«البودكاست العربي».. صناعة واعدة على طريق الاستدامة والإبداع

«البودكاست العربي».. صناعة واعدة على طريق الاستدامة والإبداع

تحقيق – مرفت عبدالحميد وجميلة إسماعيل

يشهد العالم العربي خلال السنوات الأخيرة تحوّلاً نوعياً لافتاً في صناعة البودكاست، التي لم تعد مجرّد تجارب فردية معزولة، بل أصبحت مساحة رحبة لإبداع الأصوات العربية الشابة، ومنصة بديلة تنافس الإعلام التقليدي في الوصول والتأثير. ومع اتساع قاعدة المستمعين، وتزايد اهتمام المؤسسات الإعلامية والجهات الرسمية بهذا الشكل الحديث من الإعلام، يفرض البودكاست العربي نفسه اليوم أحد أبرز تجليات الإعلام الرقمي الجديد، القادر على الجمع بين الحرية والاحتراف، وبين الترفيه والمعرفة.

ومع تنامي هذا الحراك، تظهر تحديات حقيقية تواجه هذه الصناعة الناشئة، وعلى رأسها التمويل والتوزيع وبناء جمهور مستدام،وتقف على أعتاب فرص كبرى لدخول الأسواق العالمية، وإبراز صوت عربي متجدد ضمن المشهد الصوتي العالمي المتسارع.

وأكد عدد من الخبراء والأكاديميين وصناع المحتوى الصوتي لـ«البيان» أن الإعلام الصوتي، وعلى رأسه البودكاست، برز كواحد من أسرع الوسائط نمواً في المنطقة العربية، وبين طموح المبدعين الشباب ودعم المؤسسات الرسمية واستثمارات المنصات العالمية، تتشكل ملامح صناعة واعدة.

نمو عالمي

وفقاً لما أكدته مريم الملا، مديرة نادي دبي للصحافة، فإن حجم العائد السنوي لصناعة البودكاست عالمياً بلغ نحو ملياري دولار، وهو رقم مرشح للنمو السريع خلال السنوات المقبلة، ما يعكس الثقة المتزايدة بهذا النوع من الإعلام كأداة مؤثرة ومنصة استثمارية واعدة. وتوضح الملا أن الإيرادات المتزايدة من الإعلانات، والرعايات، وحتى الاشتراكات المدفوعة، تمثل مؤشراً واضحاً إلى تحوّل البودكاست من مجرد وسيلة تعبير فردية إلى ركن أساسي في منظومة الإعلام الرقمي الحديث.

سرد قصصي

ويرى علي جابر، عميد كلية محمد بن راشد للإعلام، أن جودة المحتوى والقدرة على بناء سرد قصصي متماسك، باتتا من أبرز المعايير التي تبحث عنها الشبكات الإعلامية الرائدة عند التعاقد مع صناع المحتوى الصوتي. وأشار إلى أن البودكاست تجاوز اليوم صورته التقليدية، ليتحول إلى مساحة إنتاج درامي وفكري، تصلح لأن تُقدَّم ككتب مسموعة أو مسلسلات صوتية متكاملة.

ولفت جابر إلى البنية التحتية الإعلامية المتطورة التي توفرها دبي، والدور الريادي الذي يلعبه «برنامج البودكاست العربي» الذي أطلقه نادي دبي للصحافة، لدعم هذه الصناعة عربياً وعالمياً.

وأكد معين جابر، مستشار استراتيجي للبودكاست والصوت في مجموعة MBC، أن السوق العربي يشهد تطوراً واضحاً في حجم الإنتاج وجودته، في ظل وجود منصات متخصصة تدعم صناع المحتوى وتطور برامج تستضيف نجوماً من مجالات عدة، ما يسهم في رفع مستوى الوعي العام، وتوسيع نطاق جمهور البودكاست.

ولفت إلى أهمية بناء شراكات استراتيجية مع شبكات البث الكبرى، وتصميم الحلقات بما يتناسب مع معايير هذه المنصات، مع ضرورة التركيز على اللغة البصرية والقصصية، لما لها من أثر في تعزيز فرص الانتشار والوصول إلى جماهير أوسع.

جمهور متعطش

وترى د. غادة عبيدو، أستاذ الإعلام بجامعة عين شمس، أن الجمهور العربي بات يبحث عن محتوى صوتي يمثله ويعكس واقعه، وخصوصاً النساء والشباب، الذين وجدوا في البودكاست وسيلة لسماع قصص قريبة من بيئتهم، تُروى بلغتهم ولهجتهم، وهو ما يفسر تصاعد نسبة الاستماع لهذا النوع من الإعلام.

وتشير عبيدو إلى أن عدد متابعي البودكاست حول العالم تجاوز 580 مليون مستمع، في حين تفوق عدد المنصات الخمس الملايين، وتُظهر الإحصاءات أن الأسواق العربية تسجل معدلات متابعة أعلى من المتوسط العالمي، وتحديداً في المملكة العربية السعودية، والإمارات، ومصر، والمغرب.

