
مرّ نحو شهر ونصف منذ أمهل الرئيس الأميركي دونالد ترمب روسيا ما بين 10 و12 يوماً لتوافق على وقف إطلاق النار في أوكرانيا أو تواجه “عواقب وخيمة جداً”، و229 يوماً منذ تولى منصبه وتباهى بإمكانية إنهاء الحرب في غضون 24 ساعة.
وما كانت النتيجة حتى الآن إلا تصعيداً روسياً قاسياً في غزوها. إذاً، ما الذي سيتطلبه الأمر من ترمب لتنفيذ تهديداته المتكررة، التي أطلقها مجدداً الأسبوع الماضي، بالبدء في استخدام العصا والجزرة في تعامله مع فلاديمير بوتين؟
ترمب يتهم الصين بـ”التآمر ضد أميركا” مع بوتين وكيم
قد تظنون أن تلك اللحظة تقترب. لكن بوتين بدا وكأنه يغيظ ترمب خلال زيارته إلى بكين، حيث أبدى إعجابه بعرض عسكري للأسلحة الصينية المُوجّهة بوضوح نحو تايوان وحاميها الأميركي. لزيادة الطين بلة، دعا بوتين الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون ليستقل معه سيارته الليموزين المدرعة “أوروس سينات”، محاكياً لفتة ترمب قبل أسابيع في ألاسكا، عندما فعل الشيء نفسه مع الزعيم الروسي في السيارة الكاديلاك الرئاسية الأميركية التي تزن 10 أطنان والمعروفة باسم “الوحش”.
أثار هذا الأمر حنقاً بدا في رد فعل ترمب على موقع “تروث سوشيال”، وهو ما ينبغي أن يكون. خلال عطلة نهاية الأسبوع، زاد بوتين هجماته، فأطلق وابلاً قياسياً من أكثر من 800 مسيّرة وصاروخ على أوكرانيا، ولأول مرة، ضرب المبنى الحكومي الرئيسي في كييف.
منذ تنصيبه، عرض ترمب على بوتين معظم ما يريده في أوكرانيا. لقد أثنى عليه، وألقى باللوم على بلاده فيما يخص الغزو الروسي غير المبرر، وأوقف تمويل المساعدات العسكرية لكييف، بل وساعد -عن قصد أو بغير قصد- روسيا على استعادة الأراضي المفقودة من خلال قطع وصول أوكرانيا إلى الاستخبارات الأميركية في اللحظة الحاسمة.
هل يجدي الانتظار؟
إذاً، ما الذي يمكن لترمب أن يفعله أكثر من ذلك قبل أن يُقرّ بما كان ينبغي أن يكون واضحاً منذ البداية: إن بوتين غير مهتم بالسلام ما لم يتضمن استسلام أوكرانيا وتراجع أوروبا؟ الآن، وبينما يعلن الرئيس الأميركي مجدداً أنه بحاجة إلى الانتظار ورؤية ما يريده بوتين (أحقاً؟)، حشدت روسيا، وفقاً للرئيس فولوديمير زيلينسكي، 100 ألف جندي لشنّ هجوم جديد للسيطرة على مدينة بوكروفسك الاستراتيجية للتعدين، في مقاطعة دونيتسك شرق أوكرانيا.
كل هذا كان مُتوقعاً منذ زمن بعيد. كتبتُ من بوكروفسك، بعد انتخاب ترمب في نوفمبر 2024 بفترة وجيزة، لأُحذّر من المسار الذي سلكه بالضبط، وحثثته بدلاً من ذلك على استخدام النفوذ الكبير الذي سيحظى به كرئيس لإقناع بوتين بالانخراط في محادثات سلام حقيقية.
مارك تشامبيون: بوتين على وشك التغلب على ترمب مرة أخرى في ألاسكا
يظل هذا هو المسار الأمثل لكل من أوروبا والولايات المتحدة، ناهيك عن أوكرانيا، ومع ذلك، لا يوجد ما يُشير إلى اهتمام من ترمب. عندما اتصل ترمب بالقادة الأوروبيين وزيلينسكي يوم الخميس، في محاولتهم وضع اللمسات الأخيرة على خطط تشكيل قوة دولية للحفاظ على أي سلام تتوسط فيه الولايات المتحدة، بدا أكثر اهتماماً بضمان عدم تحميله اللوم في حال عدم حدوث السلام.
جاء في التقارير الإعلامية أن ترمب أعرب عن إحباطه من المكالمة الهاتفية لاستمرار أوروبا في شراء النفط من روسيا. وحثّهم على التوقف عن ذلك والضغط على الصين لتحذو حذوهم، تماماً كما كانت الولايات المتحدة تضغط على الهند برسوم جمركية عقابية. وهذا أمر غريب من عدة جوانب.
