مادلين كريدون | ردع الدول النووية الاستبدادية

لم تواجه الولايات المتحدة وحلفاؤها أي تهديدات نووية خطرة خلال مدة تزيد على ثلاثة عقود بعد نهاية الحرب الباردة، ومن المؤسف أن الوضع لم يعد على هذا الحال. كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يلوح بسيفه النووي بطريقة تذكر المرء بالزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف، كما قام الرئيس الصيني شي جينبينغ بإدارة عملية بناء هائلة للترسانة النووية الصينية، وهو المشروع الذي وصف آمر القيادة الإستراتيجية الأميركية المتقاعد أخيراً مداه وحجمه بأنهما “مذهلان”.

كما وقّع الزعيمان الروسي والصيني على معاهدة “صداقة بلا حدود”، وعلى أرض الواقع يزود زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون روسيا بالأسلحة والقوات من أجل دعم حربها في أوكرانيا، فيما تعمل بلاده على تحسين قدرتها على ضرب جيرانها والداخل الأميركي بالأسلحة النووية، كما أثبتت ذلك بإطلاق صاروخ باليستي عابر للقارات تجريبي في الـ 31 من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتشكل هذه التطورات تحديات بعيدة المدى للأمن القومي الأميركي، فلم يعد بوسع الولايات المتحدة أن تتجاهل الأخطار النووية المتعددة وتركز على ردع عدو واحد، ولمعالجة هذا الواقع الجديد عدلت إدارة بايدن إرشادات الاستهداف النووي الأميركية لكي تتمكن من ردع الصين وروسيا في وقت واحد، كما تعمل على تطوير أنظمة ومنصات ورؤوس حربية نووية جديدة.

بيد أن جهود واشنطن لتحديث الردع النووي الأميركي الذي يتقدم به العمر قد أُعيقت بسبب حدود قدرات القاعدة الصناعية ونقص المواد والعمالة وفجوات التمويل، وما يجب القيام به واضح، وهو تخلي الإدارة المقبلة عن إجراء مراجعة شاملة لسياسة الردع النووي أو خطط التحديث، إذ إن هناك حاجة ماسة إلى المضي قدماً في أعمال التحديث والعثور على حلول للمشكلات.

خصوم أكثر وقت أقل

قامت الإدارات الجديدة عموماً على مدى العقود الثلاثة الماضية بإجراء مراجعة للعقيدة النووية، وهي عملية تستغرق وقتاً طويلاً والهدف منها تحديد السياسة والإستراتيجية النووية للولايات المتحدة خلال فترة تتراوح بين خمسة و10 أعوام مقبلة، ومن المهم التعرف إلى التهديد ومدى سرعة تناميه من أجل فهم السبب الذي يفسر لماذا يجب على إدارة ترمب الجديدة أن تكتفي بإجراء تحديث سريع لإرشادات بايدن بدلاً من القيام بمراجعة كاملة للعقيدة النووية.

وعلى رغم أن روسيا بدأت بداية بطيئة في تنفيذ برنامجها للتحديث النووي لكن هذا الجهد اكتمل الآن إلى حد كبير، فقلد أنجزت روسيا بناء ثالوث إستراتيجي حديث مؤلف من الصواريخ البرية العابرة للقارات والغواصات الإستراتيجية والصواريخ المرتبطة بها والقاذفات وصواريخها المجنحة التي يجري إطلاقها من الجو.

إن كل واحد من عناصر هذه الثلاثية المحدثة يشكل تحسناً كبيراً في القدرات التي توافرت في السابق، كما أن بعض هذه العناصر يزعزع أيضاً استقرار التوازن الإستراتيجي القائم، فالصاروخ الروسي “سارمات” Sarmat، على سبيل المثال، ضخم وصنع لكي يحل محل الصاروخ الباليستي العابر للقارات “إس إس-18” SS-18 الثقيل، وهو قادر على حمل عدد كبير من الرؤوس الحربية النووية المصممة لمهاجمة الصواريخ الباليستية العابرة للقارات لدى أميركا في سيناريو الضربة الأولى.

