في نوفمبر (تشرين الثاني) 2008، قال الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش “الأزمة لم تكن نتيجة فشل نظام السوق الحرة، والحل لا يكمن في محاولة إعادة اختراع هذا النظام، بل في إصلاح المشكلات التي نواجهها، وإجراء التعديلات اللازمة، والمضي قدماً وفق مبادئ السوق الحرة التي جلبت الرخاء والأمل للناس في مختلف أنحاء العالم”.
لكن الأحداث التي تلت أثبتت أن بوش كان مخطئاً، ففي الوقت الحالي، نادراً ما يتبنى السياسيون في الغرب مثل هذه الأفكار، فضلاً عن تأكيدات بوش بأن الرأسمالية “هي الوسيلة الأكثر كفاءة وعدالة على الإطلاق لبناء الاقتصاد”، و”محرك الحراك الاجتماعي”، و”الطريق السريع إلى الحلم الأميركي”.
يقول المحرر الأول للأسواق في “بلومبيرغ أوبينيون”، جون أوثرز إن الانتخابات الأميركية الأخيرة كانت بمثابة رفض حاسم لهذه الرؤى، والأسوأ من ذلك بالنسبة إلى إرث بوش، أن حزبه الجمهوري نفسه بات يرفض معظم هذه المبادئ بصورة قاطعة، مما يعكس تحولاً كبيراً في المواقف السياسية تجاه النظام الاقتصادي الذي كثيراً ما دافع عنه. ويضيف أوثرز أنه مع انهيار الأنظمة القديمة بسرعة وبصورة مفاجئة، فإن الأنظمة الجديدة التي تحل محلها تحتاج إلى وقت أطول لتتشكل وتترسخ، وخلال هذه الفترة الانتقالية، تصبح قوى الأسواق والاقتصاد الكلي هي المحرك الأساس للتغيرات، بينما تميل السياسة والانتخابات، على رغم ما يبدو ظاهرياً، إلى مجرد التصديق على التحولات التي حدثت. ويشير إلى أنه عندما انهار النظام المالي العالمي بصورة مفاجئة عام 2008، كان من الواضح أنه أطاح بنمط كامل لتنظيم الاقتصاد العالمي. ويرى أوثرز أنه لضمان بقاء الرأسمالية، كان لا بد من إعادة تشكيلها بصورة جذرية، وهو ما يحدث اليوم على حد قوله.
البديل الجديد قيد التشكل
بعد مرور 16 عاماً وخمسة انتخابات رئاسية منذ انهيار بنك “ليمان براذرز”، لا يزال البديل الجديد قيد التشكل، في مشهد يفتقر إلى الوضوح ويعكس عمق التعقيد في بناء نظام اقتصادي جديد.
وكانت اللحظتان الرئيستان للأزمة الاقتصادية في القرن الـ20 هما الانهيار الأعظم عام 1929، وإنهاء ريتشارد نيكسون لمعيار الذهب عام 1971، واستغرق الأمر أعواماً من الاضطرابات حتى ظهرت النسخة الكينزية من الرأسمالية، ثم الأسواق الحرة العالمية المستوحاة من ميلتون فريدمان في عهد رونالد ريغان ومارجريت تاتشر، ومع ذلك، من منظور التاريخ، كانت لبنات بناء النظام الجديد تتراكم بصورة مطردة طوال فوضى الثلاثينيات والسبعينيات، وربما يلاحظ التاريخ العملية نفسها في رد الفعل الأطول أمداً للأزمة المالية العالمية عام 2008.
وماتت النسخة الرأسمالية التي غذت العصر الذهبي والعشرينيات الصاخبة فجأة في أكتوبر (تشرين الأول) 1929، وحل محلها نموذج يمكن وصفه بالكينزية، حتى لو لم يكن جون ماينارد كينز الذي توفي عام 1946 راضياً عن السياسات التي سُنت باسمه، فيما استغرقت هذه العملية وقتاً طويلاً.
