استطلعت «الخليج» آراء عدد من المختصين والخبراء لرصد أسباب اتساع ظاهرة التأليف في السنوات الأخيرة، وكشف أبعادها الفكرية والاقتصادية والاجتماعية.
يرى المؤلف والناشر جمال الشحي أن الدوافع التي تقف وراء إقبال أعداد كبيرة على خوض تجربة التأليف اليوم متداخلة ومعقّدة، ولا يمكن حصرها في سبب واحد، مؤكداً أن السؤال حول «الهوية والوجاهة والتأثير» يعكس جوهر الإشكالية الراهنة في المشهد الثقافي.
ويقول الشحي إن أحد أبرز هذه الدوافع يتمثل في ما يسميه «أزمة المعنى»، حيث يكتب كثيرون بدافع إعلان الوجود وإثبات الرأي والهوية الفكرية، في محاولة للقول: «أنا موجود، ولدي فكرة ورأي يستحق أن يسمع». ويضيف أن صفة «كاتب» أو«مؤلف» لا تزال تحمل وزناً رمزياً كبيراً في المجتمعات العربية والشرق أوسطية، وترتبط بالوجاهة الاجتماعية والصورة الذهنية الإيجابية، وهو ما يغري كثيرين بخوض التجربة، حتى قبل اكتمال أدواتها.
ويشير الشحي إلى أن بعض المؤلفين تحركهم أيضاً فكرة «ترك الأثر»، بوصفها حاجة إنسانية وفلسفية عميقة، تتقاطع فيها الرغبة في الخلود المعنوي مع الطموح الشخصي: «كثيرون يعيشون وَهْم ضرورة أن يكون لهم أثر في هذه الحياة، وأن يتحول هذا الأثر إلى كتاب يحمل أسماءهم».
وحول علاقة تضخم عدد الإصدارات بسهولة النشر، يؤكد الشحي أن التطور التكنولوجي لعب دوراً حاسماً في تحويل عملية النشر إلى إجراء ميسّر بعد أن كانت مليئة بالعوائق، فالنشر اليوم بحسب تعبيره أصبح متاحاً لأي شخص وهو في مدينته، بل وحتى من منزله، بفضل الطباعة عند الطلب والمنصات الرقمية. كما أن استخراج رخص دور النشر بات أمراً سهلاً نسبياً، خاصة في منطقة الخليج، ما أدى إلى تزايد كبير في عدد الناشرين.
يرى الشحي أن الشباب اليوم يعيشون ثنائية متناقضة: فهم محظوظون بتوفر الأدوات والإمكانات التقنية غير المسبوقة، لكنهم في الوقت ذاته يعيشون تحت ضغط نفسي هائل لتحقيق إنجاز استثنائي في زمن قياسي.
ويشدد الشحي على ضرورة عدم التعميم، موضحاً أن هذا المشهد المزدحم لا يخلو من كتاب حقيقيين ينتجون أعمالاً ستبقى خارج منطق «الترند». ويؤكد أن الأمل الحقيقي معقود على العلماء والأكاديميين والكتاب الجادين أصحاب المشاريع المعرفية العميقة، سواء في العالم العربي أو في الغرب، بوصفهم الضمانة الحقيقية لاستمرار القيمة الفكرية في زمن الصخب الثقافي.
تحولات
من جانبه بين الناشر د.سيف الجابري، أن الارتفاع الكبير في عدد المؤلفين خلال السنوات الأخيرة هو نتيجة طبيعية لتحولات ثقافية ومؤسسية عميقة خلال العقد الماضي، مشيراً إلى أن ظهور دور نشر وطنية مملوكة ومدارة بأيد وطنية شكل نقطة تحول حقيقية في المشهد الثقافي.ويقول الجابري: إن هذه الدور تحملت أعباء مالية وتنظيمية كبيرة لإثبات حضورها، مستندة إلى دعم واضح من المؤسسات الحكومية، ومعارض الكتب الكبرى، وهو ما أتاح بيئة حاضنة للنشر والإبداع لم تكن متوفرة بهذا الاتساع سابقاً.
وأوضح أن هذا المناخ الثقافي المشجع دفع دور النشر الوطنية إلى احتضان الأقلام الجديدة، لا سيما من فئة الشباب، وتحفيزهم على خوض تجربة الكتابة، بدوافع متباينة تتراوح بين الشغف الحقيقي بالكلمة، والرغبة في التعبير والبوح، وصولاً إلى السعي نحو الظهور وتحقيق الاعتراف الاجتماعي، وهو أمر يراه «طبيعياً في أي تجربة إبداعية».