إن كثيراً من الأنظمة الروسية غير الإستراتيجية الجديدة مزعجة للغاية، ومن هذه الأنظمة مثلاً طوربيد “بوسيدون” Poseidon النووي العابر للقارات الذي جرى تصميمه بهدف تدمير مناطق ساحلية كبيرة وجعلها غير صالحة للسكن لقرون عدة في المستقبل، والأمر الأكثر إثارة للقلق هو جهود روسيا الرامية إلى إعادة بناء جميع عناصر قواها النووية الإقليمية، أي الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى التي يمكن إطلاقها من الأرض أو البحر أو الجو، ومن الواضح أن هذه الأنظمة تهدف إلى ترهيب جيران موسكو وإضفاء جوهر على العقيدة النووية الروسية الجديدة التي أعلنها بوتين في سبتمبر (أيلول) الماضي، ووسع فيها الكرملين حدود الظروف التي قد تشهد استخدام الأسلحة النووية، وكرر هذا الأمر خلال نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري.

وكانت الصين تعمل على تحديث قواها النووية بصورة أسرع حتى من روسيا، وفي عام 2020 أمر الرئيس شي بتوسيع ترسانة بلاده على نحو كبير وسريع، ومن المتوقع أن يتضاعف عدد الأسلحة النووية الإستراتيجية التي تنشرها الصين من 500 إلى 1000 سلاح بحلول عام 2030، وأن يصل إلى 1550 سلاحاً في الأقل بحلول منتصف العقد المقبل.

وأنجزت بكين سلفاً بناء ثالوث إستراتيجي مقتدر يشبه ذاك الذي تملكه كل من الولايات المتحدة وروسيا بيد أنه أصغر منهما، كما تعمل الصين أيضاً على توسيع قواها النووية الإقليمية وتنويعها.

وعلى عكس روسيا والولايات المتحدة تلتزم اسمياً سياسة “عدم الاستخدام الأول” [للسلاح النووي في حال نشوب حرب]، إلا أن قواها النووية اكتسبت في الواقع قدرات تمكنها من توجيه الضربة النووية الأولى والإطلاق فور صدور الإنذار.

وعلى رغم أن ترسانتي الصين وروسيا المتناميتين تشكلان اثنين من التحديات الخطرة فإن سياسة الردع النووي التي تتبعها الولايات المتحدة قادرة تماماً على التعامل معهما، وقد ركزت السياسة الأميركية خلال أكثر من 45 عاماً على ردع العدوان الموجه ضد المصالح الوطنية الحيوية ومصالح حلفاء الولايات المتحدة من خلال الاحتفاظ بالقدرة على استهداف الموجودات التي يعتبر الخصوم المحتملون أن قيمتها أكبر من كل ما عداها، أي هم أنفسهم وكوادرهم القيادية، والبنية الأساس الأمنية التي تبقيهم في السلطة، إضافة إلى عناصر مختارة من قواهم النووية والتقليدية وصناعاتهم الداعمة للحرب.

وفي الماضي ربما كان قادة الاتحاد السوفياتي هم هؤلاء الخصوم، أما اليوم فقد أصبحوا أنظمة بوتين وشي وكيم، ومع ذلك فإن نمو القدرات النووية الصينية سيشكل تحدياً جديداً من خلال بروز قوة عظمى نووية ثالثة كبرى بحلول منتصف ثلاثينيات القرن الـ 21، ومن أجل اتخاذ الاستعدادات اللازمة لمواجهة احتمال تعرض البلاد إلى اعتداء انتهازي أو منّسق من قبل روسيا والصين معاً، أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن في يونيو (حزيران) الماضي إجراء تعديلات في توجيهات الاستهداف الأميركية التي صُممت، كما قال براناي فادي المسؤول في مجلس الأمن القومي، “لردع روسيا وجمهورية الصين الشعبية وكوريا الشمالية في وقت واحد”.

وأضاف فادي، في إشارة إلى القوى النووية الأميركية، أن البلاد “قد تصل إلى لحظة خلال الأعوام المقبلة حيث يتطلب الأمر زيادة الأعداد الحالية المنشورة”.

وقد أُغفل ذكر حجم الترسانة الأميركية مع أن تحديده بصورة صحيحة أمر في غاية الأهمية، والمسألة الحاسمة هنا هو أن القوة النووية المنشورة للولايات المتحدة لا بد من أن تكون ضخمة بما فيه الكفاية لتغطية الأهداف التي يعتبر الأعداء المحتملون أنها الأكثر قيمة لديهم، كما هو محدد في أحدث توجيهات الاستهداف وأية تحديثات لاحقة.