ويقول أوثرز في البداية، وثقت إدارة هربرت هوفر (جمهوري شغل منصب الرئيس الـ31 للولايات المتحدة) التدمير الخلاق الرأسمالي، وتركت البنوك تفشل على أمل تطهير النظام، في حين اتخذت أميركا منعطفاً كارثياً نحو الحماية الجمركية مع تعريفات سموت-هاولي (قانون التعرفة الجمركية لعام 1930 المعروف باسم تعرفة سموت)، ومن ثم وصل الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت عام 1933 عازماً على تحقيق التوازن في الموازنة.
وكانت الصفقة الجديدة بمثابة استجابة لروزفلت في توقيت ظروف يائسة، لكنه لم يتلق أي تفويض من الناخبين، وسرعان ما أدرك أن العجز أمر لا مفر منه، وقال وهو يواجه إعادة انتخابه “إن تحقيق التوازن في ميزانيتنا عام 1933 أو 1934 أو 1935 كان جريمة ضد الشعب الأميركي، عندما عانى الأميركيون، رفضنا أن نمر على الجانب الآخر، كانت الإنسانية تأتي أولاً”.
وشرح الإصلاحات الرئيسة للصفقة الجديدة، قائلاً “كان لا بد من كسر هذه الحلقة المفرغة المتوترة المتمثلة في انحدار دخلنا الوطني، وصاح المصرفيون ورجال الصناعة في الأمة بصوت عالٍ بأن الشركات الخاصة عاجزة عن كسرها، ولجأوا، كما كان لهم الحق في اللجوء، إلى الحكومة.
وقبلنا المسؤولية النهائية للحكومة، بعد فشل كل شيء آخر، عن إنفاق المال عندما لم يتبق لدى أي شخص آخر مال لإنفاقه”.
ترتيب النظام المالي بصرامة
ومن ثم جرى ترتيب النظام المالي بصرامة بعد فوضى الكساد العظيم، وكان أبرز معالم هذا التنظيم صدور قانون “غلاس-ستيغال”، الذي حظر على البنوك التجارية الدخول في أنشطة الاستثمار المصرفي، وأدى الإنفاق الضخم لهزيمة هتلر إلى إنشاء نموذج لأسعار صرف ثابتة بموجب اتفاقية “بريتون وودز” خلال الحرب، التي اعتمدت على ربط الدولار بالذهب، ومن رحم هذه المرحلة، وُلدت خطة “مارشال”، وقانون الجنود الأميركيين GI Bill، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي.
وخلال تلك الحقبة تبنت الحكومات نهجاً قائماً على “التكامل المؤسسي”، إذ كانت النقابات العمالية قوية، والشركات سخية تجاه موظفيها، بينما أبقت نفقات الحرب الباردة عجلة الاقتصاد دائرة، في حين استطاع النظام المصرفي الأميركي، الذي كان يتسم سابقاً بضعفه أمام الأزمات، أن يعيش فترة طويلة في استقرار نسبي من دون أزمات كبرى.
وبحلول عام 1944، أكمل الرئيس فرانكلين ديلانو روزفلت تحولاً فكرياً كاملاً عندما قال “لا يمكن للحرية الفردية الحقيقية أن توجد من دون الأمن الاقتصادي والاستقلال، فالناس المحرومون من الضروريات الأساسية ليسوا أحراراً، فالجوع والبطالة هما بذور تُنبت الديكتاتوريات”.
وعلى مدى عقود بعد الحرب، استمر العالم الغربي في العمل وفق هذا الأساس، وبينما كانت قوى السوق مفيدة، كانت تحت السيطرة وتأتي في مرتبة ثانوية مقارنة بأولوية تحقيق الأمن الاقتصادي والاجتماعي.
وداعاً “بريتون وودز”
ويرى أوثرز أن الإجماع الاقتصادي الذي ساد بعد الحرب العالمية الثانية عام 1971، انتهى عندما قرر الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون فجأة التخلي عن معيار الذهب الذي كان أساس اتفاقية “بريتون وودز”، وجاء هذا القرار بعدما أصبح النظام عاجزاً عن تحمل الأعباء المالية الناتجة من الإنفاق الكبير على البرامج الاجتماعية السخية وحرب فيتنام. ويشير إلى أن هذا التحول لنيكسون سمح بزيادة الإنفاق لتعزيز فرصه في إعادة الانتخاب بنجاح، لكن التخلي عن معيار الذهب أدى إلى ارتفاع سعر الذهب، مما أسهم في فرض الحظر النفطي العربي عام 1973، إذ عمد منتجو النفط إلى رفع الأسعار بالدولار لتعويض القيمة التي كان النفط يحتفظ بها بالذهب عام 1971، ومع هذا التحول، أُزيح الذهب ليحل “معيار النفط” مكانه.
