حتى في أفضل أوقاته، تحيط المخاطر عالم الأزياء الفاخرة، إذ إن التناقض الكامن في صميم هذه الصناعة، التي يهيمن عليها الطابع الأوروبي، يتمثل في ارتفاع أسعار منتجاتها نظراً لندرتها أو تميزها، فيما أنها تُنتج بكميات هائلة وتُباع في كل أنحاء العالم، ما يُنذر دائماً بتداعيها.
هذا صحيح حتى وإن جعلت عقود من الازدهار هذا القطاع يبدو أقل خطورة مما ينبغي. أما الآن، فقد باتت هذه المخاطر واضحة للعيان.
الإقبال على حقائب “لوي فيتون” يرفع أسهم “إل في إم إتش” ومبيعاتها
في عام 2023، كان يسهل الشعور بأن هذه الأوقات المزدهرة ستدوم إلى الأبد. ففي ذلك العام، حققت مجموعة ”مويت هينيسي لوي فيتون“ (Moët Hennessy Louis Vuitton)، أكبر وأقوى تكتل في عالم الأزياء، والتي تمتلك علامات تجارية مثل ”لوي فيتون“ (Louis Vuitton) و“ديور“ (Dior)، إيرادات تجاوزت 86 مليار يورو (100 مليار دولار)، وهي أكبر عائدات الشركة، بزيادة تتجاوز 50% مقارنةً مع مستواها قبل أربع سنوات فقط.
لقد تلقى قطاع الأزياء مبالغ هائلة من أموال الأثرياء في جميع أنحاء العالم بعدما تضخمت مدخراتهم خلال فترة الجائحة نتيجة إجازات بلا أسفار وأمسيات بلا ارتياد للمطاعم، ناهيكم عن تضخم حساباتهم الاستثمارية ومحافظ عملاتهم الرقمية وقيّم عقاراتهم.
أظهر هؤلاء المتسوقون، الذين شعروا بالملل في منازلهم، استعداداً لشراء أي شيء تقريباً تقدمه كبرى شركات الأزياء الأوروبية، وبأي ثمن على ما يبدو.
هل كان ارتفاع تكاليف أم اغتنام لفرصة نادرة؟
استجابت العلامات التجارية الفاخرة لهذا الاستعداد (أو إذا أردنا أن نعتمد رواية الشركات، لارتفاع تكاليف العمالة والمواد الخام) برفع أسعارها بشكل أكبر وأسرع مما كان يتخيله معظم عملائها. ووجد تقرير صادر عن بنك ”إتش إس بي سي“ (HSBC) أن أسعار السلع الفاخرة في أوروبا ارتفعت بنسبة 54% في المتوسط من نهاية عام 2019 حتى سبتمبر 2024، متجاوزةً بذلك معدل التضخم بكثير.
ارتفعت أسعار بعض المنتجات الأكثر رواجاً بقوة. في عام 2019، بلغ سعر حقيبة ”شانيل“ (Chanel) الكلاسيكية متوسطة الحجم – إحدى أشهر تصاميم الأزياء وأكثرها تميزاً – 5800 دولار في الولايات المتحدة. أما في بداية عام 2025، فقد وصل سعر الحقيبة نفسها إلى 10200 دولار.
حرب ترمب الجمركية على بكين تهز عرش “LVMH” للمنتجات الفاخرة
بحلول ذلك الوقت، بدأت تظهر بوضوح مواطن الخلل في واجهة صناعة الأزياء العالمية. كتبت كاثرين زاريلا، محررة الأزياء والمحاضرة المخضرمة، في مقال رأي بصحيفة ”نيويورك تايمز“ في ذروة موسم التسوق لعطلة 2024: “الرفاهية تدخل دوامة موت“.
في ذلك العام، سجلت كل من مجموعة ”مويت هينيسي لوي فيتون“ ومجموعة ”كيرينغ“ (Kering) – وهي المجموعة العملاقة الأخرى في عالم الأزياء، التي تملك علامات تجارية مثل ”غوتشي“ و“بالنسياغا“ – انخفاضاً في الإيرادات، ويُتوقع أن تشهد كلتاهما مزيداً من الانخفاض مع انتهاء عام 2025.
توقف النمو لأسباب عديدة: صحيح أن الأسعار كانت باهظة، لكن أفكار الصناعة كانت قديمة، وجودة كثير من منتجاتها تراجعت بشكل ملحوظ، وتراجع الاقتصاد الصيني ما أدى إلى انخفاض القدرة الشرائية للمستهلكين الصينيين الذين كانوا لسنوات المحرك الرئيسي لنمو صناعة الأزياء الأوروبية.
ثم جاء انتخاب دونالد ترمب مصحوباً بفوضى الرسوم الجمركية، ومخاوف الركود، وركود سوق العمل الأميركي، ما أثار قلق المتسوقين الأميركيين من ذوي الدخل المتوسط الذين عمل مسوقو المنتجات الفاخرة لعقود على إقناعهم بالإنفاق ببذخ على أحزمة تحمل شعارات فاخرة بأسعار تصل إلى 600 دولار وحقائب يد بأسعار تصل إلى 3000 دولار بين حين وآخر.
اتهامات عبر منصات التواصل الاجتماعى
كانت مشاكل صناعة الأزياء هذا العام سيئة جداً لدرجة أن وضعها أصبح موضوع نقاش بين الشباب الذين سيكون دعمهم حاسماً لمستقبلها. انتشرت مقاطع مصورة من مصنّعين صينيين على نطاق واسع في الولايات المتحدة عبر منصة ”تيك توك“، تزعم كشفها عن الأصول المشبوهة للمنتجات الفاخرة الأوروبية.
