على رغم فضيحة “بارتي غيت”، وخلافات حزب العمال حول مسألة الهدايا المجانية، والقصص المثيرة حول الفساد الذي شاب عقوداً أبرمت خلال جائحة كوفيد-19، يبقى الميدان السياسي البريطاني ميداناً نظيفاً بشكل ملحوظ. ومع ذلك، تتمثل المعضلة الوحيدة التي يقع معظم السياسيين ضحيتها بسهولة في العواقب غير المقصودة لقراراتهم.
ويعد رئيس الوزراء الحالي ووزيرة المالية الحالية آخر ضحايا الخطر المهني هذا، وأخشى أن يواجها، إلى جانب بقية الشعب، أوقاتاً عصيبة في الأسابيع المقبلة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فمع اتضاح صورة الموازنة الأولى التي يصدرها حزب العمال منذ 14 سنة، ثمة أناس يشعرون بالغضب الشديد ولن يقفوا مكتوفي الأيدي. يتناول الحديث هنا المزارعين الذين لا يعرفون أوضاعاً سهلة في الأساس، وسيخضعون الآن إلى ضريبة جديدة غير متوقعة تعرف باسم “ضريبة الميراث”.
سيخضع أي عقار زراعي تزيد قيمته على مليون جنيه استرليني (مليون و252 ألف دولار) إلى ضريبة إرث بنسبة 20 في المئة للمرة الأولى. إلا إذا قرر المزارعون وأصدقاؤهم إثارة ضجة حيالها.
نواجه الآن احتمال أن ينضم “تحالف الريف”، وجيريمي كلاركسون، ونايجل فاراج، وتومي روبنسون – إلى جانب المحافظين ومعظم الصحف وحتى الديمقراطيين الليبراليين – إلى احتجاجات غاضبة في ساحة البرلمان، وأن يقطعوا الطرق السريعة، ويحاصروا لندن، ويقوموا ربما بما هو أسوأ.
ستكون الموجة أشبه بموجات احتجاجات الميراث التي شهدتها كندا وأوروبا في السنوات الأخيرة، أو التظاهرات ضد ارتفاع أسعار الوقود وأعمال الشغب المؤيدة لصيد الثعالب التي وقعت في المملكة المتحدة قبل سنوات عدة. ستكون موجة صاخبة وقاسية ومثيرة للانقسام، وستشكل تحدياً مبكراً لسلطة الحكومة المنتخبة ديمقراطياً.
قررت راشيل ريفز، في موازنتها، جمع ما يقارب 200 مليون جنيه – وهو مبلغ صغير نسبياً في موازنة تبلغ تريليون جنيه – من خلال فرض ضريبة إرث على “العقارات الزراعية” (مثل المزارع والمنازل الريفية والمباني والأعمال الزراعية المختلفة) اعتباراً من أبريل (نيسان) 2025.
كان إعفاء العقارات الزراعية يعني أن هذه الأصول القيمة يمكن توريثها بالكامل من دون دفع أي ضريبة موت – الاسم السابق لضريبة الإرث. والآن، سيبطل العمل بهذا الإعفاء جزئياً – سيبقى العمل بالإعفاء بالنسبة إلى المليون جنيه الأولى من قيمة الأصول، مع تخفيض بنسبة 50 في المئة غير محدودة على بقية القيمة، مما يبقي ضريبة فعلية بنسبة 20 في المئة. وهذا يحقق مساواة أكبر مع ضريبة الإرث المفروضة على المنازل السكنية وما شابه. لكن بالنسبة إلى سكان الريف، تبدو الخطوة أشبه بنهاية الزراعة الأسرية كما عرفوها، إلى جانب عواقبها الوخيمة على حماية الطبيعة والأمن الغذائي.
في الواقع، تعد حجة الحكومة لمصلحة الإصلاح حجة قوية. فالإعفاء الضريبي الذي تستفيد منه المزارع يعود فقط إلى ثمانينيات القرن الـ20. وما من شك في أنه يعد ضرباً من ضروب المعاملة الخاصة. ذلك أن تقديم إعفاءات ضريبية إلى نوع معين من النشاط الاقتصادي لا يبدو خطوة منطقية اقتصادياً – هو يؤدي إلى تشويه تخصيص الموارد النادرة. هذا ويستغله بعض الأفراد الذين يهدفون فقط إلى حماية ثرواتهم من الضرائب، يعد جيريمي كلاركسون وجيمس دايسون مثالين بارزين على هؤلاء.
يقول متخصصون – مثل بول جونسون من معهد دراسات المالية العامة ودان نيدل من “تاكس أسوشيتس” – إن الضجة مبالغ فيها والتغطية الإعلامية غير دقيقة تماماً. ويشيرون إلى أن الغالبية العظمى من المزارع لن تتأثر، وأن القدرة على تبادل الإعفاء الذي يغطي ما قيمته مليون جنيه بين الزوجين تعني أن الإعفاء الضريبي سيغطي على الأرجح ما قيمته مليوني جنيه.