ويسترسل أوثرز قائلاً، “جلبت السبعينيات معها ركوداً تضخمياً حاداً، لكن ملامح نظام اقتصادي جديد بدأت تظهر تدرجاً، ففي عام 1976، طلبت حكومة بريطانيا العمالية ذات الضرائب المرتفعة قرضاً من صندوق النقد الدولي، مما فرض شروط تقشف قاسية، وفي اعتراف صادم، أقر رئيس الوزراء العمالي آنذاك جيمس كالاهان، قبل ثلاثة أعوام من هزيمته أمام مارغريت تاتشر، بأن “اللعبة الكينزية انتهت”، قائلاً “كنا نظن أنه يمكن الخروج من الركود وزيادة التوظيف عبر خفض الضرائب وزيادة الإنفاق الحكومي… أقول لكم بكل صراحة إن هذا الخيار لم يعد موجوداً، وإن كان موجوداً في السابق، فقد عمل فقط بعد الحرب من خلال زيادة التضخم في كل مرة، يتبعها ارتفاع أكبر في البطالة كخطوة لاحقة.”
ركود اقتصادي جديد
وفي الولايات المتحدة، عيّن الرئيس جيمي كارتر بول فولكر رئيساً جديداً لـ”الاحتياط الفيدرالي” الأميركي، وشرع فولكر في تنفيذ سلسلة من رفع أسعار الفائدة، مما دفع العالم إلى ركود اقتصادي جديد، لكنه منح “الاحتياط الفيدرالي” أخيراً الصدقية الكافية ليصبح بديلاً فعالاً لمعيار الذهب، وهذا التحول أوجد الاستقرار الذي افتقده العالم خلال العقد الذي ارتبطت فيه الأسواق المالية بتقلبات أسعار النفط.
وبحلول الانتخابات الحاسمة التي جاءت برئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر عام 1979 والرئيس الأميركي رونالد ريغان عام 1980، كانت القرارات الرئيسة اتخذت بالفعل، وأتت نتائج هذه الانتخابات بمثابة إقرار لهذه السياسات، فالنموذج الكامل لعصر تاتشر-ريغان شمل تحرير الأسواق المالية والعولمة، التي تسارعت بدعم من انهيار الكتلة الشيوعية وتبني دينغ شياو بينغ نموذجاً صينياً للرأسمالية، وعلى رغم وجود مشكلات كامنة تحت السطح، ظل هذا النموذج شبه مُسلّم به حتى عام 2008.
الأزمة المالية العالمية وترمب
كان انهيار عالم تاتشر-ريغان في عام 2008 شاملاً، لكن الاستجابة لذلك استغرقت وقتاً لتتبلور، وعبر رئيس موظفي البيت الأبيض في إدارة أوباما الأولى، رام إيمانويل، عن ذلك بقوله “لا يجب أن تضيع أزمة خطرة من دون استغلالها”. ومع ذلك، كان هذا بالضبط ما سمحت به إدارة أوباما، إذ أضاعت فرصة إعادة بناء النظام الاقتصادي على أسس أكثر استدامة.
واختارت الحكومة الجديدة آنذاك عدم تأميم البنوك، مفضلة نهج إعادة التنظيم المحدود ضمن إطار قانون “دود-فرانك” (هو تشريع أقره الكونغرس الأميركي رداً على سلوكيات صناعة المال التي أدت إلى وقوع الأزمة المالية لإصلاح وول ستريت وحماية المستهلك) الواسع، كما قررت الحكومة عدم ملاحقة الممولين قانونياً، على رغم احتمال مسؤوليتهم، في تناقض واضح مع الإجراءات التي اتُّخذت في ثلاثينيات القرن الماضي. هذه القرارات عززت انعدام الثقة لدى الرأي العام وكرست الانطباع بأن المصرفيين، وليس عملاءهم، كانوا المستفيدين الرئيسين من جهود الإنقاذ، وهو ما مهد الطريق لصعود دونالد ترمب لاحقاً.
