القاهرة: «الخليج»
إذا كانت ظروف عيشنا أفضل من ظروف عيش أجدادنا، فإنها لا من أن نعطي معنى وقيمة لوجودنا، وأن نشعر بالارتباط بالآخرين، ونحس بأن لنا مكاناً ضمن الروابط الاجتماعية، وعندما يتخذ المعنى طابعاً فردياً فيتحرر من التقاليد والقيم المشتركة، فإنه يرفع كل سلطة، فيصبح كل فرد سيد نفسه، ولا يكون عليه أن يقدم الحساب إلا لذاته.
في كتاب «اختفاء الذات عن نفسها.. مقاربة معاصرة» (ترجمة زكية البدور) يؤكد مؤلفه لوبروتون أن تفكك الروابط الاجتماعية يعزل كل فرد ويجعله مسؤولاً عن حريته، وعن التمتع باستقلاله الذاتي، ما يؤدي به إلى الإحساس بالنقص والفشل الشخصي، إن الفرد الذي لا يتوافر على إمكانات باطنية قوية لكي يتأقلم ويضفي على الأحداث دلالات وقيماً، تنقصه الثقة الكافية في نفسه، فيشعر بأنه عرضة للفشل، فيكون عليه أن يكون سند نفسه لكونه لم يتلق أي سند من الجماعة التي ينتمي إليها.
غالباً ما يغرق هذا الإنسان في جو من التوتر والارتياب ما يجعل حياته عسيرة على الدوام.يطمح كثير من معاصرينا إلى تخفيف الضغوط التي تثقل كاهلهم، وإلغاء ذلك الجهد الذي ينبغي بذله دون انقطاع، لكي يظل المرء هو نفسه على مر الزمان، ويكون دائماً في مستوى المتطلبات إزاء نفسه وإزاء الآخرين، وحتى لو لم تكن هناك صعوبة ضاغطة، إن الرغبة تنبع في بعض الأحيان في التحرر من الذات ولو لمدة محدودة، هروباً من رتابة الحياة وهمومها، فكل تخفف مفيد، وهو يمكن أحياناً من فك الروابط والتخفف من الضغوط. في مجتمع تفرض فيه المرونة الاقتصادية والعجلة والسرعة نفسها، يصبح المرء عاجزاً أحيانا على تهيئة نفسه لمواجهة العالم، وأن يتحمل تبعات استقلاله الذاتي، وأن يعطي معنى لحياته.
يشير المؤلف إلى أن الفرد لا يكون قط صانع وجوده، وهذا ليس فقط بسبب حتمية اندماجه في الروابط الاجتماعية، لكن أيضاً لكونه لا يعرف إلا جزئياً، ما هو عليه، وماذا يعمل، فهو في توازن لا يستقر، وهو لا ينفك يتحرك بين توترات متناقضة متبدلة.
كان فرويد يتحدث بهذا الصدد عن التوتر بين لذة الحياة والموت، بين البناء والهدم، لا يكون الفرد فقد جهة الوعي، وما يعتقد أنه عليه، ما يفكر أنه هو، إنه يجهل ثقل تاريخه الشخصي، الذي يدفعه إلى القيام بتصرفات ماضيه على حساب الحاضر في حياته العادية، لا أحد يتساءل عما هو، اللهم إلا بعد انفصال وفراق ومحنة شخصية، وهذه النظرة إلى الذات، حتى ولو كانت حادة، ليست إلا ضربة آلة فحص في سجل الذات، فالإنسان دائم الحركة وظرفي في محيطه.
من هنا – كما يرى المؤلف – تتخذ كتب السيرة الذاتية في المجتمعات الغربية أهمية قصوى، وكذلك المدونات عن الأجيال الشابة، وضرورة الحديث عن الذات لمعرفة من نكون.
المصدر : صحيفة الخليج