وتظهر أرقام وزارة المالية أن أقل من 500 مزرعة سنوياً ستدفع الضريبة، يعتقد نيدل بأن العدد قد يكون صغيراً فلا يساوي أكثر من 100 مزرعة. بطبيعة الحال، ستكون هذه المزارع ملكاً لأكثر العائلات ثراءً، المفترض أنها تستطيع تحمل الفاتورة الضريبية، كذلك سيكون بإمكانها تسديد الضريبة في أقساط متساوية على مدى 10 سنوات.
يضيف نيدل: “لم تتضمن ضريبة نقل رأس المال القديمة (السابقة على ضريبة الإرث) أي إعفاء زراعي على الإطلاق. وعام 1975، طبق إعفاء بنسبة 30 في المئة. أما الإعفاء الكامل الذي نراه اليوم فلم يدخل حيز التنفيذ إلا عام 1992. ولم تقع كارثة”.
ثمة تعقيدات تتعلق بوضع المزارعين المستأجرين، وهي تخضع إلى تشاور – لكن المبادئ تظل كما هي. بالطبع، يمكن تجنب فاتورة ضريبة الإرث بأكملها بسهولة من طريق نقل ملكية الأصول من المالك إلى شخص آخر، بشرط القيام بذلك قبل سبع سنوات من وفاة الأول.
ذلك كله صحيح من دون شك، وحتى لو لم يكن كذلك، هو لا يبرر حكم الغوغاء. لكن شعوراً بالظلم سيسود، حتى لو كان كثير من المخاوف عبارة عن مجرد أوهام، مثلما حدث مع توسيع منطقة الانبعاثات المنخفضة جداً في لندن، إذ لم يؤثر في 90 في المئة من الناس.
من دون رغبة في التشكيك في خبرة جونسون ونيدل وآخرين، من المؤكد أن بعض الحالات ستنشأ، وإن كانت عبارة عن أقلية صغيرة من الحالات، إذ ستطرأ معاناة حقيقية. يكون المزارعون في الغالب أغنياء على صعيد الأصول وفقراء في مجال النقود، لذلك قد تكون فاتورة ضريبية بقيمة 200 ألف جنيه (حتى وإن كانت موزعة على أقساط سنوية يساوي كل منها 20 ألف جنيه) أمراً يصعب تحمله من قبل عائلة تحقق أرباحاً سنوية تقدر بـ100 ألف جنيه. كذلك قد يواجه بيع أجزاء من الأرض صعوبة إذا لم تكن الأجزاء هذه مناسبة للتطوير، وإذا كانت خسارة عوائد الأجزاء المبيعة تهدد بإبطال الجدوى الاقتصادية الخاصة بالمزرعة برمتها.
ستنشأ قصص عاطفية حقيقية، ولسوء الحظ، سيبرز محرضون لا يسعون إلا لإسقاط “كير الذي يكيل بمكيالين”.
نصيحتي، إذا كان لها وزن، هي أن يظهر كير ستارمر وراشيل ريفز مزيداً من التعاطف، وأن يراعيا الحالات التي تثير قلقاً حقيقياً، وأن يتجنبا التصريحات التي قد تبدو غير متعاطفة أو قاسية.
في الفترة الأخيرة، اتسمت تصريحات ريفز حول المزارعين بالحدة، ووشت بشيء يفوق غياب الفهم الحضري أو حتى المعركة الطبقية: “في الوقت الحالي، يمكن لبعض من أغنى مالكي الأراضي في هذا البلد – ليسوا المزارعين، بل مالكي الأراضي الأثرياء – ألا يدفعوا أي ضريبة إرث، بينما تدفعها العائلات المنتمية إلى الطبقة المتوسطة. هذا ليس سليماً، ولهذا السبب أغلقنا هذه الثغرة القانونية”.
يجب القول أيضاً إن زميلها وزير البيئة والغذاء والشؤون الريفية الحالي، ستيف ريد، أعطى الاتحاد الوطني للمزارعين انطباعاً بأن إعفاء العقارات الزراعية سيبقى كما هو في ظل حكومة حزب العمال. لذلك، قد نشهد، إن صح التعبير، اندلاع “حرب ثقافية” قبيحة أخرى قبل نهاية العام، يواجه فيها سكان المدن مواطنيهم سكان الريف، بينما تحاول الحكومة يائسة حفظ النظام والشرعية.
سيكون من الحكمة أن يظهر ستارمر وريفز قدراً أكبر من التعاطف، وأن يجريا بعض التعديلات المدروسة على خططهما من ضمن “التشاور”. على عكس المعارك التي استقطبت مخربين مشاغبين ومجرمين في وقت سابق من العام، ربما لا تستحق هذه المعركة عناء خوضها.
نقلاً عن : اندبندنت عربية