ولكن على عكس ما اقترحه بعض المعلقين فإن الولايات المتحدة لا تحتاج إلى تكبير ترسانتها النووية لكي تضاهي ترسانتي روسيا والصين مجتمعتين، ولا ينبغي لها على الإطلاق أن تفعل ذلك، وستوفر التوجيهات الجديدة، عند تنفيذها بصورة كاملة رادعاً قوياً وفعالاً، ونتيجة لذلك ينبغي على إدارة ترمب المقبلة أن تتفادى القيام بعملية تطوير الإرشادات التي تستغرق أعواماً عدة وتعمد عادة الإدارات الجديدة إلى إنجازها مستهلة العملية بمراجعة العقيدة النووية.

وبدلاً من محاولة إعادة كتابة توجيهات إدارة بايدن المحدثة سلفاً يتعين على الإدارة الجديدة أن تركز على تلك المجالات التي تواجه فيها الولايات المتحدة بعض المشكلات، مثل التقدم البطيء في عملية التحديث النووية والفجوات الكبيرة في رادعها التقليدي والضعف الشديد في القاعدة الصناعية الدفاعية الأميركية.

ثلاثة أشياء معاً في وقت واحد

لم يكن إنشاء ثالوث أميركا النووي نتيجة لحسابات استراتيجية، فقد برز الجمع بين الصواريخ الأرضية والصواريخ التي تطلقها الغواصات والقاذفات الإستراتيجية في البداية خلال التنافس بين الخدمات في خمسينيات القرن الماضي، غير أن الجمع بين ملفات تعريف الطيران المختلفة وأنماط التمركز أثبت أنه ذو قيمة عالية، ونُشر الثالوث الحقيقي الأول خلال إدارة كينيدي، وبعد عقدين من الزمن عمدت إدارة ريغان إلى تحديث تلك القوى فزُودت الصواريخ الباليستية العابرة للقارات من طراز “مينوتمان” Minuteman بمحركات وأنظمة توجيه جديدة، كما صُممت فئة جديدة من الغواصات الإستراتيجية المجهزة بصواريخ جديدة، ووفرت لقوة القاذفات التي كانت تتقدم في العمر صواريخ كروز المجنحة بعيدة المدى كانت قادرة على التخفي آنذاك لضمان استمرار فعاليتها.

ولكن بحلول مطلع القرن الـ 21 أصبح الثالوث الذي يعود لعهد ريغان قديماً ووجب استبداله، غير أن الخبراء الإستراتيجيين الأميركيين قد شُغلوا عن هذه المهمة، فقد استقطبت اهتمامهم الحروب في أفغانستان والعراق فضلاً عن جملة من التقييمات الجيوسياسية، ومنها على سبيل المثال أن بوتين الذي كان قد وصل إلى السلطة قبل بضعة أعوام فقط لم يكن يشكل تهديداً للولايات المتحدة أو لحلفائها الغربيين، وأن التهديد النووي الشامل قد تضاءل.

وفي إطار جهودها للتصديق على “معاهدة ستارت الجديدة”، وهي اتفاق ثنائي لخفض الأسلحة مع موسكو، بدأت إدارة أوباما في عام 2010 برنامجاً لاستبدال أجزاء الثالوث الثلاثة، بيد أن خطة أوباما واجهت على الفور تحديات منها الحدود القصوى للموازنة وقاعدة صناعية غير كافية وتقاعد القوى العاملة والحاجة إلى أجزاء ومواد لم تعد موجودة، ومن المؤسف أن تنفيذ كل من عناصر هذا البرنامج متأخر عن الجدول الزمني وقد تجاوزت كلفته الموازنة المخصصة لذلك، ولا تزال كل أجزاء الثالوث الأميركي الثلاثة سليمة وآمنة وموثوقة، لكنها كانت تعمل بصورة جيدة بعد انقضاء عمرها الافتراضي المنشود.

