كان خريف عام 2011 باكورة ثورة الهواتف الذكية، ومنذ ذلك التاريخ والعالم يتغير بإيقاع سريع، كذلك الكيفية التي نعمل بها، والسفر والتسلية والطريقة التي نتفاعل ونتواصل بها، في الواقع فإن وتيرة التغيير كانت سريعة للغاية بحيث كان من الصعب استيعاب ماهية ومقدار التغيير الذي حدث خلال العقد الماضي، فأدمغتنا ليست مصممة لفهم هذا المستوى الهائل من التغييرات، فنحن نقوم بتخزين واستدعاء ما هو مناسب بصورة آنية، كما أن قدرتنا محدودة في وضع الأشياء داخل سياقها التاريخي واستيعابها، عندما تكون وتيرة التغيير أكثر سرعة.
في كتابه «موسيقى العقل.. كيف يستعيد الدماغ السيطرة على إيقاعه في العصر الرقمي؟» (ترجمة أحمد عبد الفتاح) يقول كارل مارسي: إن أدمغتنا لا تضاهي أجهزة معالجة المعلومات في دقتها، ومع ذلك اعتدنا التفكير في أدمغتنا وكأنها أجهزة كمبيوتر، وحظي هذا الاعتقاد بدرجة قبول كبيرة، لدرجة أننا لم نعد نبالي بفكرة كوننا مبرمجين بالفطرة، أو نعيد برمجة أنفسنا، ولكن مع زيادة سرعة معالج الكمبيوتر، فضلاً عن جاهزيته وقدراته الفائقة في طريقها للتناقص، وهو الأمر الذي من شأنه أن يكون له عواقب وخيمة، وهذا ما يجري تناوله في هذا الكتاب.
تغيير
يوضح الكتاب أن أدمغتنا تتغير باستمرار، ويحدث تجديد لشبكة الوصلات العصبية من يوم ولادتنا حتى وفاتنا، وإن كان ذلك يحدث بطرق مختلفة على مدار حياتنا، وتشكل كافة التجارب من نحن وماذا سنكون؟ فالتجارب الصغيرة لها تأثير ضئيل على الدماغ، وتشكل بعض التجارب أدمغتنا للأفضل، والبعض الآخر للأسوأ، وهكذا تجاربنا مع الوسائط المتنقلة وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات.
باتت الشاشات الآن واسعة الانتشار، وفي كل مكان، في الفصل الدراسي، ومكان العمل، وفي كل جانب من حياتنا، وتعزز قابلية التنقل وإمكانية الوصول إلى الشاشات التجارب الصغيرة والكبيرة، في كل يوم، وربما عدة مرات على مدار اليوم، وهذه التجارب تعيد تشكيل أدمغتنا في ضوء ما تخلقه من عادات جديدة، كما أنها تؤثر في صحتنا العقلية والبدنية، وتحدد من نحن أو من نتظاهر بأننا نشبههم، وتؤثر في كيفية ارتباطنا ببعضنا.
يتناول الفصل الأول من الكتاب تشكيل الوصلات العصبية: العقول المتصلة، المعالم البارزة في تاريخ الوسائط والإعلان، والتي بدورها هيأت الظروف المواتية للصعود السريع، لما نسميه بالهاتف الذكي، وعرج بعدها على بعض المفاهيم الأساسية للقشرة الجبهية، وهي المنطقة الأكثر تعقيداً وتشابكاً في الدماغ البشري.
إن سطوة القشرة الجبهية واضحة طوال تاريخ تطور السلالات وعبر الخط الزمني للكائنات الحية، وكذلك خلال رحلة نمو الإنسان من الطفولة حتى البلوغ، فالقشرة الجبهية هي مفتاح إنسانيتنا، إنها المحرك للوظائف التنفيذية، كما تلعب دوراً حاسماً في علاقاتنا، ومن ناحية أخرى فإن القشرة الجبهية هي منطقة الدماغ الأكثر عرضة لتأثيرات التغيرات السلوكية الناجمة عن الوسائط والتكنولوجيا.
يؤكد المؤلف أن القشرة الجبهية تمكننا من السيطرة على الانفعالات، كما تحمينا من القرارات السيئة، وبالتالي تخفف من تأثير السلوكيات غير الصحية، التي يمكن أن تقود إلى العادات غير الصحية وعادات الإدمان، وكما سنرى فإذا أصبحت القشرة الجبهية عرضة للخطر، ولو بشكل طفيف، بسبب الإجهاد أو الإهمال أو التعب، وتعدد المهام عبر الوسائط، أو التحميل الزائد للمعلومات، أو الاستسلام للمنبهات الفائقة والمعلومات المضللة الموجودة في كل مكان، على الإنترنت، فإننا سنكون عرضة لمخاطر جمة، وبالتالي تزداد احتمالات تكوين سلوكيات غير صحية وعادات إدمان في نهاية المطاف، تماماً مثلما تنخفض قدرتنا على إصدار أحكام وقرارات صائبة على الصعيد الشخصي والعائلي والمجتمعي.
هذا هو موضوع الفصل الثاني: إعادة تشكيل الوصلات العصبية، أدمغتنا المنتهكة، ويتناول الصعود السريع للهواتف الذكية في حياتنا، ويستعرض تأثيرات هذا العالم المتغير في البشر خلال كافة المراحل العمرية، وتحديد تأثيرات استخدام الهاتف الذكي على القشرة الجبهية، وكذلك على نمو الدماغ والإنسان نفسه.
المصدر : صحيفة الخليج
