
على مدى السنوات القليلة الماضية، تسللت السجائر الإلكترونية إلى حياتنا اليومية باعتبارها البديل الأكثر أمانًا والأقل ضررًا من التبغ التقليدي. غير أن البحوث الطبية الحديثة بدأت تدق ناقوس الخطر، كاشفة النقاب عن قصة أكثر تعقيدًا، تظهر أن ما يُسوَّق على أنه “أخف ضررًا” يخفي في طياته مخاطر جسيمة تهدد صحة المستخدمين، بدءًا من الفم كأول محطة تستقبل أبخرته.
الفم.. خط الدفاع الأول وأول المتضررين
يبدو الفم كبيئة صغيرة متوازنة تعج بالبكتيريا النافعة التي لا تساعد في الهضم فحسب، بل تحمي أيضًا من الأمراض. ومع كل نفثة من السجائر الإلكترونية، يتعرض هذا التوازن الدقيق لاختبار شديد القسوة.
فالأيروسولات المنبعثة من هذه الأجهزة تحمل معها خليطًا من النيكوتين والأحماض والمنكهات، مما يؤدي إلى اختلال توازن الميكروبيوم الفموي، وهي حالة مرضية تعرف بـ “خلل الاستتباب الجرثومي”.
وتكشف الأبحاث أن تركيبة البكتيريا في أفواه مستخدمي السجائر الإلكترونية تختلف بشكل لافت، حيث تزداد أنواع البكتيريا التي تزدهر في البيئة الحمضية، والتي ترتبط عادة بمشكلات مثل التهاب اللثة وتسوس الجذور. وهذا التغير لا يقتصر على نوع البكتيريا فحسب، بل إلى نشاطها، حيث تنتج موادًا التهابية ومخلفات بكتيرية تجعل اللثة في حالة تهيج دائم، مما يمهد الطريق لانحسارها وضعف ثبات الأسنان مع مرور الوقت.
الخرف وأمراض القلب وفشل الأعضاء
لا تقتصر المخاطر على تجويف الفم، بل تمتد إلى أعضاء حيوية أخرى في الجسم. فبحسب دراسة يجريها باحثون من جامعة مانشستر متروبوليتان البريطانية، قد يؤدي استخدام السجائر الإلكترونية بانتظام إلى تعريض المستخدمين للإصابة بأمراض خطيرة تشمل الخرف وأمراض القلب وفشل الأعضاء.
وكشفت الدراسة التي شملت مشاركين بمتوسط عمر 27 عامًا أن كلاً من المدخنين التقليديين ومستخدمي السجائر الإلكترونية يعانون من تلف في جدران الشرايين، مما أفقدها القدرة على التمدد، وهو مؤشر قوي على احتمال تطور مشكلات خطيرة في القلب والأوعية الدموية مستقبلاً. كما أظهرت النتائج أن تدفق الدم لديهم كان ضعيفًا، مما يزيد من خطر تعرضهم لاضطرابات في الإدراك، بما في ذلك الخرف.
وتكمن الخطورة في أن السجائر
الإلكترونية تختلف عن التقليدية في نمط الاستخدام، كما يوضح الدكتور ماكسيم بويدن، قائد الفحص البحثي للدراسة، فبينما يتطلب التدخين التقليدي إشعال سيجارة جديدة بعد انتهاء الأخرى، يمكن لمستخدم السجائر الإلكترونية الاستمرار في استنشاق النيكوتين بشكل متواصل من دون إدراك كمية الاستهلاك، مما يجعل الأمر أكثر خطورة. ويؤكد الدكتور بودين أن “الفائدة الوحيدة للسجائر الإلكترونية تكمن في مساعدة الأشخاص على الإقلاع عن التدخين التقليدي، لكن استمرار استخدامها لفترة طويلة يؤدي إلى نفس التأثيرات الصحية السلبية”.
معادن سامة وأخطار خفية
في منحى مقلق آخر، كشفت أبحاث جديدة أجرتها جامعة كاليفورنيا في ديفيس أن السجائر الإلكترونية قد تكون أكثر خطورة من السجائر التقليدية بسبب إطلاقها معادن سامة مثل الرصاص، حيث تعد الأنواع التي تستخدم لمرة واحدة الأسوأ على الإطلاق.