نقاط ترمب
مع أن أوروبا ما تزال تشتري النفط من روسيا، إلا أن ثغرة في تحويل مسار النفط تُسد، حيث تشتري دولتان فقط -المجر وسلوفاكيا- غالبية النفط مباشرةً، نتيجة إعفاء حصلتا عليه مقابل عدم عرقلة حظر الاتحاد الأوروبي. يحكم كلا البلدين قادة شعبويون موالون لبوتين، معادون لأغلبية الاتحاد الأوروبي، ومقربون من ترمب. إذا كان بإمكان أي شخص إقناع فيكتور أوربان وروبرت فيكو بالتخلي عن نفطهما الروسي الرخيص، المُستورد عبر الأنابيب، فهو الرئيس الأميركي السابع والأربعون، أي ترمب.
الهند تحصل على نفط روسيا بخصومات أوسع رغم ضغوط واشنطن
بالمثل، لم يحاول ترمب الضغط على الصين لوقف وارداتها من النفط الروسي، لأنه، كما يحلو له أن يقول، لا يملك أوراق القوة. لقد اكتشف فعلاً في الجولات الأولى من حرب الرسوم الجمركية مع بكين أن الرئيس شي جين بينغ لديه وسائل انتقام كثيرة جداً. إذا لم تكن الولايات المتحدة قوية بما يكفي لإجبار شي، فإن أوروبا بالتأكيد ليست كذلك، وهذا ما يعلمه ترمب بالتأكيد.
لكن إذا كانت هذه مجرد أعذار للتقاعس، فما الذي يفسر اختيار ترمب الحذر في التعامل مع موسكو؟
إحدى الإجابات، إذا تجاهلنا نظريات المؤامرة، أنه ببساطة حاصر نفسه في الزاوية، تماماً كما فعل في قضية إبستين. بعد أن أشعل حماس قاعدته الانتخابية باتهام الديمقراطيين بإخفاء قائمة بأسماء من استغل جيفري إبستين فتيات قاصرات لأجلهم جنسياً، دفع ترمب ثمناً سياسياً باهظاً عندما قالت إدارته إنها بحثت في كل مكان ولم تجد أي قائمة.
أوكرانيا من منظور أميركي
نسج ترمب أيضاً قصةً عن أوكرانيا. إنها، كما تزعم الرواية، مكانٌ فاسد قاصٍ لا صلة له بالمصالح الأميركية، ومحكومٌ عليه بالاستسلام عاجلاً أم آجلاً لأن روسيا ببساطة أكبر وأقوى. علاوةً على ذلك، فإن الصراع هو خطأ أي أحد سوى روسيا. بدأه حلف الناتو، أو الرئيس الأميركي السابق جو بايدن، أو الأوكرانيون أنفسهم -اختر ما يناسبك- ولكن ليس بوتين الرجل الذي أصدر الأمر بالغزو.
وفقاً لهذه الأسطورة المروعة، أهدرت الولايات المتحدة مبالغ طائلة من أموال دافعي الضرائب التي كانت ضرورية في الداخل. إذاً لأمكن إنهاء الحرب بمجرد تولي ترمب الرئاسة واجتماعه مع بوتين في غرفة واحدة.
أخيراً.. بوتين يثير حنق ترمب
لم يحدث هذا لأن بوتين هو من بدأ الحرب، ولم يحقق أهدافه حتى الآن. بوكروفسك محاصرة منذ ما يقارب العام، ومع سعي الولايات المتحدة الآن وراء خيالات رسمها الكرملين، لديه أفضل فرصة للنجاح في السيطرة عليها. فلا داعي للتوقف وإحلال السلام.
أظن أن ترمب يدرك، إلى حد ما، الفخ الذي وقع فيه. لهذا السبب رفع الرسوم الجمركية على الهند، مشيراً إلى شرائها النفط الروسي. وخلال عطلة نهاية الأسبوع، صرّح للصحفيين أيضاً بأنه مستعد للانتقال إلى مرحلة ثانية من العقوبات على روسيا. مع ذلك، لم يُشر الرئيس الأميركي إلى موعد أو كيفية تنفيذ ذلك، أو إلى إدراكه أن تغيير حسابات بوتين سيتطلب تغييراً شاملاً في استراتيجيته يتجاوز بكثير الضغط الاقتصادي.
ما يزال ترمب يفضل التملص من أوكرانيا وتركها لأوروبا، لأنه يبدو أنه يعتقد -كما اعتقد وزير الخارجية الأميركي الأسبق جيمس بيكر في بداية حروب يوغوسلافيا في التسعينيات- أن الولايات المتحدة “ليس لها مصلحة في هذه المعركة“.
إذا كان الأمر كذلك، فهو، مثل بيكر، مخطئ. وكما تُظهر تلك الحرب، والحربان العالميتان الأولى والثانية، والتدخل الكوري الشمالي العميق في أوكرانيا، والقمة والعرض العسكري الأسبوع الماضي في بكين، فإن ما يحدث في أوروبا نادراً ما يقتصر عليها.
المصدر : الشرق بلومبرج