وأضاف أن دخول حملة الماجستير والدكتوراه إلى مجال التأليف أسهم أيضاً في تضاعف عدد الإصدارات، إذ وجد كثير منهم في النشر امتداداً لمسارهم الأكاديمي ووسيلة لتقديم المعرفة للمجتمع بصورة مبسطة. كما لعبت معارض الكتب ومنصات توقيع الإصدارات دوراً محورياً في تشجيع المزيد على خوض تجربة التأليف.
وحول ما إذا كنا نعيش «فقاعة تأليف»، يلفت الجابري إلى أن سهولة إجراءات النشر وتحول بعض دور النشر إلى نموذج تجاري قائم على الإكثار من العناوين لتعويض ضعف المبيعات، أسهما في تضخم عدد الإصدارات. لكنه يؤكد في الوقت ذاته أن هذه الوفرة لا تعني بالضرورة غياب القيمة، بل تفرض تحدياً حقيقياً على مستوى الفرز الثقافي وجودة المحتوى.
في السياق الاجتماعي لهذه الظاهرة، توضح المختصة الاجتماعية حصة فهد الفارسي أن الإقبال المتزايد على خوض تجربة التأليف في السنوات الأخيرة يعود إلى تداخل مجموعة من الدوافع النفسية والاجتماعية، التي تختلف من شخص إلى آخر، لكنها تلتقي جميعها عند نقطة مركزية هي «إثبات الذات».
وترى حصة الفارسي أن البحث عن الاعتراف والهوية يشكل أحد أبرز هذه الدوافع، إذ يجد كثيرون في الكتابة وسيلة فعالة لبناء هوية شخصية مميزة، والتعبير عن الأفكار والتجارب الذاتية، بما يعزز الشعور بالانتماء والتفاعل مع المجتمع. وتضيف أن الكاتب من خلال النص يسعى إلى إيصال صوته، وإثبات وجوده الرمزي في فضاء عام يتسع فيه التنافس على الحضور.
وبالتوازي مع ذلك، تشير إلى أن الرغبة في الوجاهة الاجتماعية باتت دافعاً لا يمكن تجاهله، لا سيما في ظل هيمنة وسائل التواصل الاجتماعي التي أعادت تعريف مفاهيم الشهرة والنجاح. فإصدار كتاب اليوم، بحسب الفارسي، أصبح لدى البعض وسيلة للظهور وصناعة الصورة الاجتماعية، والمشاركة في النقاشات العامة بوصفه «كاتباً» أو «مؤلفاً»، وهو لقب لا يزال يحمل ثقله الرمزي في الوعي المجتمعي.
وفي ما يتعلق بدور وسائل التواصل الاجتماعي، ترى حصة الفارسي أنها لعبت دوراً محورياً في تضخيم الشعور بضرورة تحقيق الإنجاز السريع، إذ تعرض المنصات الرقمية النجاحات بصورة فورية ومكثفة، ما يخلق حالة من المقارنة المستمرة بين الأفراد. هذه المقارنات، برأيها، تولد ضغطاً نفسياً متواصلاً يدفع البعض إلى السعي المحموم لإنتاج إنجاز ظاهر، حتى وإن كان على حساب التدرج الطبيعي أو النضج المعرفي. وترى أن إصدار كتاب قد يكون في بعض الحالات وسيلة للهروب من هذا الضغط، أو استجابة مباشرة له، عبر تقديم إنجاز ملموس يحمل اسم صاحبه، ويمنحه شعوراً بالتحقق والاعتراف.
رغبات
تؤكد إيمان محمد السويدي مدربة القيادة والتأثير الفعال، أن اندفاع الكثيرين إلى خوض تجربة التأليف يرتبط برغبة في إثبات الذات وترك بصمة فكرية أو اجتماعية، لكنها ترى أن الدافع الحقيقي وراء الكتابة يجب أن يكون نابعاً من رغبة في التأثير الحقيقي لا مجرد الظهور. وتشير إلى أن الوسط التدريبي والإرشادي يعيش اليوم نوعاً من الضغوط غير المعلنة، إذ يتوقع من كل مدرب أن يمتلك كتاباً يعبر عن فكره، حتى صار إصدار الكتب جزءاً من الهوية المهنية للمدربين.
وتضيف إيمان السويدي أن للتأليف أبعاداً متعددة، فقد يكون وسيلة لتسويق الذات أو توثيق المعرفة أو تعزيز المكانة الاجتماعية، لكنها تشدد على أهمية جودة المحتوى وعمقه، فالقيمة لا تكمن في النشر ذاته، بل في قدرة الكاتب على تقديم معرفة مؤثرة تضيف للقارئ وتسهم في تطوير وعي المجتمع.