وصرح بريت بولين من جامعة كاليفورنيا في ديفيس بأن “الدراسة تسلط الضوء على الخطر الخفي لهذه السجائر الإلكترونية الجديدة والشعبية التي تستخدم لمرة واحدة، والتي تحتوي على مستويات خطيرة من الرصاص السام للأعصاب، والنيكل، والأنتيمون المسببين للسرطان”. وأشار الفريق إلى أن مستخدمي السجائر الإلكترونية عادة ما يكونون من المراهقين أو البالغين “المعرضين بشكل كبير للتسمم بالرصاص”، محذرين من أن “استنشاق معادن معينة يمكن أن يزيد من خطر الإصابة بالسرطان وأمراض الجهاز التنفسي وتلف الأعصاب”.
أمراض رئوية تنذر بالخطر
اعتبارًا من فبراير 2020، أبلغ مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها في الولايات المتحدة عن 2758 حالة إصابة رئوية مرتبطة بالتدخين الإلكتروني، مع 64 حالة وفاة مؤكدة.
وتُعرف هذه الإصابات باسم “الأمراض الرئوية المرافقة للتدخين الإلكتروني”، وقد تكون شديدة وخطيرة ومهددة للحياة. وتشمل الأعراض التي يُبلَغ عنها بشكل شائع ضيقًا في التنفس وسعالًا وتعبًا وآلام جسمية وحمى وغثيانًا وقيئًا وإسهالًا. وقد يحتاج المصابون إلى الرعاية في غضون أيام قليلة إلى أسابيع من بدء ظهور الأعراض، بل إن بعضهم يحتاج إلى الدخول إلى وحدة العناية المركزة والتهوية الميكانيكية.
وصرحت مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها أن مادة أسيتات التوكوفيرول (أسيتات فيتامين هـ) – وهو عامل قطع لمادة رباعي هيدروكانابينول – متورطة بشدة في الإصابات الرئوية المرتبطة بالتدخين الإلكتروني. وقد أدى تفشي هذه الحالات إلى تحذيرات صحية عاجلة وإلى قيام بعض الحكومات، مثل الحكومة البريطانية، بإعلان حظر السجائر الإلكترونية ذات الاستخدام الواحد اعتبارًا من يونيو 2025، في محاولة للحد من انتشارها بين الشباب.
فئة الشباب: الهدف الأكثر تضررًا
تزداد خطورة السجائر الإلكترونية عند المراهقين واليافعين، الذين تجذبهم المنكهات المتنوعة والحملات التسويقية الجذابة على المنصات الاجتماعية. وتكون أسنانهم وجذورهم في مرحلة النمو والنضوج، مما يجعلها أكثر هشاشة أمام البيئة الحمضية والجفاف المتكرر الناتج من مكونات السجائر الإلكترونية.
والنتيجة هي ارتفاع خطر التهابات اللثة المبكرة وظهور بقع بيضاء على المينا تعرف بـ “الآفات البيضاء”، وهي علامات أولية للتسوس قد تتطور لاحقًا إلى نخور حقيقية. والمشكلة أن هذه العلامات المبكرة غالبًا ما تهمل، فقد يلاحظ الشاب أو المراهق رائحة فم مزعجة أو نزفًا بسيطًا عند التفريش أو حساسية تجاه المشروبات الساخنة والباردة، لكنه لا يربطها باستخدام السيجارة الإلكترونية، مما يسمح للمشكلة بالتفاقم بصمت حتى تتحول إلى أضرار يصعب علاجها.
وفي الوقت الذي تدافع فيه جمعيات صناعة السجائر الإلكترونية عن منتجاتها، مثلما صرحت الدكتورة مارينا مورفي، المتحدثة العلمية باسم جمعية صناعة السجائر الإلكترونية في المملكة المتحدة: “يستخدم الملايين من الأشخاص السجائر الإلكترونية بأمان منذ سنوات، وتشير جميع البيانات المتاحة إلى أن مخاطرها الصحية لا تتجاوز 5% من المخاطر المرتبطة بالسجائر التقليدية، فإن الأدلة العلمية المتزايدة تشير إلى أن الصورة أكثر تعقيدًا من ذلك. فبينما قد تكون السجائر الإلكترونية أقل ضررًا من حيث بعض السموم مقارنة بالسجائر التقليدية، إلا أنها تفتح الباب أمام سلسلة مختلفة من الأخطار. فالنيكوتين يضعف الدورة الدموية الدقيقة في اللثة ويقلل قدرتها على الالتئام، والأحماض والمنكهات تغير درجة الحموضة وتضعف المينا تدريجًا، بينما تسحب المذيبات الكيماوية الرطوبة من الفم فتزيد الجفاف وتقلل الحماية الطبيعية ضد البكتيريا. ومع الحرارة العالية تنطلق جزيئات معدنية دقيقة تسهم في إحداث أذى تأكسدي يضر بخلايا الفم.
المصدر : تحيا مصر