إن التحدي الآن يتمثل في كيفية استبدال أجزاء الثالوث في وقت واحد، وهي مهمة ضخمة، فقد تم نشر الصواريخ الباليستية العابرة للقارات من طراز “مينوتمان-3” للمرة الأولى منتصف سبعينيات القرن الماضي ثم جرى تحديثها في التسعينيات منه، وقد أصبحت مكوناتها الآن قديمة ولا يمكن تمديد عمرها الافتراضي على نحو آمن إلى ما بعد منتصف ثلاثينيات القرن الـ 21، أما الغواصات من فئة “أوهايو” فقد صُممت لكي تعمل لمدة 30 عاماً تقريباً.

ومن بين القوارب الـ14 الموجودة في الخدمة حالياً 11 شُغلت لأكثر من 30 عاماً، كما أن كثيراً من هذه القوارب كانت في الخدمة لمدة تزيد على 35 عاماً، والصاروخ المجنح الذي يُطلق من الجو نُشر عام 1980 لتوسيع نطاق استخدام الطائرة “بي-52” التي تعود لعهد أيزنهاور، كان قد صُمم لكي يعمل لـ 10 أعوام وهو لا يزال في الخدمة (ومن المقرر حالياً أن يوقف عن العمل في نهاية هذا العقد أو أوائل العقد المقبل).

ليس من الضروري على الإطلاق أن تضاهي الترسانة النووية الأميركية ترسانتي روسيا والصين مجتمعتين

واجهت كثير من الأسلحة البديلة نفسها تحديات في سياق عمليات التطوير، فقد تحمل مشروع صاروخ “سنتينل” Sentinel الباليستي العابر للقارات الذي تمت الموافقة عليه عام 2014 زيادة كبيرة في الكلف، ويرجع هذا جزئياً لأن تطويره يتطلب تجديد صوامع “مينوتمان” وكذلك نظام قيادة وسيطرة جديد، وقال سلاح البحرية أخيراً إن أول غواصة صواريخ من فئة كولومبيا التي صُممت لتحل محل قوارب فئة أوهايو قد تتأخر لمدة تراوح ما بين عام وعامين بسبب عجز صناعة الدفاع عن إنتاج المكونات الرئيسة، وعلى رغم أن كثيراً من المحللين الدفاعيين يعتقدون أن الولايات المتحدة تحتاج إلى ما لا يقل عن 200 من قاذفات “بي-21” الجديدة حتى تكون قادرة على تنفيذ مهمات تقليدية ونووية، فقد اقتصر البرنامج بصورة لا يمكن تفسيرها على 100 طائرة فقط، والصاروخ المجنح الجديد المخصص لكل من القاذفتين “بي-52” و”بي-21″، وهو الصاروخ المعروف باسم “السلاح البعيد المدى”، خُفض تمويله القريب الأمد مما أجبر الجيش على الاعتماد بصورة أكبر على صاروخ مجنح عفا عليه الزمن، كان قد صُمم للتهرب من الدفاعات الجوية السوفياتية خلال حقبة الثمانينيات من القرن الـ 20، وليس من الأنظمة الأكثر تقدماً التي تستخدمها روسيا اليوم.

وهناك نقطة ضعف إضافية تتمثل في قوة الردع النووي الإقليمية الأميركية، فخلال الحرب الباردة نشرت الولايات المتحدة آلافاً عدة من الأنظمة النووية متوسطة المدى، ولكن قضي على أكثر من 90 في المئة منها بموجب سلسلة من الاتفاقات الثنائية مع الاتحاد السوفياتي وروسيا عامي 1991 و1992، وكما هو معروف جيداً فقد تراجعت موسكو عن التزاماتها وأعادت بناء قواها النووية البرية والبحرية والجوية القصيرة والمتوسطة المدى، ولدى الولايات المتحدة عدد صغير من القنابل التي يجري إطلاقها جواً في أوروبا ولا توجد عندها أسلحة نووية إقليمية مخصصة للمحيط الهادئ جرى نشرها هناك.

وعلى رغم أن واشنطن ليست في حاجة إلى حيازة الأعداد ذاتها التي حافظت عليها خلال الحرب الباردة لكنها تحتاج خيارات أكثر مرونة، وقد وجّه الكونغرس إدارة بايدن ببناء “صاروخ مجنح نووي يُطلق من البحر” (أس أل سي أم-أن) (SLCM-N) ونشره من أجل توفير ردع معزز لشركاء أميركا في المحيط الهادئ وحلف شمال الأطلسي (ناتو)، لكن هذه القدرة لن تتوافر قبل عقد آخر أو أكثر من الزمن.