وتحت ضغط حركة “حزب الشاي”، استبعدت مشاريع إنفاق مالي ضخمة شبيهة بـ”الصفقة الجديدة”، لكن عبر سياسة طباعة النقود، نجح “الاحتياط الفيدرالي” في الحد من كارثة اقتصادية كانت لتصبح واضحة كالنار في الهشيم، ليحولها إلى أزمة بطيئة الاحتراق.
وعلى رغم تجنب كساد عظيم ثانٍ، ظل النمو الاقتصادي ضعيفاً، فيما أدت أسعار الفائدة المنخفضة إلى تعزيز مكاسب من يمتلكون أصولاً، مما أسهم في زيادة التفاوت الاقتصادي.
وفي المقابل، ركز فريق الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما على توسيع شبكة الأمان الاجتماعي، لا سيما من خلال إصلاح نظام التأمين الصحي المعروف بـ”أوباما كير”، وهذا النهج مكّن أوباما من تحقيق فوز سهل على منافسه الجمهوري ميت رومني في انتخابات 2012، عبر تصويره كرمز لرأسمالية حقبة تاتشر وريغان.
مع انتخاب دونالد ترمب في 2016 ترك نظام “أوباما كير” كما هو، إذ واجه الجمهوريون صعوبة سياسية في تعديله، وفي الوقت نفسه، تجاهل ترمب هواجس “حزب الشاي” السابقة في شأن العجز، وسمح بتضخمه عبر خفضات ضريبية غير ممولة، وشهدت فترة حكمه منعطفاً حاداً نحو سياسات الحماية. وخلال جائحة “كوفيد-19” أنفق تراب الأموال على نطاق لم يشهده العالم منذ أجيال، في خط متوازٍ مع عدد من الحكومات حول العالم.
وأسهمت هذه التحولات الاقتصادية والسياسية المتسارعة في رسم ملامح جديدة للولايات المتحدة، تاركة وراءها تداعيات لا تزال أصداؤها تُسمع في الأسواق والسياسة العالمية.
وعزز بايدن السياسات الصناعية فيما رسخ ترمب القومية الاقتصادية، ومن ثم واصل الرئيس جو بايدن تكثيف التعريفات الجمركية التي فرضها سلفه دونالد ترمب، مما أدى إلى تقليص الواردات الصينية، وفي الوقت نفسه، أطلق بايدن أكثر سياسة صناعية جرأة، مستثمراً في البنية التحتية والتقنيات الخضراء لخلق فرص عمل جديدة، وعلى رغم أن هذه الخطوة تحمل إمكانات تحولية للاقتصاد الأميركي، فإنها لم تحظَ بكثير من الاهتمام خلال الحملة الانتخابية عام 2024.
هذا الاتجاه نحو تقليص العولمة ومنح الدولة دوراً أكبر لا يقتصر على الولايات المتحدة، ففي الصين، أعاد الرئيس الصيني شي جينبينغ فرض سلطة الدولة على القطاع الخاص، وفي أوروبا، لجأت الحكومات إلى سياسات التقشف وعززت ردود الفعل الشعبوية، أما في الهند وتركيا والبرازيل، فصعدت حكومات ذات توجهات أكثر تدخلية وشعبوية من مختلف الأطياف السياسية.
واليوم، يعود ترمب إلى المشهد السياسي بتفويض لمواصلة وتكثيف سياساته القائمة على القومية الاقتصادية، وهذا التحول يؤكد الابتعاد عن سياسات إدارة أوباما المترددة وردود فعل “حزب الشاي”، إضافة إلى تأثير البنوك المركزية التي أبطأت الانتعاش الاقتصادي لأعوام من خلال طباعة النقود.