وتعتبر أن الإعلام الصوتي يمثل اليوم جسراً بين الإعلام التقليدي والجديد، ويشكل فرصة لإعادة بناء الثقة مع الجمهور. لكنها تحذّر من أن عدداً من المؤسسات الإعلامية ما تزال متأخرة عن اللحاق بركب هذا التطور، بسبب عدم استثمارها في تدريب كوادرها على إنتاج محتوى صوتي احترافي.

بنية تحتية

وتصف د. رانية عبدالله، مديرة برنامج الاتصال والإعلام في جامعة العين، البودكاست بأنه لم يعد ترفاً إعلامياً أو موجة عابرة، بل أصبح صناعة رقمية متنامية، تكشف عن تعطش الجمهور العربي لمحتوى بديل، حرّ، وشخصي.
وتشير عبدالله إلى جملة من التحديات، أبرزها ضعف البنية التقنية، محدودية منصات التوزيع، وقلة التمويل، فضلاً عن غياب برامج التدريب المهني والمبادرات المؤسسية.

ورغم هذه التحديات، تؤكد أن دولة الإمارات تمتلك المقومات الكفيلة بتحقيق طفرة نوعية في هذا القطاع، بفضل البنية الرقمية المتطورة، والدعم الحكومي للمبدعين، إلى جانب ما يوفره الذكاء الاصطناعي من إمكانات لتحسين جودة الصوت، وتخصيص المحتوى بحسب اهتمامات الجمهور.

وتدعو عبدالله إلى ضرورة دمج البودكاست في الاستراتيجيات الوطنية للإعلام الرقمي، وتوفير حاضنات أعمال لدعم الشباب، بهدف تعزيز ثقة المستثمرين، وخلق بيئة مستدامة لنمو الصناعة.

وترى أن المواضيع التي تستقطب اهتمام الشباب العرب تتركز حول ريادة الأعمال، التعليم، الصحة النفسية، إضافة إلى قضايا المجتمع مثل التمكين والهوية الرقمية. أما المحتوى الترفيهي، فيحظى أيضاً بجاذبية كبيرة، وخصوصاً في مجالات الألعاب، الموسيقى، والرياضة.

التحدي الأكبر

تقول حسناء بلمالك، مديرة شركة لصناعة المحتوى الصوتي، إن المعلنين العرب بدأوا يدركون فعالية البودكاست أداة للوصول إلى جمهور متخصص، لكنه لا يزال يحتاج إلى بيانات دقيقة ومقنعة حول سلوك المستمعين، لكي يتحول إلى قناة استثمارية رئيسة.

وتشير فاطمة الحلامي، مديرة مركز الشباب العربي بأبوظبي، إلى أن نجاح البودكاست يعتمد على جودة الطرح والأسلوب المهني، مؤكدة أنه بات أداة إعلامية تدمج بين التأثير والمصداقية، وتحقق وصولاً مباشراً وفورياً إلى الجمهور.

وترى سناء فيلالي، صانعة محتوى من المغرب، أن التقنيات الحديثة مثل أدوات المونتاج والترجمة سهّلت من عملية الإنتاج، لكنها تؤكد أن هذه الأدوات لا يمكن أن تكون بديلاً عن الإبداع البشري، لأن المستمع يبحث عن صوت حقيقي وقصص تمس حياته اليومية.

ركائز النجاح

يرى صانع المحتوى صالح الكندي أن نجاح البودكاست العربي يقوم على خمس ركائز أساسية هي: الاحترافية، جودة المحتوى، الدعم المادي والإعلانات، الدعم المؤسسي والأكاديمي والاستدامة.

ويؤكد أن فعاليات كبرى مثل «دبي بودفست» ساهمت في ترسيخ مكانة البودكاست على الخارطة العربية والدولية.

أما خليفة السعدي، فيشير إلى أهمية تجهيز القنوات صوتياً وبصرياً، واستثمار الخوارزميات في تعزيز الوصول، وتحليل بيانات الجمهور لتطوير محتوى تفاعلي يتناسب مع تفضيلات المستمعين، مشدداً على أن البودكاست بات جزءاً من حياة الناس اليومية، يستمعون له أثناء القيادة، أو في المنزل، أو أثناء ممارسة الرياضة.

ويضيف إن البودكاست العربي مليء بقصص ملهمة وتجارب ناجحة، يمكن أن تقدم دروساً حقيقية للجيل الجديد.

حاضنة للمبدعين

كما يشير عمران بن شيخان، عضو المجالس الشبابية المؤسسية، إلى أن البودكاست نجح في حجز مكانه على خارطة الإعلام العربي، وفرض حضوره القوي على مختلف المنصات. ويشيد بالبنية التحتية الرقمية في الإمارات، معتبراً إياها أحد أبرز الدوافع المحفزة لنمو هذه الصناعة. ويؤكد أن الجهات المعنية تعمل على توفير بيئة حاضنة للمبدعين، تتيح لهم تطوير محتوى مهني، يتسم بالابتكار، ويخاطب تطلعات الجمهور على المستويين المحلي والعالمي، بما ينسجم مع رؤية الدولة نحو اقتصاد المعرفة.

المصدر : البيان