ناقلات وقود متعبة ورؤوس حربية ذابلة

على رغم أن القوى النووية تعتبر بمثابة العمود الفقري للردع الأميركي فإن القوى التقليدية هي خط الدفاع الأول للولايات المتحدة، وإذا كانت القوى التقليدية متينة وقادرة بما فيه الكفاية فسيكون بمقدورها أن تردع المراحل الأولية لعدوان تشنه روسيا منفردة أو بالاشتراك مع الصين، وسيكون من الممكن تجنب مسائل الحرب والهجمات النووية، ولكن كانت هناك إخفاقات متكررة في هذا المجال.

وعلى سبيل المثال لا تملك القوات الجوية ما يكفي من ناقلات الوقود الجوية لدعم القوى التقليدية أو النووية في مسارح عدة، وهناك حاجة إلى ناقلات لتزويد القوى الأميركية بالوقود في كل من أوروبا ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ، وهي رقعة جغرافية كبيرة بصورة مخيفة، ولكن على مدى أربعة أعوام طويلة أرجأت القوات الجوية معالجة هذه القضية وعرضت في بعض الأحيان احتمال تبني خيار “ناقلة الجسر”، غير أنها لم تقم بأي شيء على الإطلاق بهذا الخصوص عملياً. وباعتبار أن الوضع الدولي قد تدهور بصورة أكبر خلال تلك الأعوام الأربعة فإن القوات الجوية باتت تعاني نقصاً أكبر في ناقلات الوقود ربما يصل إلى 100 ناقلة أو أكثر، مقارنة بما كانت عليه الحال عام 2021.

لقد أسقطت القوات البحرية من موازنتها لعام 2025 طلباً للحصول على غواصة من فئة “فيرجينيا”، وهي الأحدث والأكثر قدرة بين فئات الغواصات الهجومية السريعة التي تعمل بالطاقة النووية، وجاء التخلي عن الطلب بسبب أولويات متضاربة مع السفن العادية وأيضاً حالات التأخر بالتسليم من قطاع صناعة الدفاع.

إن قوة الغواصات الهجومية الأميركية التي تعمل بالطاقة النووية أقل بكثير مما يلزم لتوفير رادع متزامن في كل من شمال الأطلسي والمحيط الهادئ، وعلى نحو مشابه أدى سوء إدارة سلاح البحرية لإصلاح السفن والغواصات وتجديدها إلى حصول تأخير دام لأعوام أحياناً في معالجة قطع بحرية كان الأسطول في أمس الحاجة إليها، وعلى المنوال ذاته اشتكت البحرية طوال مدة تزيد على عقد من الزمن من قدرة كل من روسيا والصين المتزايدة لجهة منع الآخرين من دخول المياه والمجال الجوي حول محيطها، ومع ذلك فإنها تعتبر أفضل التدابير المضادة، أي صاروخ “الضربة الفورية التقليدية الفرط صوتي، كما لو كان ترفاً، وستنشر هذه الصواريخ على دفعات حتى منتصف العقد المقبل، على رغم أن الأميركيين من قادة الوحدات المقاتلة في مسارح العمليات في أوروبا وآسيا والمحيط الهادئ يشعرون بقلق عميق إزاء الأعوام الثلاثة إلى الأربعة المقبلة.

وبصرف النظر عن أنظمة التسليم الفعالة فإن الولايات المتحدة تحتاج إلى تحديث الرؤوس الحربية النووية أو القنابل التي ستحملها هذه الأنظمة، وفي الفترة المفعمة بالأمل في أعقاب الحرب الباردة وقّعت الصين وروسيا والولايات المتحدة وكل الدول الأخرى التي تملك أسلحة نووية على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، وكان ذلك اتفاقاً متعدد الأطراف لوقف جميع التجارب النووية التي تشمل تفجيرات.

