«أخبروهم أنّها هنا».. كتاب قَرَأَنِي حقاً حين قرَأْتُه

«أخبروهم أنّها هنا».. كتاب قَرَأَنِي حقاً حين قرَأْتُه

د. رفيعة غباش:

بدايةً أودّ أن أقول إنني لستُ ممّن يطيلون المكوث مع الكتب، وإنما -بتطلع-أنتظر وصولي إلى الصفحة الأخيرة. لكنّ كتاب الشيخة بدور بنت سلطان أوقفني، كأنّه يضع شروطه قائلاً لي: تمهّلي… ثمّة حكايات لا تُقرأ على عجلٍ، بل تُستقبل بقدرٍ من الإصغاء والتروّي والتأمّل.
نعم، من الصفحات الأولى وجدتني مشدودةً إلى الرحلة التي تحكي فيها ابنة الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، صعودها جبل كليمنجارو؛ رحلةٌ لم تكن صعوداً على صخرٍ فقط، وإنما كانت -أيضا- تسلّقاً لطبقات النفس التي تميل بطبعها إلى الدَّعة والسهل الميسور.

وحين كنت أقرأ تلك المشاهد، كان شيءٌ في داخلي ينهض من سباته.. كأنّ الجبل الذي ارتقته الكاتبة ينهض في روحي أنا.
ولمحتُ –بين السطور– مادّةً فكريةً ونفسيةً كانت تمسّ حاجتي في تلك اللحظة. تلك الفصول خفّفت عني ما كان يثقل روحي من همومٍ قديمة وحديثة، حتى شعرتُ كأني أمام جلسة علاج عميقة، ويا للمفارقة العجيبة… أن أجد هذا الأثر وأنا طبيبةٌ نفسية؛ كأنّ الكتاب تولّى عني لحظات الاستشفاء التي كثيراً ما أقدّمها للآخرين.
وبضحكة عابرة تذكّرتُ تجربتي مع الصعود إلى ذلك الجبل في خورفكان قبل ثلاثة أعوام. كانت مغامرةً غير مخطّطٍ لها؛ شاركتُ، وكانت المجموعة من جيلٍ يصغرني بكثير. صعدوا القمّة في دقائق معدودة لا تتعدّى عشرين دقيقة، ونزلوا في نصف ساعة، أمّا أنا فكان عليّ أن أمضي ساعةً ونصف الساعة بين الصمت مدّعيةً التأمّل، والإصرار على الاستمرار حتى لا أجرّب الفشل.
وحين وصلتُ بسلام إلى سفح الجبل، قلتُ لهم: لو كان ثمّة علاجٌ يصل إلى أعماق الإنسان، فإنّه لن يكون أفضل من هذه الرحلة. اكتشفتُ أنني كنتُ مع نفسي حقّاً، وشعرتُ بفرحةٍ داخلية نادرة. وهنا أدركتُ قيمة ما كتبته الشيخة بدور حول هذه التجربة تحديداً.
ثم جاءت دهشتي الأخرى ممّا تجلّى من قدرة الكاتبة على تحويل مادّةٍ تبدو علميّةً تاريخيّةً بحتة، في الآثار والرمال والتنقيبات، إلى حكاية نابضة ممتعة. فزيارة المواقع الأثريّة عند أغلب الناس ليست أكثر من مشاهدة سطحيّة، أمّا المبدعة الشيخة بدور بنت سلطان، فقد جعلت من تلك المواقع مرآةً تنعكس فيها ذواتُنا اليوم، منطلقين جميعاً من ذلك التاريخ البعيد، كأنّ الزمن الطويل الممتدّ آلاف السنين ينتقل من الماضي إلى الحاضر، ليتجلّى في وعينا المعاصر. بل لقد منحتنا فرصة لإعادة النظرَ في حضور الوطن؛ ونعرف كم اتُّهم خليجُنا بالسطحية، في حين أنّ، تحت هذه التعميمات، طبقاتٍ من تاريخٍ بعيد، له آثارٌ تشهد، وأرضٌ تحفظ أسماء نساء ورجال كانوا هنا منذ آلاف السنين: أنجزوا، وقادوا، وأضافوا، وأبدعوا.
لقد ابتُلي أصحابُ ضيقِ الرؤية حين وصل الأمر بهم إلى وصف الخليج وأهله وشعبه وتراثه وثقافته، كأنهم قدِموا إلى الزمن قبل سنوات قليلة، متجاهلين امتداد التاريخ، ورابطين صورتنا دوماً بالمال والنفط، مقلّلين من شأن الإرث العميق الذي نحمله. ولهذا فإنّ هذا الكتاب شهادةٌ متزنة على أنّ الإنسان الذي يرون نجاحاته المبتكرة، والتي سبقت في بعض وجوهها دولاً أوروبية، لم ينبثق من فراغ، بل خرج من لا وعي جمعيٍّ راكمته الأجيال، فأنتج اليوم عقولاً شابّة تمكّنت من رؤية ما لا يراه الآخرون، ومعرفة ما يغيب عن أعينهم.
حقّاً، أرى في هذا الكتاب أنّ قدرة الشيخة بدور على وصل الأمس باليوم، وربط الحاضر بالماضي السحيق، قدرةُ أديبةٍ خبيرةٍ بأدواتها، بلسانٍ علميٍّ رصين، وأسلوبٍ أدبيٍّ متمكّن، يجعل المعلومة قيمةً معرفيّةً تتجاوز السرد الأثريّ، وتضفي عليه روحاً ومعنى.
ثم استرسلت الكاتبة في البحث تحديداً عن نساء ذُكِرن في تاريخ هذه المنطقة، بل والأعجب: نساء ملِكات.
وكــم كان الوصــف راقــياً في لغــة الكاتـبة، وعظــيماً في ســرد منـجزاتــهن.
(وهنا بدأتُ أتخيّل مكانهنّ في متحف المرأة، الذي يوثق تاريخ نساء الإمارات، وقد أسس في ديسمبر 2012، أي منذ 13 عاما).
وقــد حظيــتُ من قبــلُ بالكتابــة عن جــدّة الكاتبــة، الشيخــة ميرة بنت محمد، وذلك في موسوعة المرأة وفي متحــف المــرأة؛ تلــك المــرأة الشجاعــة الحكيمــة.
وكم أنا معتزّةٌ برفقة سموّ الشيخة جواهر في رحلة العلم في مصر، واليوم الوطن العربي منبهر بسعة أفق هذه الإنسانة الرائعة علما وعطاء، وسموها تتابع بناء نموذج يتمتع بصحة نفسية واجتماعية وحضارية عبر مؤسسات علمية انطلقت منذ خمسة وعشرين عاما، ودورها الإنساني في متابعة أيتام الوطن العربي المشرّدين في الملاجئ.
أمّا التلقّي العميق لهذا الكتاب، فكان حين حضر الجانب الصوفي في السرد حضوراً سلساً ممتعاً، يستند إلى ثقافات متعدّدة، وإلى إرث العائلة الممتدّ، حيث جدّ الكاتبة الشيخ الجليل غانم، الذي له كراماتٌ يعرفها مجتمع دبي… فكأنّ الكاتبة ورثت عن جدّها تلك الروحانية الخالصة في أسلوبها البديع. وتتعدّد المصادر في المرجعية الروحية للكتاب، منطلقةً من القرآن والسنّة، ليضع الكتاب قدميه على أرض مطمئنّة.
كما حضر الكتّاب والمؤرّخون والمثقفون في صفحات كثيرة، إنني خرجت من هذا الكتاب، وفي قلبي فخر كبير بأننا تعرفنا إلى كاتبة متمكنة بهذا العمق.
وهناك ابتسامةٌ حلّت على وجهي؛ إذ وجدتني ألتقي بصديقتي البومة، ذلك الطائر الذي خصّصتُ له كلّ زاويةٍ في منزلي. وحين تجاوز عدد التماثيل الخمسمئة، قرّرتُ أن أضمّها داخل متحفٍ صغير، لما تحمله من جمالٍ وحكمةٍ لافتة وعيون آسرة.
وابتسمتُ كذلك حين تحدّثت الشيخة بدور القاسمي عن الطيور الجارحة؛ لأنني في يومٍ من الأيام لم أفهم معنى بيتٍ للشاعرة عوشة بنت خليفة السويدي، وهي تصف الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، حفظه الله:
«فرخُ حرٍّ مخلبُه شرِساً
في الجوارح هُوب جرناسه…».
حتى شرحه لي أحد المختصين.
ولا يسعني في الختام إلا أن أهنّئ الشارقة المبتهجة بكاتبتها المبدعة، وهي تنقّب في طيّات التاريخ عن آثارٍ متيقّنةٍ من وجودها، وفي الوقت نفسه تمنح القارئ رحلةً تاريخية عميقة.
وأختم بما قالته الشيخة بدور من أن الطريقة الصوفية تكشف لنا أن القمة لا تنال بالعزم وحده، بل بالانحناء والتسليم فما نمنحه للجبل يعود إلينا دوماً في صداه.
حفظك المولى شيختنا المبدعة وشكراً لمعرفتك وعلمك الذي وصلنا وأحيا فينا البحث عن المعنى.

