منشور عبر منصات التواصل الاجتماعي يحرك تهافتاً على الشراء يفرغ المخازن.. في 2025، لم يعد “الترند” مجرد لحظة عابرة نشاهدها على شاشات الهواتف، بل تحول إلى محرك فعلي للإنفاق، قادر على توجيه قرارات الشراء وخلق موجات إنفاق لم تكن مدرجة في أي ميزانية تسويق تقليدية.
إذاً ما هي الأسواق المصغرة التي انتقلت بسرعة من الشاشة إلى المتاجر، ومن المتاجر إلى ميزانيات الشركات في 2025؟ إليكم مجموعة من الظواهر الرقمية التي حرّكت أموالاً وأسواقاً هذا العام.
الفستق أساساً لمنتج رائج
لم يكن الفستق في 2025 مجرد نكهة موسمية، بل أصبح نجم منصات الطعام بلا منازع، إذ قفز الاهتمام الرقمي بالمكوّن الأخضر بقوة، مع مضاعفة عمليات البحث عنه خلال عام واحد، وارتفاع لافت في استخدامه ضمن وصفات المشروبات والحلويات وحتى الأطباق الرئيسية.
هذا الزخم البصري، الذي لعبت طفرة “شوكولاتة دبي” دوراً محورياً في إطلاقه عالمياً، لم يبق حبيس الشاشات، بل انتقل سريعاً إلى السوق الحقيقية. فبحسب بيانات شركة “ييلب” (Yelp)، ارتفعت عمليات البحث عن الفستق بين يونيو 2024 ومايو 2025 بأكثر من الضعف، فيما ارتفعت عمليات البحث عن “قهوة الفستق” بنسبة 128%، وقفز الاهتمام بـ”شوكولاتة الفستق” بنحو 8942%.
النتيجة كانت مباشرة: أسعار أنصاف وقطع الفستق، وهي الشكل الأكثر استخداماً في صناعة الحلويات، ارتفعت بنحو 17% على أساس سنوي لتصل إلى حوالي 23 دولاراً للكيلو، معززة بذلك هوامش أرباح المزارعين.
في مقابلة مع بلومبرغ، قال جيم زايون، الشريك الإداري في شركة “ميريديان غروورز” (Meridian Growers)، التي تتولى تسويق منتجات مجموعة من مزارعي ومعالجي المكسرات في الساحل الغربي الأميركي إن الفستق “هو أكثر المكسرات رواجاً اليوم… الجميع يريد أن يدخل سوق الفستق”.
موجة الطلب هذه دفعت شركات زراعية كثيرة إلى توسيع طاقاتها الإنتاجية والاستثمار في تصنيع معجون الفستق، فيما ضخت جمعيات صناعية ملايين الدولارات في حملات تسويقية لضمان استمرار الزخم مع دخول مواسم حصاد قياسية.
يأتي هذا الطلب المتسارع في وقت تتوقع فيه وزارة الزراعة الأميركية أن يتجاوز موسم 2025–2026 الذي يبدأ في سبتمبر، مستويات الإنتاج القياسية السابقة، ما يعكس رهان القطاع على استمرار شهية السوق خلال العامين المقبلين.
يعكس هذا المشهد أن موجة الفستق لم تكن مجرد ضجة عابرة، بل جزءاً من مسار توسع أكبر في السوق، إذ تشير بيانات “موردور إنتيليجينس” إلى أن حجم سوق الفستق العالمية ارتفعت من نحو 4.5 مليار دولار في 2023 إلى حوالي 5.7 مليار دولار في 2025، مع توقعات باستمرار النمو خلال السنوات المقبلة لتصل إلى نحو 7.16 مليار دولار بحلول 2030.
لابوبو: “ترند” يصنع اقتصاداً متكاملاً
في زاوية أخرى من المشهد الاستهلاكي، خلقت دمى “لابوبو” الصغيرة ضجيجاً مختلفاً، لكنه لا يقل تأثيراً. مشاهد فتح صناديق المفاجآت، وردود الأفعال العفوية، والإصدارات النادرة، حولت منتجاً بسيطاً إلى اقتصاد قائم بذاته.