تكتلات تجارية محمية بالرسوم الجمركية
ما نشهده الآن هو تحول متزايد نحو نموذج اقتصادي جديد، يتخلى عن الرأسمالية الكلاسيكية لفريدمان، وحتى عن أفكار جون ماينارد كينز (واضع نظرية كينز التي تقول إن الاقتصاد الكلي يمكن أن يكون في حال من عدم التوازن لفترة طويلة، لذلك تدعو هذه النظرية إلى تدخل الحكومة، للمساعدة في التغلب على انخفاض الطلب الكلي، وذلك من أجل الحد من البطالة وزيادة النمو) لمصلحة نموذج يعتمد على دولة رفاهة أوسع نطاقاً، وتكتلات تجارية محمية بالرسوم الجمركية، وحكومات تفرض أولوياتها على القطاع الخاص.
وقال أوثرز إن الحمائية عادت اليوم بقوة، لكن القطاع المالي سيظل بمنأى عن القيود، ويرى أن عودة ترمب المرتقبة ليست سوى تكريس للنظام الجديد الذي بدأ يتشكل بالفعل، في عالم يعيد صياغة قواعده الاقتصادية والسياسية.وتابع “في الواقع هذا النموذج الناشئ الآن يشكل خياراً أفضل”، مستشهداً بما قاله جون ماينارد كينز ذات يوم “الرجال العمليون الذين يعتقدون أنهم معفون تماماً من التأثيرات الفكرية هم عادة عبيد لبعض الاقتصاديين الراحلين”. ويقول أوثرز، إذا كان هناك اقتصادي سابق يستحق أن ينسب إليه الفضل في هذا النموذج الناشئ الآن، فقد يكون الخيار الأفضل هو جان بابتيست كولبير، الذي أدار خزانة لويس الـ14 في القرن الـ17، والذي أصبح اسمه الآن مرادفاً لمبدأ المذهب التجاري “فلسفة القومية الاقتصادية”، مع تدخل الدولة إذا لزم الأمر لتعزيز مصالحها على حساب الآخرين.
أضاف أوثرز “بوسعنا أن نرى المذهب التجاري بوضوح كاف على المستوى الكلي”، من خلال ارتفاع التعريفات الجمركية وفي تحركات الصين لإنشاء كتلة من البلدان التي تعتمد على استثماراتها، “وفي الولايات المتحدة، كان انتصار المفهوم على المستوى الجزئي أكثر دلالة. وبعد عام 2008، حاولت الشركات إصلاح وتحسين الرأسمالية، على غرار ما اقترحه جورج دبليو بوش، من خلال إنشاء مجموعات تحمل أسماء مثل مجلس الرأسمالية الشاملة وتركيز رأس المال على الأمد البعيد، لدعم اقتصاد مستدام ومزدهر”. وتحول الاستثمار البيئي والاجتماعي والحوكمة، إذ عدل مديرو الأموال الكبار معاييرهم لإرسال بعض رأس مالهم إلى الشركات التي تستحق ذلك أكثر من غيرها، إلى جهد تسويقي ضخم في “وول ستريت”.
المذهب التجاري في القرن الـ21
أضاف أوثرز “في الواقع أكثر هذه الأفكار شهرة كان اقتراح مؤسس المنتدى الاقتصادي العالمي كلاوس شواب الذي دعا إلى إعادة ضبط كبرى للرأسمالية في أعقاب الجائحة، وكانت الفكرة أن أصحاب الشركات ينبغي لهم أن يتصرفوا بما يخدم مصالح جميع أصحاب المصلحة (بما في ذلك على سبيل المثال الموظفون، أو أولئك الذين قد يعانون التلوث) وليس مجرد محاولة تعظيم القيمة للمساهمين، وهو ما أدى، على حد اعتقاد بعض الاقتصاديين، إلى قصر النظر والتركيز على الهندسة المالية، لكن هذا لم يسر على ما يرام، فالناس لا يثقون في المؤسسات التي جلبت العالم إلى هذه الفوضى لإخراجنا منها، وأصبحت إعادة الضبط الكبرى موضوعاً لنظرية مؤامرة شعبية”.
وعلى رغم أن نهج شواب لا يزال يتمتع بالهيمنة في أوروبا، فإن في الولايات المتحدة جرى شيطنة الحروف التي تعكس البيئة والمجتمع والحوكمة “ESG” إلى الحد الذي دفع لاري فينك، الذي يدير أكبر شركة لإدارة الصناديق في العالم، “بلاك روك”، إلى القول إن المصطلح سُلح وأصبح ساماً للغاية للاستخدام.