وعلى رغم أن المعاهدة لم تصبح نافذة قط فقد التزمت بها الولايات المتحدة من جانب واحد، ونتيجة لذلك اضطرت البلاد إلى الاعتماد على وسائل أخرى غير الاختبارات من أجل المضي في رصد مخزونها النووي وتطويره، وحين وقعت واشنطن على المعاهدة فإنها عمدت إلى تكليف وزارة الطاقة بإنشاء برنامج من أجل القيام بالنسخ على نحو علمي للبيانات التي جمعت سابقاً من التجارب النووية، وكان هذا البرنامج ناجحاً بصورة غير عادية، وتمكنت “وزارة الطاقة” مع “الإدارة الوطنية للأمن النووي” من الحفاظ على كل الرؤوس الحربية الباقية في المخزون النووي الأميركي من خلال برامج إطالة العمر، لكن وبعد أن تمت إطالة عمر معظم الرؤوس الحربية أو باتت في طور “إطالة العمر” يجب الآن على “الإدارة الوطنية للأمن النووي” أن تبدأ في تصميم وتطوير أسلحة نووية جديدة باستخدام القدرات العلمية والحسابية نفسها  بدلاً من الاختبار ولن يكون هذا سهلاً، فمن ناحية يجب على “الإدارة الوطنية للأمن النووي” إعادة تعلم مهارات التصميم والتصنيع وتأهيل الموردين الحاليين مرة أخرى أو العثور على موردين جدد، ومع ذلك فإن مجمع الإنتاج التابع للإدارة الوطنية للأمن النووي يمثل التحدي الأكبر.

وعلى عكس المرافق العلمية والحسابية التابعة للإدارة الوطنية للأمن النووي فقد تم تجاهل مجمع الإنتاج إلى حد كبير في أعقاب الحرب الباردة، والإدارة الوطنية للأمن النووي تصارع حالياً للإبقاء على المرافق التي عفا عليها الزمن في وضع تستطيع معه أن تؤدي عملها ريثما يصبح استبدالها ممكناً، علماً أن بعض هذه المرافق يعود لمشروع مانهاتن أو الأيام الأولى من الحرب الباردة، كما أن برنامج الإنشاءات الضخم هذا متأخر عن الجدول الزمني المحدد له وقد تجاوزت كلفته الموازنة المخصصة له، وهناك أسباب عدة وراء ذلك، بما في ذلك الافتقار إلى العمال المهرة وصعوبات التصميم وقاعدة صناعية متضائلة، ولكن عموماً لم يُنجز هذا العمل منذ 25 عاماً.

وإذ تتحول الإدارة الوطنية للأمن النووي من تمديد عمر الرؤوس الحربية الموجودة في حوزتها إلى تصنيع رؤوس حربية جديدة، يتعين على المجمع الإنتاجي أن يتعلم من جديد كيفية إنتاج المكونات أو المواد الرئيسة أو إيجاد البدائل والتكيف مع تقنيات التصنيع الحديثة، وتؤدي جولة جديدة من الحدود القصوى المفروضة على الموازنة إلى تقييد أكبر لقدرة المجمع على التحديث.

انجزوا المطلوب

إن المهمة الأساس التي تواجه وزارتي الدفاع والطاقة الآن هي بناء الأنظمة الجديدة، ويتعين على وزير الدفاع المقبل أن يستفيد من دروس وزير الدفاع في عهد ريغان، كاسبر واينبرغر، الذي أسس خلال جهود تحديث الثالوث في تلك الحقبة سلسلة من المراجعات المستمرة للبرامج الثلاثة، وبالنسبة إلى كل برنامج فقد كان يطلب من الوزير المتخصص ورئيس الخدمة أو الإدارة ومدير البرنامج تقديم تقارير إليه كل ثلاثة أشهر عن حال البرنامج والجهود المبذولة لإصلاح أية مشكلات ظاهرة، ولقد أثبتت الوزارات المتخصصة الآن أنها غير جديرة بالثقة، ويجب على وزير الدفاع الجديد أن يؤسس آلية لإجراء مراجعات على طريقة واينبرغر لصواريخ “سنتينل” الباليستية العابرة للقارات وللغواصة من فئة كولومبيا وللقاذفة “بي-21″، وربما لبرامج الصواريخ بعيدة المدى، ويجب على مدير إدارة الأمن النووي الوطني بالاشتراك مع وزير الطاقة اعتماد عملية مماثلة لمراجعة برنامجي الرؤوس الحربية والإنشاءات التابعة للإدارة الوطنية للأمن النووي.