وفي حديثها عن مفهوم الإنجاز، ترى إيمان السويدي أن وسائل التواصل الاجتماعي أسهمت في تضخيم الشعور بالنجاح الآني، إذ بات كثيرون يحتفلون بالإنجاز في لحظة تكريم أو حصول على شهادة وكأنها نهاية المسار، بينما القائد الحقيقي يدرك أن الإنجاز محطة مؤقتة في رحلة التطور. وتقول إن الفارق بين «النجاح» و«الأثر» هو ما يميز الكاتب الفعال، فالأول يخص الفرد، أما الثاني فينعكس على الأسرة والمجتمع والوطن والعالم.
أعمدة
ترى الكاتبة د.مريم الهاشمي أن الكتابة والتأليف يشكلان أحد أهم أعمدة الحضارة الإنسانية، ووسيلة لخلود الإنسان عبر اللغة. وأن الكتابة ضرورة وجودية وحضارية، مهما اختلفت أشكالها ووسائطها، وأن عملية التأليف في جوهرها «صناعة ذاتية»، حتى وإن ساعدت الظروف الخارجية أحياناً على بروز الموهبة وصقل التجربة. فالدافع الحقيقي للكتابة مصدره القلق الداخلي، والشغف، وسبر أغوار المعرفة. ولهذا فإن الكاتب الملتزم، في رأيها، يفرض على نفسه نظاماً صارماً قبل الشروع في الكتابة، وتلفت الهاشمي إلى أن الانتشار الواسع لمنصات التواصل أسهم في رواج الكتابات السريعة، ونشر النصوص والكتب ذات اللغة الضعيفة والمحتوى الهش، ما ترك أثراً مباشراً في الذائقة العامة والوعي القرائي. لكنها في الوقت ذاته تؤكد أن التاريخ في كل مراحله حمل الجيد والرديء معاً، وأن الأعمال العظيمة غالباً لم يدرك أصحابها عظمتها في لحظة إنتاجها، بل كرست قيمتها مع الزمن.وفي المقابل، لا تنفي الهاشمي التأثير السلبي لبعض القنوات الإلكترونية، وانتشار الكتب الركيكة، التي يسرت آليات النشر وصولها إلى القارئ، فأسهم في إرباك الذائقة وتراجع مستويات التلقي الرصين. ومواجهة هذه التأثيرات لا تكون إلا بجهد تكاملي مع المؤسسات الثقافية، والناشرين والكتاب، والقراء أنفسهم.
محرك «السوشيال ميديا»
ثمة لحظة مغرية يعيشها كثيرون اليوم، وهي الوقوف أمام غلاف كتاب يحمل اسمهم، والمشكلة هنا ليست في الرغبة، ولا في الشغف، بل في أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت المحرك والدافع للكثيرين لخوض التجربة، فصار طريق التأليف أقصر مما كان، وأحيانا أقصر مما ينبغي.
قبل سنوات، كان الكتاب يمر بعدة أطوار تتمثل في التجربة، والقراءة العميقة، والمعايشة، ومحاولة كتابة نص يضيف شيئا إلى العالم. أما اليوم، فحلت “بوابة الشهرة” مكان كل ذلك، ولم يعد الكاتب شغوفا بما يكتب، بل بما سيقوله المتابعون فور نشر صورة الكتاب على صفحات التواصل، ليتحول الغلاف إلى مكافأة سريعة جاهزة للنشر.
لقد منحت وسائل التواصل الاجتماعي لكل فرد منبرا وجمهورا، يمكن أن يصفق لأي منشور أو اقتباس، ولأن الإعجاب الافتراضي يأتي بسرعة، نشأ لدى كثيرين شعور بأنهم يملكون الخبرة أو العمق لإصدار كتاب، فالفكرة البسيطة التي كانت تحتاج إلى سنوات من النضج، غدت قابلة للطباعة بعد سلسلة تغريدات أو نالت عددا كبيرا من «الإعجابات»، وهكذا صار طريق الكاتب إلى دار النشر يمر عبر الهاتف أكثر مما يمر عبر قاعات القراءة أو تجارب الحياة.
كما أن هذه المنصات تغذي الإحساس بالتميز وتشعل المقارنة المستمرة، وحين ينشر أحدهم صورة لغلاف كتابه، يتحول المشهد إلى دعوة غير مباشرة للآخرين لركوب الموجة نفسها، والدافع طبعا ليس الإسهام في الفكر أو الأدب، وانما الخوف من البقاء خارج دائرة الضوء، وبذلك، أصبح إصدار الكتاب عند البعض خطوة رمزية لإثبات الوجود الرقمي.
