظمات الدولية بنشر التوعية بضرورة عدم الذهاب لهذه الأماكن والعبث بالأدلة.

وقالت برازي “نتفهم رغبة الأهالي، وتبقى مراكز الاحتجاز مسارح جريمة وفيها أدلة عن الجريمة المنظمة والممنهجة، والمكان يوثق كتابة سردية معينة من الممكن أنها تكون موجودة، بخاصة أن غالب المختفين والمعتقلين ليس لدينا معرفة عن مكان وجودهم، والكتابة على جدار السجن يمكنها كشف حقائق عنهم”.

وتابعت “الكتابة على الجدران اعتراف بأنهم كانوا موجودين هنا، لأننا نعلم أنهم في أقبية النظام الأسدي كانوا مجرد أرقام وليسوا بشراً من لحم ودم، وعانوا ظلماً وترهيباً، وفي لحظة قوة استطاعوا أن يكتبوا على هذه الجدران، ولا بد من الحفاظ على هذه الكتابات الحية”.

مجرد كتابات

في غضون ذلك، لا يقبل المتخصص بالسجون السورية جابر باكير، اعتبار أن هذه الكتابات مجرد خطوط، وفي حاجة إلى إزالة، بل يعدها بالواقع ذكريات، وإن كانت لا تعد لدى كثير من الناس إلا مجرد خطوط، لكنها ذكريات وتعني لأناس آخرين كثيراً. ومضى في حديثه “المطلوب إغلاق المقار الأمنية والسجون غير المستخدمة بصورة كاملة أمام الناس وعدم إصدار موافقات لدخولها إلا للمتخصصين، وهذا معيب في حق الضحايا والمعتقلين وأهالي المفقودين”.

 

 

وطالبت رابطة معتقلي الثورة السورية بفتح تحقيق مستقل وشفاف في كل الحوادث الموثقة لطمس الأدلة في سجون النظام، بما ذلك حادثة فريق “سواعد الخير”، ومحاسبة جميع المتورطين في التلاعب بالأدلة والوثائق والمشاركة في محاولات التستر.

وجاء في بيان لها بضرورة حماية المواقع الحساسة بصورة فورية، ومنع أي نشاط غير قانوني يهدف إلى تغيير أو إزالة شواهد الجريمة، والتعامل مع هذه المواقع كمواقع حفظ ذاكرة وضمان عدم المساس بها من دون رقابة جهات متخصصة معترف بها دولياً.

وبعد ما حدث في السجون من طمس الأدلة أرسلت رابطة معتقلي الثورة السورية رسالة إلى الرأي العام “لا يمكن السماح للنظام وأعوانه بإخفاء الحقيقة بعد الجرائم التي ارتكبت، ويجب ألا تمر هذه التصرفات من دون عقاب، واستمرار محاولات الطمس هو تهديد لحقوق الأجيال القادمة في فهم ما حدث وتحقيق العدالة للضحايا”.

وبالحديث عن المفقودين بعد إفراغ السجون والمعتقلات إثر سقوط النظام بلغ عددهم ما يناهز 112 ألف معتقل، بحسب ما كشفه رئيس الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فضل عبدالغني. ويقدر في تقارير عن المختفين قسراً أن ما لا يقل عن 85 في المئة منهم قتلوا جراء التعذيب بالسجون.

في هذه الأثناء تلفت برازي النظر إلى مسؤولية الحكومة الجديدة في الحفاظ على هذه المقار ومنع العبث بها، في حين إلى الآن لم تعمل حكومة تصريف الأعمال ومنذ تسلمها الحكم على التواصل مع أهالي المفقودين. وختمت حديثها “لدينا إحساس أننا متروكون، ونبحث بكل الطرق وزاد حجم الألم”.

نقلاً عن : اندبندنت عربية