كما يجب على وزير الدفاع أن ينشئ مراجعات مماثلة لمعالجة النقص في الناقلات والتأخير في إنتاج الغواصات من “فئة فيرجينيا” جنباً إلى جنب مع تسريع تطوير صاروخ الضربة الفورية التقليدية والصواريخ المجنحة النووية التي تُطلق من البحر، ولا بد من أن تهدف هذه المراجعات إلى تمكين المنتجين الرئيسين الاثنين للغواصات من زيادة إنتاجهما بأسرع ما يمكن، وتسريع نشر صواريخ الضربة الفورية التقليدية حتى من خلال وسائل غير تقليدية موقتة، مثل القاذفات على شكل صناديق المنصوبة على سطوح السفن الضخمة، وبدء برنامج فوري لشراء ناقلات جديدة وملء الفجوات في المخزون من طريق ناقلات مستأجرة إلى أن يتسنى بناء ما يكفي من الطائرات الجديدة ونشرها، وضمان تطوير الصاروخ المجنح النووي الذي يُطلق من البحر وتسريعه.

إن ثمة احتمالاً لتعرض هذه الجهود إلى مزيد من التأخير، ولذلك يتعين على الإدارة الجديدة توفير التمويل الكافي لضمان أن الأنظمة المنشورة حالياً، مثل شبكة القيادة والسيطرة والاتصالات النووية الأميركية، المعروفة باسم “إن سي 3” NC3 والغواصات من “فئة أوهايو” ستستمر في العمل بعد تاريخ إحالتها إلى التقاعد المقرر حالياً، كما ينبغي على الإدارة المقبلة أن تحرص على تمويل برامج تمديد عمر المخزون الحالي من الرؤوس الحربية بالكامل.

وسيتحتم على الولايات المتحدة أن تبقي الأنظمة القديمة سليمة وآمنة وجديرة بالثقة من أجل مواصلة ردع روسيا والصين، وسيصبح هذا الأمر بالغ الأهمية بعد انتهاء معاهدة ستارت الجديدة في فبراير (شباط) 2026.

وللتحوط ضد إنهاء خدمات منصة قائمة حالياً بصورة باكرة ينبغي على الإدارة الجديدة أن تكون مستعدة لبدء جهد كبير للتأكد من استمرار القدرة على الصمود والمرونة، ويمكنها أن تفعل ذلك بإضافة رؤوس حربية إلى صواريخ “مينوتمان” و”ترايدنت 2″ الحالية، وإعادة أنابيب الصواريخ الباليستية التي تطلقها الغواصات إلى حالها الطبيعية، ومن ثم تحميل صواريخ “ترايدنت-2” فيها.

وكانت هذه الأنابيب الموجودة على الغواصات من “فئة أوهايو” عُطلت بموجب “معاهدة ستارت” الجديدة، كما تستطيع الإدارة شراء محركات صواريخ “ترايدنت-2” إضافية لتوفير مجموعة كافية من أصول الاختبار بعد إعادة تحميل الأنابيب الفارغة وإعادة تحويل قاذفات “بي-52” لتمكينها من القيام بدور نووي بعدما كانت “معاهدة ستارت” الجديدة قد جعلتها غير قادرة على إطلاق سلاح نووي.

وإضافة إلى ذلك ينبغي للإدارة أن تسعى إلى زيادة قوى الردع الإستراتيجية بقدر أكبر مما تسمح بتحقيقه الموازنة الحالية، وبوسعها أن تفعل ذلك من خلال التخطيط لنشر صواريخ “سنتينل” على شكل حمولة من نوع “مركبة إعادة دخول متعددة [الرؤوس] قادرة على الاستهداف بصورة مستقلة” (ميرف) MIRV، مما يسمح لصاروخ واحد [متعدد الرؤوس] بمهاجمة أهداف عدة في وقت واحد، وزيادة العدد المقرر من الأسلحة البعيدة المدى المنشورة التي تُوجه عن بعد، وزيادة العدد المخطط له من قاذفات “بي-21” وناقلات الوقود الجوية التي قد تتطلبها القوة الموسعة، وزيادة الإنتاج المقرر لغواصات من “فئة كولومبيا” وأنظمة صواريخ “ترايدنت” الباليستية الخاصة بها، وتسريع تطوير ونشر صاروخ “دي 5 أل إي 2” D5LE2 البديل.