المفارقة أن هذا الاندفاع نحو النشر لم يضاعف عدد القراء، بل زاد اتساع الفجوة بين «مؤلفين جدد» وجمهور يقرأ أقل فأقل، تحول معه الكتاب إلى سلعة ترويجية شيئا فشيئا، وفي ظل هذا المشهد، يواجه الكاتب الجاد صعوبة أكبر في لفت الانتباه إلى ابداعه وسط هذا الكم من العناوين المتكررة اللامعة.
شهرة لحظية
إن وسائل التواصل الاجتماعي لم تكتفِ بتسريع وتيرة النشر، بل غيرت معنى الكتاب نفسه: من ثمرة تجربة وإنضاج فكر، إلى وسيلة عبور إلى الشهرة اللحظية، وبين هذا الانبهار الجماعي بالمظاهر، تضيع أحيانا القيمة الجوهرية للكتابة التي لا تقاس بعدد المتابعين، بل بما تضيفه حرفيا إلى الإنسان والعالم.
تجربة التأليف في جوهرها تتطلب دقة وتمهلا، وهذه العملية كانت تستغرق سنوات في الماضي، أما اليوم فالتكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي تظهر لنا العكس، حيث ان الخطوة الأولى هي الإعلان، والخطوة الثانية هي التسويق، أما الكتاب نفسه فيأتي في المرتبة الثالثة… وربما الأخيرة.
عوامل اقتصادية
نشهد اليوم ارتفاعا لافتا في عدد المؤلفين، وعناوين الكتب التي تتكاثر كأنها نتاج موسم خصب، وللوهلة الأولى، يبدو المشهد احتفاليا بالكتابة والكتاب، لكن قراءة المشهد بتمعن تكشف أن ما يحدث ليس طفرة إبداعية بقدر ما هو تحول اقتصادي داخل صناعة النشر.
الحقيقة التي لا تقال كثيرا هي أن دور النشر لم تعد تربح من بيع الكتب للقارئ، بل من بيع خدمة النشر للمؤلف. الكتاب هنا في صورته الاقتصادية لم يعد منتجا معرفيا، بل تحول الأمر إلى «صفقة» مضمونة بمجرد أن يتقدم المؤلف ويدفع الرسوم، وهكذا تغير موقع المؤلف من شريك إبداعي إلى «زبون» تأتي منه الإيرادات، فقد انخفضت مبيعات الكتب الورقية، وارتفعت تكلفة الورق والطباعة، وتحول المستهلك العربي نحو المحتوى الرقمي، وأمام هذا الانكماش لم تجد كثير من دور النشر حلا سوى زيادة عدد العناوين لتعويض نقص العائدات، . وكل عنوان جديد يعني بلغة السوق دفعة مالية مباشرة في جيب الناشر، ناهيك عن أعمال التحرير، والتنسيق، والتصميم والطباعة، وربما حملة تسويق سريعة، كلها خدمات مدفوعة، ولا يمكن تحقيق هذه الارباح من سوق القراء وحدهم.
وظيفة جديدة كما أنه أصبح للكتاب وظيفة جديدة، وهي تعزيز الحضور الشخصي، كحفلات التوقيع، أو النشر على وسائل التواصل، هذا يكفي البعض لخلق شعور بالرضا، حتى لو بقيت الصناديق المليئة بالنسخ مغلقة في المستودع، وفي اقتصاد يبحث عن الطلب أينما كان، وجدت دور النشر في هذا «الطلب لاجتماعي» فرصتها الذهبية، هنا، يمكننا ملاحظة اتساع السوق عرضا لا عمقا، فالإصدارات كثرت، والقراء هم هم، وهذه معادلة مختلّة أشبه بفورة إنتاج بلا استهلاك.
لا ننكر أنه ثمة تجارب ممتازة ودور نشر تحافظ على صرامتها، وكتاب يتعاملون مع الكتابة بحس فكري طويل النفس، لكن الظاهرة الكبرى تتجاوز هؤلاء، وتكشف عن اقتصاد نشر جديد يقوم على السرعة لا الجودة، وعلى العدد وليس العمق.
يبدو أن الكتاب الذي كان يوما شهادة عبور لمؤلفه نحو عالم الثقافة، أصبح عند البعض مجرد محطة في رحلة التسويق الشخصي. ومع ذلك، يبقى الأمل قائما في أن تعود الصناعة إلى توازنها، حين يدفع السوق نفسه نحو الجودة، لا نحو الكثرة.
المصدر : صحيفة الخليج