في النصف الأول من 2025، حققت شركة “بوب مارت” صاحبة الدمية إيرادات بلغت نحو 1.95 مليار دولار، بارتفاع 204% على أساس سنوي، بحسب بيانات الشركة. كما تجاوزت هوامش الربح 70%، وهي مستويات تقارن بعلامات رفاهية مثل “هيرميس”، ما يعكس قوة التسعير التي خلقتها الندرة والطلب الرقمي.
زخم انعكس مباشرة على الشركة التي لامست قيمتها السوقية هذا العام نحو 55 مليار دولار في ذروة موجة صعود السهم، فيما اقتربت ثروة مؤسسها، وانغ نينغ، من 27 مليار دولار، وفق مؤشر بلومبرغ للمليارديرات.
ولم يتوقف الأمر عند المبيعات المباشرة، إذ نشأت سوق ثانوية نشطة تُباع فيها الإصدارات النادرة بعلاوات سعرية كبيرة، وصلت في بعض الحالات إلى عشرات آلاف الدولارات، مع تسجيل مزاد في بكين بيع دمية “لابوبو” نادرة بنحو 150 ألف دولار.
هذا النمو لم يكن نتيجة جودة المنتج وحده، بل لآلية “الندرة المصممة”، التي تقوم على إصدارات محدودة، وصناديق مفاجآت، وترقب رقمي جماعي. وبهذا المعنى، لم يعد “لابوبو” مجرد “ترند” عابر، بل تحول إلى مثال حي على كيف يمكن للإنترنت أن يحول منتجاً منخفض السعر إلى “أصل” قابل للتداول.
المفارقة أن “لابوبو” لم تبق بعيدة عن عالم الرفاهية نفسه، إذ اعتمدت في شهرتها على صور هواة علقوا الدمى “القبيحة اللطيفة” على حقائبهم الفاخرة التي تُقدر قيمتها بمئات الآلاف من الدولارات، في مشهد جسد التقاء ثقافة “الترند” الشعبي مع رمزية السلع فائقة الغلاء.
جيل “زد” يحيي سوق الكاميرات الرقمية
شهد عام 2025 أفضل زخم لصناعة الكاميرات الرقمية منذ سنوات، مدفوعاً بإقبال جيل “زد” على أجهزة التصوير المستقلة عن الهواتف الذكية. الحنين إلى الصورة “غير المثالية”، والرغبة في تمييز المحتوى بصرياً، أعادا الحياة إلى فئة ظن كثيرون أنها في طريقها إلى الزوال.
تشير بيانات شحنات الصناعة الصادرة عن “رابطة مصنعي الكاميرات” (CIPA) إلى شحن نحو 4.3 مليون كاميرا رقمية عالمياً في النصف الأول من 2025، بزيادة تعادل 116.6% مقارنة بالفترة نفسها من عام 2024، في أداء يعد الأفضل للصناعة منذ عام 2019.
هذا الطلب المتجدد لم يقتصر على شحنات الكاميرات الجديدة فحسب، بل امتد أيضاً إلى أسواق السلع المستعملة، حيث ارتفع اهتمام “جيل زد” بكاميرات السنوات الأولى من العقد الأول للألفية، ولا سيما بعض الطرازات الشهيرة من شركتي “سوني” و”كانون”.
هذه الكاميرات، التي كانت تُباع سابقاً بأسعار متواضعة، باتت تُعرض اليوم على منصات إعادة البيع بأسعار تتراوح بين 200 و300 دولار في حالات كثيرة، وأعلى من ذلك لبعض الطرازات المرغوبة، مع تصاعد الطلب واحتدام المنافسة بين المشترين مقارنة بما كانت عليه الأسعار قبل موجة “الترند” الحالية.
الهواتف “الغبية”.. بيع رغبة الانفصال عن الإنترنت
وسط الإرهاق الرقمي المتزايد، وجد اتجاه “الديتوكس الرقمي”، أي التوقف عن استخدام كافة أشكال التواصل الرقمي، طريقه إلى سوق الأجهزة المحمولة، إذ عادت الهواتف التقليدية و”القابلة للطي” كخيار واع يعكس تحولاً في سلوك المستخدمين، مع بحثهم عن اتصال محدود، وعمر بطارية أطول، وتجربة أبسط. وقد ساهم مستخدمو منصات التواصل الاجتماعي من “جيل زد” في ترسيخ هذا التوجه، عبر تقديم الهواتف “الغبية” بوصفها رمزاً للهدوء والتركيز، عكس ما تمثله الأجهزة “الذكية”.