يتعين على إدارة ترمب أن تتعامل بجدية مع إعادة بناء القاعدة الصناعية الدفاعية

يجب على واشنطن أن تقوم بتقييم جدوى نشر جزء من قوة الصواريخ الباليستية العابرة للقارات في المستقبل في تشكيل متحرك على الطرق، وهو النهج الذي يشمل استعمال قاذفات متحركة يمكن نقلها من مكان وجودها بسرعة، وينبغي لها أيضاً أن تسرع الجهود الرامية إلى تطوير إجراءات مضادة جديدة للرد على الدفاعات الصاروخية المتقدمة لخصوم الولايات المتحدة، والتخطيط لوضع جزء من أسطول القاذفات في المستقبل في حال تأهب مستمر.

وأخيراً يتعين على إدارة ترمب أن تتعامل بجدية مع إعادة بناء القاعدة الصناعية الدفاعية الأميركية، وينبغي لها أن تراجع بسرعة إستراتيجية الدفاع الصناعية لعام 2023 التي وضعتها إدارة بايدن، والإرشادات الموسعة التي قدمتها في أكتوبر 2024، وأن تعمل على تحديث كل منهما وتنقيحها بحسب الضرورة.

وعليها أن تنشر هذه الإرشادات وتعقد على الفور اجتماع قمة لوزير الدفاع والرؤساء التنفيذيين لشركات الدفاع الكبرى (وربما مورديها الأساس من المستويات الفرعية أيضاً) بهدف توسيع القاعدة الصناعية وجعلها أكثر مرونة في أسرع وقت ممكن.

لا شك في أن بعضهم سيدعو الإدارة المقبلة إلى إجراء مراجعة كاملة للعقيدة النووية بهدف معاينة السياسة الحالية وإثبات صحتها، فقد راجعت كل إدارة منذ عام 1952 سياسات الدفاع النووي (وغيرها) التي تبنتها الإدارة السابقة، ولكن هذا لم يتضمن مراجعة كبيرة لنشاطات الوكالات المشتركة وعلاقاتها إلا منذ عام 1994، وقد حدثت هذه المراجعات الشاملة في بعض الأحيان بتفويض قانوني، ولكنها كلها كانت تستغرق وقتاً طويلاً للغاية، وفي المجمل لزمت عاماً أو أكثر لإكمالها.

وبما أن التوجيهات الحالية مع التغييرات الأخيرة التي أجراها بايدن محدثة بالكامل وأكثر من كافية من أجل إرشاد عملية التخطيط المركزية، فلا حاجة لإدارة ترمب إلى إجراء مراجعة شاملة، وينبغي أن تكون المراجعة السريعة على مستوى كبار المسؤولين داخل الإدارة كافية، وهذا لن يؤدي إلى المحافظة على سياسة تعمل بصورة جيدة وحسب، بل سيقود أيضاً إلى تجنب تشتيت التركيز على مستوى كبار المسؤولين ويضع الخطط المحدثة التي تكون هناك حاجة ماسة إليها موضع التنفيذ في وقت أقرب.

ومن المؤكد أن الإدارة الجديدة ستواجه تحديات جديدة كبيرة للردع النووي الأميركي، فيما لا تملك الولايات المتحدة وحلفاؤها ببساطة ترف الانتظار مدة ثلاثة أعوام أخرى لمواجهة هذه التحديات.

 

 مادلين كريدون كانت رئيسة لجنة الموقف الإستراتيجي لعام 2023 ونائبة المدير الرئيس للإدارة الوطنية للأمن النووي بين عامي 2014 و2017.

 فرانكلين ميلر كان عضواً في لجنة الموقف الإستراتيجي لعام 2023 وخدم لثلاثة عقود من الزمن كمسؤول أول في السياسة النووية والحد من التسلح في وزارة الدفاع وهيئة موظفي مجلس الأمن القومي

مترجم عن “فورين أفيرز”، 20 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024

نقلاً عن : اندبندنت عربية