في الصين، أتاح الاستياء من عمالقة الموضة الأوروبية فرصةً للعلامات التجارية الفاخرة المحلية للتوسع، حيث حقق بعضها نمواً يصل إلى 1000% خلال العامين الماضيين، وفقاً لتحليل بيانات حديث من بلومبرغ.
الأولى أوروبياً.. القيمة السوقية لـ”LVMH” تتجاوز 500 مليار دولار
لقد ربط تحقيق يعمل عليه المدعون العامون الإيطاليون علامات تجارية مثل ”ديور“ و“أرماني“ باستغلال العمالة المهاجرة الصينية في مصانع إيطالية سرية، ما يعزز فكرة أن معظم السلع الفاخرة ليست مميزة في الواقع.
تؤكد العلامات التجارية المعنية أنها لم تكن على علم بتصنيع منتجاتها في تلك المصانع، مشيرةً إلى غموض سلسلة توريد الأزياء، إذ يُسند الموردون في كثير من الأحيان أعمال التصنيع إلى مصانع أرخص دون الحصول على إذن صريح من عملائهم.
تغييرات جذرية لكبح التراجع
لقد بذل المسؤولون التنفيذيون في القطاع جهوداً حثيثة لوقف الخسائر، أبرزها استقطاب مواهب إبداعية جديدة لإحياء بعض أهم العلامات التجارية في هذا المجال. إن ”بالنسياغا“ و“بوتيغا فينيتا“ و“سيلين“ و“شانيل“ و“ديور“ و“فندي“ و“غوتشي و“لوي“ و“فالنتينو“ وغيرها كثير، جميعها لديها مصممون جدد على رأس إدارتها، وهو مستوى من التغيير الجذري غير مسبوق في العصر الحديث للصناعة.
بينما يحاول آخرون استلهام استراتيجيات من شركات مثل ”هيرميس إنترناشونال“ ”وبرادا“ و“ذا رو“ (إحدى الشركات الأمريكية القليلة الجادة في هذا القطاع)، التي واصلت نموها حتى في الوقت الذي تعثرت فيه الشركات المنافسة.
إحدى الاستراتيجيات التي لا يجربها أحد هي خفض الأسعار: فحقيبة شانيل التي كانت تُباع بمبلغ 10200 دولار في يناير، أصبحت الآن تُباع لقاء 11300 دولار. وقد عادت مجموعة ”مويت هينيسي لوي فيتون“ إلى النمو في السوق.
“ديور” تخطو نحو الهند لجني المليارات من سوق السلع الفاخرة
شهدت مبيعات الربع الأخير تحسناً بنسبة 1% مقارنةً بالعام الماضي، إلا أن المسؤولين التنفيذيين عزا جزءاً كبيراً من هذا النجاح إلى قوة شركة ”سيفورا“ العملاقة في مجال التجميل، برغم استمرار تراجع تشكيلة الأزياء التابعة للمجموعة.
لا تقتصر جهود علامات الأزياء التجارية على مواجهة ارتفاع أسعارها وركودها الإبداعي لاستعادة العملاء فحسب، بل تتعداها إلى منافسة التصاميم والمواد التي كانت تقدمها في السنوات الماضية، التي كانت تتميز أحياناً بجودة أعلى.
بروز تداول المنتجات التي سبق اقتناؤها
تتوفر تشكيلة واسعة من تلك المنتجات (ناهيك عن وفرة من القطع المستعملة استعمالاً خفيفاً من التصاميم الحالية) بأسعار زهيدة على منصات إعادة البيع مثل ”ريل ريل (RealReal) و“فيستير كوليكتيف“ (Vestiaire Collective).
قد يتردد المتسوقون في شراء ما هو متوفر في متاجر الأزياء الفاخرة، لكن جزءاً من تلك الأموال يتدفق الآن إلى سوق الأزياء المستعملة، الذي ينمو بمعدل ثلاثة أضعاف نمو سوق المنتجات الجديدة، وفقاً لتقرير حديث صادر عن مجموعة ”بوسطن كونسلتنغ“ (Boston Consulting). قدّر التقرير نفسه قيمة سوق السلع المستعملة العالمية الحالية بنحو 210 مليارات دولار، مع توقعات بوصولها إلى 360 مليار دولار بحلول عام 2030.
التزوير المتقن أكبر تهديد لسوق السلع الفاخرة المستعملة
حتى في الصين، حيث لطالما تجنّب المتسوقون من ذوي الدخل المرتفع شراء الملابس والإكسسوارات المستعملة، بدأت هذه الظاهرة تكتسب رواجاً. فقد نما سوق إعادة البيع في البلاد بنسبة 35% تقريباً هذا العام، وفقاً لشركة الاستشارات “ديجيتال لكجوري غروب“ (Digital Luxury Group).
لطالما سعت كبرى شركات السلع الفاخرة التقليدية إلى النأي بنفسها عن تجارة السلع المستعملة، ويرفض معظمها التحقق من أصالة المنتجات المشتراة من هذه الأسواق. مع ذلك، ومع مرور كل عام، يصبح عملاؤها أكثر انفتاحاً على فكرة شراء ما هو مستعمل، وستستمر مناورات التسعير التي تتبعها هذه الشركات العملاقة، فضلاً عن جودة منتجاتها المتوسطة، في دفع المترددين إلى إعادة النظر في قرارهم.
لم يكن هناك وقت أفضل من الآن لشراء حقيبة جلدية مستعملة برفق أو معطف من الكشمير، كما أن التسوق من متاجر السلع المستعملة يوفر فرصة لم تتمكن أكبر العلامات التجارية من تقديمها للمتسوقين بشكل موثوق منذ سنوات: إمكانية العثور على شيء مميز وغير متوقع حقاً، والنجاة بعد هذا البحث دون الإضرار بأموالك.
المصدر : الشرق بلومبرج
