القاهرة – «الخليج»
صدر كتاب جديد في أدب الرسائل بعنوان «مراسلات لو سالومي وسيجموند فرويد» بترجمة وتقديم ماهر رزوق، نكتشف من خلاله أن سالومي من شدة شغفها بالتحليل النفسي، أهملت الكتابة الأدبية، وتعمقت في حقل التحليل النفسي، حيث يجمع الباحثون على أن فرويد أغرم بها، مع أنها كانت تخالفه في بعض النظريات النفسية، التي لها صلة بالنرجسية، وما لبث أن اعترف لها بالتفرد.
في إحدى رسائلها إليه صرحت بأنها كانت تترقب التحليل النفسي منذ طفولتها، ترقب الحلم الواعد، لذلك راحت تمارس تلك المهنة حتى وفاتها، أما هو فكان يستشعر حضورها المعنوي، حين تغيب عن محاضراته، التي كان يهدي أغلبها إلى طيفها الحائم حوله.
في عام 1911، التقت فرويد في مدينة ڤايمار وخلدت اللقاء في صورة مشهورة، تظهر فيها معه ومع زوجة كارل يونج، كان لقاء فرويد في نظرها ميلاداً ثانياً، إذ عقدت العزم على التخصص في التحليل النفسي في برلين وڤيينا.
كانت تعنى أولاً بنظرية عالم النفس النمساوي ألفرد أدلر، وتتابع محاضراته، ولما علم فرويد بذلك، اضطرم صدره حسداً، لكنه ما لبث أن استوعب المنافسة، وآثر تعزيز علاقة الصداقة المتينة التي وضعتها في دائرة مساعديه الأقربين.
تغطي هذه الرسائل الفترة ما بين عام 1912 حتى ما قبل وفاة لو أندرياس سالومي بوقت قصير، (ولدت سالومي في عام 1861 والتقت فرويد في مطلع القرن وتوفيت في عام 1937) احتفظت آنا فرويد بالرسائل، وسمحت بنشرها فيما بعد، أجاب فرويد على الرسالة الأولى بتاريخ 27 سبتمبر 1912 وتطورت العلاقة بينهما من خلال التوقيع، فقد كانت تناديه بعزيزي البروفيسور في كل رسائلها، ومع تعمق الصداقة بينهما كانت توقع رسائلها باسم «لو» وكان يناديها بهذا الاسم، وتضيف هذه الرسائل إلى فهمنا لشخصية «لو» وشخصية فرويد.
هي ابنة لواء روسي متدين، لاحقاً طلبت المساعدة من قس سويسري يكبرها بخمسة وعشرين عاماً، علمها الكثير، لكن في النهاية أفسد العلاقة بينهما بطلبه الزواج منها، أدى هذا الأمر إلى سعيها للبحث عن حياة جديدة، فلجأت إلى السفر لتكوين صداقات مع سلسلة من الرجال البارزين، أصبحت قريبة بشكل خاص من نيتشه وريلكه.
صداقة
بعد بضع سنوات انتقلت للعيش مع زوجها في برلين، حتى وفاته، وفي سن الخمسين أصبحت متحمسة للتحليل النفسي، ما دفعها إلى تبادل الرسائل مع فرويد، وحضور اجتماعات جمعية فيينا للتحليل النفسي، منذ ذلك الحين حتى نهاية حياتها، مارست التحليل النفسي بنشاط، وتمتلئ رسائلها إلى فرويد بالإعجاب والاقتراحات حول عمله، وكان فرويد معجباً بآرائها بشكل واضح، فقد نضجت صداقتهما وتطورت إلى صداقة مع عائلته، وبالأخص ابنته «آنا».
لكن المفارقة أن «لو» كمحللة نفسية نصحت الشاعر الألماني ريلكه، خلال موجات اكتئابه، بعدم عرض نفسه على طبيب نفساني، وإنما بالبحث عن الشفاء بما يكتبه كانشغالات فكرية وجمالية، فاتحة بذلك الباب لإحدى أهم نظريات الاستشفاء والتحليل النفساني بالفن (موسيقى، كتابة، رقص).
حين صارت سالومي تلميذة وصديقة لفرويد، أطلق عليها لقب: «الفهيمة» و«شاعرة التحليل النفسي» وقد كتبت في يومياتها سنة 1926، كما لو أنها كانت عارفة منذ البداية بمصيرها الفكري: «إن نظرت إلى الوراء، ينتابني الإحساس بأن حياتي كانت بانتظار التحليل النفسي منذ أن غادرت طفولتي». من ناحيتها سوف تفيد فرويد بدراساتها، فاتحة له آفاقاً خصبة لدراسة حالات إكلينيكية، لنساء شهيرات باضطراباتهن النفسية، لكن تأثيرها الأكبر في رائد التحليل النفسي يتبدى في دراسة الشعور الديني وتعقيده الغرائزي من خلال كتابه «موسى ودين التوحيد».
تتوطد العلاقة والتأثير بينهما في شكل تلك الرسائل المنتظمة، بين عامي 1912 و1936، وتكشف الرسائل عن إيمان فرويد بقدرات «لو» كمحللة نفسية، لدرجة أنه دفعها إلى الأخذ بيد ابنته «آنا» في اكتشاف ذاتها وبواطن أنوثتها، رغم ما بين الاثنتين من اختلاف في تناول الظواهر والحالات النفسية.
سنتان قبل وفاتها، تكتب «لو» إلى فرويد، عرفاناً منها بأثره في مهنتها وملكاتها كطبيبة نفسانية، ففي رسالة مكتوبة بتاريخ مايو 1935 تقول: «آه لو يتيسر لي أن أرى وجهاً لوجه، ولو لعشر دقائق فقط، أن أرى وجه هذا الأب الذي هيمن على حياتي».
وقبل هذا التاريخ في يوليو 1931، يكتب لها فرويد، ممتدحاً واحداً من أواخر كتبها: «رسالة مفتوحة إلى فرويد» يقول: «إنه من أجمل النصوص التي قرأتها لك، أنت، هنا، تقدمين شهادة عفوية حول تفوقك علينا، تفوق يتطابق مع الذرا التي نزلت منها نحونا».
توفيت لو أندرياس سالومي في 5 فبراير 1937 في سن يقارب السابعة والسبعين، في منزلها، سمع فرويد بالخبر، وكتب نعياً عندما كان يعيش في فيينا بعد نحو عام من الاحتلال النازي للنمسا، ونحو سنتين ونصف السنة قبل وفاته في لندن في 23 سبتمبر 1939 وهذا مقطع مما كتبه عنها: «لا أبالغ إذا قلت إننا جميعاً شعرنا بالشرف، عندما انضمت «لو» إلى صفوفنا، كانت رفيقة السلاح، وفي الوقت نفسه ضمانة جديدة لصحة نظريات التحليل.
كان تواضعها وتحفظها أكثر من العادة، لم تتحدث إطلاقاً عن أعمالها الشعرية والأدبية الخاصة، كانت تعرف بوضوح أين يمكن العثور على القيم الحقيقية في الحياة».
المصدر : صحيفة الخليج