ومضى أوثرز قائلاً “لقد تغيرت الفلسفة وراء الدعاوى القضائية المناهضة للاعتبارات البيئية والاجتماعية والحوكمة بصورة عميقة، وكانت الموجة الأولى من المعارضة القانونية مبنية على وجهة نظر ميلتون فريدمان التقليدية، التي تقول إن مديري الاستثمار لديهم واجب ائتماني لتعظيم العائد لعملائهم من خلال قيمة المساهمين ولا شيء آخر… الروح المحركة لأحدث مقاطعات الاعتبارات البيئية والاجتماعية والحوكمة هي أن الحكومات والشركات يحق لها نشر أموالها لتعزيز مصالحها الخاصة مقابل مصالح الجميع، بدلاً من تعظيم العائدات”.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي رسالة إلى فينك من جون شرودر، أوضح أمين خزانة ولاية لويزيانا سبب انسحاب الولاية من شركته تماماً، على رغم أن “بلاك روك” مستثمر كبير في الوقود الأحفوري، قائلاً “يعد الانسحاب من السياسات البيئية خطوة ضرورية لحماية ولاية لويزيانا من الإجراءات التي تهدف إلى إعاقة قطاع الوقود الأحفوري، الذي يعد جزءاً أساساً من اقتصادها. وفي رأيي، يتعارض دعمك الاستثمار البيئي والاجتماعي والحوكمة مع المصالح الاقتصادية العميقة والقيم الفضلى للويزيانا، لا يمكنني دعم مؤسسة تحرم ولايتنا من الاستفادة من أحد أقوى أصولها. ببساطة، لا يمكننا أن نكون جزءاً من عملية تضر باقتصادنا”.
ورأى أوثرز أن هذا الموقف يعكس تبايناً حاداً مع النهج الذي اتبعه فريدمان، الذي يدير أكبر صندوق ثروة سيادية في العالم، وهو صندوق النرويج، الذي يتجنب الاستثمار في النرويج أو في قطاع الوقود الأحفوري، تحت مبرر أن ذلك قد يزيد من تعرض البلاد للنفط. واشار إلى أن النهج التجاري الجديد يذهب أبعد من ذلك، إذ رأى أن المالكين ليس لديهم الحق في فرض التغييرات المؤسسية، مضيفاً “جون ماينارد كينز نفسه مستثمر بارع في القيمة، وكان يؤمن بأن المساهمين يجب أن يفرضوا ثقلهم على الإدارات، وكان هذا المبدأ جزءاً من الأفكار الليبرالية التي طرحها فريدمان، وفي الواقع، كانت فكرة قدرة الحكومات على ممارسة هذا النوع من النفوذ على القطاع الخاص والتجارة الدولية غائبة عن الغرب طوال أكثر من قرن”.
اليوم، باتت فكرة فشل نظام السوق الحرة في الأزمة المالية العالمية راسخة، على رغم أن الجهود لإصلاحه من الداخل لم تنجح.
ولفت أوثرز إلى أن التاريخ يبقى غامضاً في ما يتعلق بما إذا كان هذا النظام الجديد سينجح هذه المرة، ففي الماضي، بنَت بريطانيا وهولندا وفرنسا إمبراطوريات ضخمة وخلقت ثروات هائلة باستخدام النموذج التجاري، لكن الجميع تخلوا عنه في النهاية، كما حدث في الثورة الفرنسية، واتضح أن التجارة والاقتصاد ليسا مجرد لعبة محصلة صفرية، وأن بريطانيا الصناعية تمكنت من النمو بصورة كبرى باتباع مبادئ التجارة الحرة.
وختم أوثرز بالقول “يبدو أن العالم سيضطر إلى تعلم هذا الدرس مرة أخرى، لكن هذه المرة سيفعل ذلك في بيئة حيث لم يعد استعمار مساحات كبيرة من العالم لتأمين الوصول إلى التجارة والموارد خياراً متاحاً”.
نقلاً عن : اندبندنت عربية