شركة “إتش إم دي” (HMD) مثلاً، المالكة لعلامة “نوكيا”، أعلنت في مارس 2025 عن تحقيق نمو مزدوج الرقم لعامين متتاليين في فئة الهواتف التقليدية، مع زيادة 10% في مبيعات هذه الأجهزة في 2024، مدفوعة بموجة الحنين إلى الماضي والرغبة بالابتعاد عن الهواتف الذكية، وهي اتجاهات تقول الشركة إنها استمرت بقوة هذا العام.
الشركات العملاقة لم تفلت من عدوى “الترند”
حتى العلامات التجارية العملاقة وجدت نفسها منجرفة مع توجهات صيحات الإنترنت، مثل كوب “بيريستا” (Bearista) على شكل دب من “ستاربكس”، الذي أثار هوساً رقمياً وطوابير طويلة أمام المتاجر عند إطلاقه، قبل أن تحول الشركة الزخم إلى لعبة تسويقية ضمن حملاتها الترويجية. رغم أن الكوب لم يُحدث تحولاً في النتائج السنوية للشركة، إلا أن بيانات تحليلية أشارت إلى أنه ساهم في رفع حركة الزيارات والمعاملات لفترة قصيرة، مع زيادة مؤقتة في المبيعات بنحو 64 مليون دولار خلال الأيام التي تلت انتشاره السريع، بحسب تقديرات شركة “نيوميريتور” (Numerator) المتخصصة في أبحاث سلوك المستهلكين.
لم يكن هدف “ستاربكس” تغيير مسار إيرادات الشركة، كما جاء في اتصال مع المستثمرين، بل توظيف “الترند” كأداة لتحفيز التفاعل والحركة التشغيلية، وهو ما يوضح كيف باتت حتى الشركات العملاقة تتعامل معها كوسيلة لزيادة المبيعات، لا مجرد كظاهرة عابرة.
اقتصاد الترند: شركات تبني منتجاتها على الهوس الرقمي
في جوهر هذه “الترندات”، لا تكمن القيمة بالمنتج بحد ذاته بقدر ما تكمن في التجربة النفسية التي تصاحب شراءه. الخوف من تفويت الفرصة، والرغبة في الانتماء، وآليات الندرة المصممة، كلها عناصر حولت الاستهلاك في 2025 من قرار عقلاني إلى رد فعل عاطفي سريع، تغذيه الخوارزميات وتسرّعه المنصات.
ما تكشفه هذه الأمثلة مجتمعة هو أن “الترندات” لم تعد لحظات عشوائية تحرّك السوق، بل مكوّناً أساسياً في نماذج أعمال قطاعات بأكملها. شركات مثل “بوب مارت” بنت هوامش ربح كبيرة على مفهوم “الندرة المصممة” والإصدارات المحدودة، فيما طورت منصات تجارة مثل “متجر تيك توك” نموذج بيع قائم بالكامل على “الاكتشاف الفيروسي”، حيث يتحول مقطع قصير لمنتج ما إلى عملية شراء فورية. وتجاوزت قيمة البضائع المُباعة عبر “متجر تيك توك” حوالي 26.2 مليار دولار في النصف الأول من 2025، بحسب بيانات “مومنتم ووركس” (Momentum Works).
حتى في قطاع التصنيع، لم تعد الشركات تنتظر مواسم معينة أو تعتمد على التوقعات طويلة الأجل لإطلاق منتجاتها، فعلامات مثل “شي إن” باتت تعتمد اليوم على إطلاق دفعات صغيرة من المنتجات، لتوسع إنتاجها لاحقاً عند إثبات نجاحها رقمياً. وبهذا أصبح “الترند” مدخلاً لقرار التصنيع نفسه، وليس مجرد أداة ترويج.
بين شاشة الهاتف وخط الإنتاج، تقلصت المسافة إلى حد أصبح فيه “الترند” أحد أسرع طرق تحريك المال في الاقتصاد الحديث.
المصدر : الشرق بلومبرج
