لا جدال في أن الاتحاد العام التونسي للشغل منظمة عريقة، ضاربة في عمق التاريخ السياسي والاجتماعي لتونس المعاصرة، يعود تاريخ تأسيسه إلى أربعينيات القرن الماضي وتراوح تفاعله مع السلطة حول الواقع السياسي والاجتماعي داخل البلاد بين المهادنة والمواجهة.
وعلى رغم مما يواجهه اليوم من تحديات داخلية مرتبطة باتساع قاعدة المعارضة النقابية الرافضة للمكتب التنفيذي الحالي، وتحديات خارجية تتصل بعلاقته بالسلطة الراهنة والتي تتسم بالجمود، لم تتخل المنظمة العمالية الأكبر في تونس عن دورها في الضغط على السلطة من خلال الإضرابات القطاعية لتحقيق مطالب العمال، التي أربكت لأعوام الحكومات التي تعاقبت على البلاد.
وتلوح نقابات عدة بتنفيذ سلسلة إضرابات في قطاعات حيوية كالاتصالات والإعلام والبلديات. وبعد التوصل إلى اتفاق مع موظفي البريد وتجاوز مأزق الإضراب الذي كان مبرمجاً يومي الـ25 والـ26 من فبراير (شباط) الجاري، أعلن موظفو وكوادر ست مؤسسات عمومية تابعة لوزارة تكنولوجيات الاتصال نيتهم الإضراب عن العمل اليوم الخميس. وتشمل المؤسسات المضربة كلاً من “الديوان الوطني للإرسال الإذاعي والتلفزيوني” و”مركز الدراسات والبحوث للاتصالات” و”الوكالة الوطنية للترددات”، و”الوكالة الوطنية للمصادقة الإلكترونية” و”الوكالة الوطنية للأمن السيبراني” و”تونس للأقطاب التكنولوجية الذكية”.
ونظمت الجامعة العامة للتعليم الثانوي، وهي واحدة من أكبر النقابات القطاعية في تونس وينضوي تحتها عشرات الآلاف من رجال التعليم، أمس الأربعاء، إضراباً حضورياً ليوم واحد للضغط على سلطة الإشراف (وزارة التربية) للدخول في مفاوضات لتحسين الظروف المادية لرجال التعليم الثانوي.
فهل اختار الاتحاد العام التونسي للشغل نهج التصعيد مع السلطة؟
مطالب الأساتذة لا تثقل المالية العمومية
يؤكد الكاتب العام للجامعة العامة للتعليم الثانوي محمد الصافي أن “الإضراب ناتج من تلكؤ سلطة الإشراف في الاستجابة لمطالب القطاع، ويتعلق بعضها بالجوانب المادية للأساتذة كمضاعفة المنحة الخاصة ومراجعة القيمة المالية للترقيات، واستحداث منحة جديدة أو ترقية مهنية وتمكين الأساتذة من منحة نهاية الخدمة قبل الإحالة إلى التقاعد”. ويضيف المسؤول النقابي أن “ظاهرة العنف تستفحل في الوسط التربوي ولا بد من سن قانون يجرمها، علاوة على مطالبته بوضع حد للملاحقات القضائية ضد الأساتذة والأعوان، وتدخل القضاء في الشأن التربوي”، معتبراً أن “نسبة نجاح الإضراب عالية جداً وبلغت ما يزيد على 90 في المئة بانخراط غالب مكونات الجسم التربوي”.
وفي إجابته عن سؤال حول الوضع الاقتصادي الذي تمر به تونس، أكد محمد الصافي أن “كل الحكومات السابقة تعللت بصعوبة الوضع الاقتصادي للبلاد”، لافتاً إلى أن “الأساتذة تعففوا لأعوام ولم يطالبوا بتحسين أوضاعهم المادية”، مشيراً إلى أن “المفاوضات يمكن أن تقرب وجهات النظر بين الطرفين، لأن هذه المطالب لن تثقل كاهل المالية العمومية”.
ولا يخفي الصافي أن “الوضع الخاص الذي يمر به الاتحاد العام التونسي للشغل ألقى بظلاله على المشهد العام في البلاد”، معبراً عن رفضه “حال الانقسام في الجسم النقابي والذي قد يعصف بمنظمة عريقة في حجم اتحاد الشغل”.
