قالت الدكتورة شذى الغزالي، خبيرة واستشارية في تطوير أسلوب الحياة، إن فكرة التقاعد المبكر لم تعد ترفاً أو هروباً من المسؤولية كما يراها البعض، بل هي انعكاس عميق لتحول جذري في نظرة الأفراد لمعنى العمل والحياة وفهمٌ جديد لأنماط الحياة المتكررة، مضيفة أنه في زمن تتسارع فيه المتغيرات، ويعلو فيه صوت الوعي بالذات، أصبح من الطبيعي أن يُعيد الشباب النظر في أنماط العمل التقليدية التي لا تتماشى مع قيمهم وأولوياتهم النفسية والروحية.
أسباب التقاعد المبكر المتزايد تبدأ من المنظومة، لا من الأفراد، حيث إن بيئة العمل الحالية في بعض المواقع لا تُراعي الإنسان بقدر ما تُراعي الإنتاجية، ما يتطلب ساعات عمل طويلة، وضغطاً نفسياً متراكماً، واختلال في مسارات التقدير والتحفيز، وأكدت شذى الغزالي أن كل هذه الأسباب تجعل الفرد يشعر أنه في سباق لا نهاية له، وأن العمر يُستنزف في ممرات لا تُشبهه.
وأضافت: «نحن أمام جيل لا يرى في الوظيفة نهاية الطموح، بل يرى فيها أداة مؤقتة وجسراً يعبرون منه لتحقيق حياة أكثر حرية ومرونة، واللافت أن هذا التوجه لا يرتبط بجنس معين، فكما تفكر النساء في التقاعد المبكر لتحقيق توازن بين الأدوار، كذلك الرجال باتوا أكثر وعياً بصحتهم النفسية وبأن المال لا يعوّض الحضور الحقيقي في الحياة خاصة لعائلاتهم، فسرعان ما يكبر الأبناء ويبدأ الوالدان باختبار ظاهرة العش الفارغ».
وبينت أن «ثقافة الالتزام الوظيفي لم تختفِ، لكنها تغيّرت، وأن الالتزام حالياً لا يعني البقاء في الوظيفة 30 سنة، بل يعني الإخلاص للقيم الشخصية، والسعي إلى عيش حياة منتجة ومتزنة بطرق أكثر إبداعاً، والشباب حالياً لا يُقاس ولاؤهم بعدد ساعات الدوام، بل بمدى تفاعلهم وشغفهم، وإحساسهم بالمعنى الحقيقي والمساهمة الفاعلة في بناء مجتمع آمن وسليم».
أما عن نظام الدوام الكامل، فإن شذى الغزالي، ترى أنه أصبح خارج سياق المرحلة، ولا يمكن أن يُطلب من شاب ثلاثيني لديه أطفال، أو من أم عاملة، أن يكونا بنفس القدرة على العطاء ضمن نفس الأطر الجامدة التي وُضعت منذ عقود، لافتة إلى أن العمل الجزئي والعمل عن بعد ضرورة لتقليل الاحتراق الوظيفي واستدامة العطاء.
وقالت: «أخشى بالطبع من خسارة الكفاءات المبكرة، لكنني أؤمن أن الجواب ليس بإجبار الأفراد على البقاء، بل بإعادة تشكيل بيئة العمل لتكون أكثر احتواءً وإنسانية، ما أطمح إليه حقاً هو تحويل هذه الظاهرة من تهديد محتمل إلى فرصة ذهبية، من خلال تطوير برامج مرنة، ودعم من اختار التوقف بفرص استشارية أو مؤقتة تحافظ على ارتباطه بالمجال الذي قدّم فيه ويمكنه تقديم المزيد».
وأضافت: «أما عن الصحة النفسية فإنه ما زال أمامنا طريق طويل، ما زالت بيئات كثيرة تعتبر الراحة رفاهية، وتتعامل مع الإجازة النفسية وكأنها ضعف، والمحصلة شباب يبحثون عن الثروة خارج الوظيفة لأنهم يشعرون أن سقف النمو داخلها منخفض، أو لأنهم لا يشعرون بانتماء حقيقي لجهات لا تقدرهم كإنسان كامل، بل كرقم إنتاجي، مشيرة إلى أن رواتب الوظائف تقليدية، وأن هناك جهلاً مالياً لدى الكثيرين، فليس الرقم هو الذي يحدد أسلوب الحياة وإنما آلية الإنفاق».
وقالت شذى الغزالي: «فكرت شخصياً في التقاعد المبكر، بالتأكيد فأنا أم وقضائي لوقت ذي جودة مع أبنائي أولوية بالنسبة لي، إلّا أن شغفي بالصحة العامة مع رغبتي في العطاء من خلال وظيفتي- لا يزال يحدوني على الاستمرار، لاسيما أن العمل في هذا المجال يتسق مع قيمي ورسالتي، وأن التقاعد المبكر يتطلب نظاماً تدريجيّاً داعماص للاستقلال المالي والنفسي، وهذا ما أعمل عليه حالياً».
ووجهت رسالة للشباب قائلة: «لا تتقاعد إلا إذا كانت لديك خطة واضحة، ولا تترك الوظيفة لتتفرغ للفراغ، التقاعد لا يعني نهاية العطاء بل بداية عطاء مختلف، بشرط أن يكون مبنياً على وعي، تخطيط، استثمار للخبرات السابقة وامتداد للعلاقات المهنية والاجتماعية كذلك».
المصدر : صحيفة الخليج