عمق وبصيرة

إن أساطيرنا وحكاياتنا، التي يسارع البعض إلى رفضها باعتبارها مجرد فولكلور عابر، تحمل في طياتها حقائق مشفّرة؛ فهي أوعية لحكمة قديمة، مشبعة بالرموز والدلالات. وتلقّيها لا يحتاج إلى عقل فحسب، بل إلى إصغاء وتواضع وقلب مفتوح. وبين ثنايا الأسطورة والمنظر الطبيعي قد نشعر أحيانًا أننا تائهون، كرحّالة في متاهة الزمن. لكن هذه المتاهة ليست عبثية؛ ففي أعماقها يكمن ميراث واسع من معرفة وتاريخ وثقافة وتعاليم عميقة لأولئك الذين سبقونا. لقد ترك لنا أسلافنا هذه الحكايات بإجلال ولغايات نبيلة؛ لا لمجرد التسلية، بل لتكون مشاعل ودليلاً يعيداننا إلى ذواتنا.

يقول الصوفية إن السماع الحق ليس بالأذن الظاهرة فقط، بل بالقلب. وقد نبّهنا الجنيد إلى أن السماع فتنةٌ لمن يطلبه، وسكينةٌ لمن يبلغه، وأنه لا يكتمل إلا باجتماع الزمان والمكان والرفقة. أما ابن عربي فيضيف أن للقلب عينين: العقل والخيال، وأن الرؤية الحقيقية لا تتحقق إلا إذا اعتدلت العينان وانسجمتا؛ وهذه هي البصيرة التي يمتدحها القرآن.

المصدر : صحيفة الخليج

وسوم: