<p class="rteright">لوحة من معرض "أساطير" للرسام مصطفى رحمة (خدمة المعرض)</p>
لوهلة قد تتمنى لو تستطيع القفز داخل إحدى هذه اللوحات لتعيش بين أطيافها، فهي تعزلك عن صخب الواقع وتمنحك لحظات من المتعة البصرية النادرة. في هذا العالم تستقبلك نساء بهيات ورجال وحيوانات أليفة تعبق بأناقة الأشكال، إلى جانب أسماك طائرة تحلق حول الشخصيات المرسومة وكأنها تحمل أسراراً من عالم آخر.
في معرضه الذي يستضيفه غاليري بيكاسو للفنون بالقاهرة حتى نهاية فبراير تحت عنوان “أساطير”، يخلق الفنان عالمه الأسطوري الخاص، إذ يغزل مشاهد لحكايات غامضة لا يدرك تفاصيلها إلا هو. هناك تجد شخصيات برؤوس خضراء وقروناً شبيهة بحيوانات خرافية، وقططاً وأسماكاً وطيوراً وبشراً يحتفي كل منهم بالحياة والحب ببهجة طفولية. وتصادف تفاصيل أخرى غريبة، كأشخاص بأجنحة أو أسماك تسبح في السماء، لكنك على رغم غرابة تلك العناصر، تتقبلها وكأنها جزء من مشهد اعتدت عليه في حياتك اليومية.
منذ بداياته، ظل مصطفى رحمة وفياً لأسلوبه الذي يجمع بين الخطوط الواضحة والتكوينات الزخرفية، مما يمنح أعماله طابعاً شرقياً قريباً من المنمنمات الإسلامية، مع إحساس طفولي محبب استقاه من تجربته الطويلة في مجلة ماجد. هذا المزيج ينعكس جلياً في لوحاته المعروضة، إذ تتداخل الشخصيات الأسطورية مع مفردات الحياة اليومية في مشهد بصري يحتفي بالخيال والوجدان الشعبي.
كما في معظم تجاربه السابقة تحتل المرأة هنا مركز اللوحة، لكنها تتخذ هذه المرة بعداً أسطورياً. تتجسد المرأة في لوحات رحمة في صور متعددة، فقد يستلهم هيئتها من إحدى شخصيات التاريخ، أو حتى من بنات أفكاره، وأحياناً تبدو كأنها خارجة من حكايات ألف ليلة وليلة، محاطة بالعناصر الزخرفية والتفاصيل الدقيقة. ولعل هذا الارتباط بين المرأة والأسطورة هو ما يمنح أعمال مصطفى رحمة حساً سردياً لا يخلو من الحنين والاحتفاء بالماضي.
من السمات الأبرز في تجربة الفنان تلك الحساسية اللونية العالية التي يتمتع بها، إذ يتعامل مع اللون بروح شاعرية مرهفة، من دون أن يفقد إيقاعه البصري النابض بالحياة. في معرضه الأخير، نجد أن بعض الأعمال تتجه إلى درجات الأصفر النحاسي والرماديات المضيئة، مما يمنح اللوحات إحساساً بالضوء والشفافية، بينما تتسم أعمال أخرى بالألوان الدافئة والمبهجة، في انسجام واضح مع طبيعة مواضيعه. أما أسلوبه في توزيع الألوان فلا يخضع أبداً لمنطق الواقع بقدر ما يستجيب لرؤيته الحالمة، فاللون في لوحاته ليس مجرد عنصر جمالي، بل أداة تعبيرية تمنح الشخصيات والعناصر طابعها الرمزي والمسرحي، ولعل هذا ما يجعل أعماله أشبه بمعزوفة طربية تتراقص فيها الخطوط والمساحات بحرية وانسجام.
لعل المتابع لأعمال مصطفى رحمة ينتبه كذلك إلى هذا التوازن بين البساطة الظاهرة والثراء البصري العميق، إذ تبدو اللوحة للوهلة الأولى كأنها مكونة من أشكال واضحة ومنظمة، لكن بمجرد التمعن فيها، سنجد طبقات متعددة من التفاصيل الصغيرة والتشكيلات البصرية التي تضفي على العمل حيوية خاصة. في بعض الأعمال، يعتمد الفنان على الفراغات الكبيرة ليمنح التكوين نوعاً من الراحة البصرية، بينما يمتلئ بعضها الآخر بتفاصيل زخرفية تتراكم كأنها سجادة شرقية غنية بالنقوش. هذا التفاوت بين الامتلاء والفراغ هو ما يخلق الإيقاع الخاص بأسلوبه، ويمنح أعماله بعداً درامياً يشبه إلى حد كبير السرد القصصي المصور.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كما في معارضه السابقة، تظل المرأة هي العنصر الأساس في تجربة مصطفى رحمة. لكنها في هذا المعرض لا تقتصر على كونها سيدة الزمن الجميل، بل تتحول إلى كائن أسطوري غامض، يمتزج فيه الماضي بالحاضر والواقع بالخيال. إن نساء مصطفى رحمة دائماً جميلات، لكنهن لا يخضعن لمعايير الجمال النمطية. هن ممتلئات بالحيوية، محاطات بأسباب البهجة وكأنهن رموز لأنوثة متحررة من القوالب الجمالية المعاصرة. في بعض الأعمال، تبدو النساء وكأنهن مستمعات في حفلة طربية قديمة، أو جالسات في سكينة على أرائك من المخمل الشرقي، في استعادة واضحة لأجواء الزمن الجميل. هذه المشاهد لا تعني أن الفنان ينتمي إلى الماضي، بقدر ما تعكس رغبته في استعادة لحظات الصفاء والسكينة وسط تعقيدات الحياة المعاصرة. وهذا ما يجعل أعماله قريبة من القلب، فهي تخاطب الذاكرة الجمعية، وتثير في النفس إحساساً بالدفء والتأمل.
نقلاً عن : اندبندنت عربية