ويعول الكاتب العام للجامعة العامة للتعليم الثانوي على “اتحاد الشغل لضمان حق الأساتذة في التمتع بحقوقهم خلال المفاوضات الاجتماعية المقبلة”، معتبراً أن “الوضع التربوي يزداد انحداراً ولا بد من حلول جذرية لهذا القطاع الحيوي”.
وفي رده على عدم انخراط تنسيقية الأساتذة النواب في الإضراب، أكد الصافي أن “النقابة لا تتعاطى مع هذه التنسيقيات التي يرى أنها تنكرت لدور الاتحاد العام التونسي للشغل في الدفاع عن حقوق الأساتذة النواب في تسوية وضعياتهم المهنية”.
التصعيد غير مجدٍ
في المقابل، يرى المنسق الوطني لملف الأساتذة النواب مالك العياري أن “عدم مشاركة التنسيقية في الإضراب يعود لاعتبار أخلاقي وموضوعي، لأنه تزامن مع قرار ثوري ووطني وتاريخي اتخذه رئيس الجمهورية قيس سعيد بتسوية وضعية الأساتذة النواب على دفعتين ولا يمكن أن نقابل هذا القرار التاريخي بإضراب عن العمل، علاوة على أن الجامعة العامة للتعليم الثانوي لم تشرك الأساتذة النواب في صياغة مطالبها”، مشدداً على أن “التنسيقية تدعم وحدة القطاع التربوي وأن التصعيد في الوقت الراهن غير مجد”، ومطالباً بتسريع “دمج الأساتذة النواب وتنفيذ قرار رئيس الجمهورية”.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
توظيف الإضرابات لأغراض سياسية
يحاول اتحاد الشغل تجاوز أزمته الداخلية الحادة بالتصعيد مع السلطة، في وقت يدعو فيه متابعون للشأن العام داخل تونس إلى ترميم البيت الداخلي للاتحاد والنأي به عن المناكفات السياسية.
ويرى المتخصص في مجال القانون سرحان الناصري أن “اتحاد الشغل يبقى منظمة عريقة، على رغم ما يعيشه من صعوبات وتحديات داخلية، بسبب تمسك أعضاء المكتب التنفيذي الحالي بمواقعهم التي أفرزها مؤتمر مشكوك في نزاهته”.
ودعا الناصري المكتب الحالي إلى “الاستقالة، وفسح المجال لمؤتمر استثنائي، ليعود للاتحاد العام التونسي للشغل وجاهته وحضوره في المشهد السياسي والاجتماعي في البلاد”.
من جهة أخرى، يرى الناصري أن المكتب الحالي يعمل على “توظيف الإضرابات لأغراض سياسية من أجل إرباك السلطة الحالية في تونس، بالاستئناس بما يروج خارج تونس من انتقادات للسلطة الحالية في البلاد”.
مفاوضات اجتماعية في ظرف دقيق
ويستعد الاتحاد العام التونسي للشغل لجولة جديدة من المفاوضات الاجتماعية في الوظيفة العمومية خلال ظرف استثنائي، نظراً إلى المؤشرات الاقتصادية والصعوبات التي تواجه المالية العمومية وتراجع القدرة الشرائية للتونسيين.
وذكر الأمين العام المساعد المكلف في الوظيفة العمومية، في الاتحاد، محمد الشابي خلال ندوة في سوسة أن “المفاوضات حق اجتماعي ويجب أن ترتكز على مبادئ أساس، أولها أن الاتحاد شريك اجتماعي أساس وليس مفاوضاً تحت الضغط”.
وتقلص دور المنظمة النقابية منذ ما يزيد على عامين بعد أن حيدها الرئيس سعيد عن المشاركة السياسية، وحدد لها مربعاً واضحاً تنشط فيه لا يتجاوز الدور النقابي، بعد أن كانت تشارك لعقود في صنع القرار السياسي وتتدخل للعب دور الوساطة في الأزمات والتفاوض مع السلطة في الشأن السياسي.
وكان اتحاد الشغل عقد مؤتمراً استثنائيا خلال يوليو (تموز) 2021 صادق فيه على تنقيح الفصل الـ20 من النظام الأساس، والذي فُسح المجال بمقتضاه أمام أعضاء المكتب التنفيذي الوطني للترشح لأكثر من دورتين متتاليتين، مما أثار سخط قسم من النقابيين الذين انضموا إلى المعارضة النقابية التي تضغط حالياً من أجل استقالة المكتب الحالي وتنظيم مؤتمر استثنائي.
نقلاً عن : اندبندنت عربية