شتاء العدم… تأثير “النووي” في الصحة والبيئة والمناخ

الجدل حول استخدام الأسلحة النووية قائم منذ زمن طويل، وعلى رغم مشاهدة آثارها في هيروشيما وناغازاكي فإن بعض بلدان العالم لا تزال تحاول حماية حقها في الاحتفاظ بالأسلحة النووية واستخدامها عند الضرورة، وهو ما نشاهده بالفعل حالياً مع تهديد روسيا باستخدام هذه الأسلحة في أوكرانيا متى اقتضت الحاجة.

وأجرى العلماء عبر العقود السابقة قدراً كبيراً من البحوث لتسليط الضوء على التأثيرات الكارثية للأسلحة النووية في البشر والحيوانات والنباتات والتربة وما إلى ذلك، ووجدوا أن التأثيرات المعروفة للأسلحة النووية تشمل التسبب في الموت والصدمات الحادة والإشعاع الحراري والعواصف النارية والتساقط الإشعاعي في الأراضي المجاورة والمرض الإشعاعي، إلى جانب السرطان والأمراض الوراثية.

كل ذلك يدق ناقوس الخطر من العواقب الإنسانية والبيئية الكارثية للأسلحة النووية، إذا ما قررت أية دولة اليوم استخدامها في أرض المعركة لقلب المعادلات العسكرية.

الآثار القصيرة المدى

يمكن لسلاح نووي واحد أن يدمر مدينة ويقتل معظم سكانها، كما أن انفجارات نووية عدة فوق المدن الحديثة من شأنها أن تقتل عشرات الملايين من البشر، ناهيك بأن الخسائر الناجمة عن حرب نووية كبرى بين الولايات المتحدة وروسيا قد يصل ضحاياها إلى مئات الملايين.

 

يستغرق الأمر نحو 10 ثوان حتى تصل الكرة النارية الناتجة من الانفجار النووي إلى أقصى حجم لها، ويطلق الانفجار النووي كميات هائلة من الطاقة في صورة انفجار وحرارة وإشعاع وتصل موجة الصدمة الهائلة إلى سرعات تبلغ مئات الكيلومترات في الساعة.

ويقتل الانفجار أي شخص يوجد بالقرب من نقطة الصفر، فالإشعاع الحراري شديد لدرجة أن كل شيء تقريباً بقرب دائرة نصف قطرها كيلومتر واحد يتبخر، ويسبب الانفجار النووي أيضاً إصابات في الرئة وتلفاً في الأذنين ونزفاً داخلياً شديداً وإصابات من انهيار المباني في دائرة نصف قطرها سبعة كيلومترات. 

تأثيرات بعيدة المدى

بعد فترة من انحسار التأثيرات الحادة للإشعاع، يستمر الضرر الإشعاعي في إحداث مجموعة واسعة من المشكلات الجسدية، وتظهر هذه التأثيرات عبر أنواع عدة من السرطانات وعدد من المشكلات الأخرى قد تكتشف بعد عامين أو ثلاثة أو حتى 10 أعوام.

ووفقاً للبيانات اليابانية من الحرب العالمية الثانية، كان هناك زيادة في فقر الدم بين الأشخاص الذين تعرضوا للقنبلة النووية، وفي بعض الحالات استمر انخفاض خلايا الدم البيضاء والحمراء لمدة تصل إلى 10 سنوات بعد القصف النووي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفوق هذا وذاك كانت هناك زيادة في معدل إعتام عدسة العين بين الناجين الذين كانوا محميين جزئياً في هيروشيما وناغازاكي، ممن عانوا أيضاً تساقط الشعر الجزئي.

إلى ذلك اعتبر معدل الإصابة بالسرطان بين الناجين من هيروشيما وناغازاكي أكبر بصورة ملحوظة من معدل الإصابة بين عامة السكان، وتم الإبلاغ عن وجود علاقة كبيرة بين مستوى التعرض للإشعاع المؤين ودرجة الإصابة بسرطان الغدة الدرقية وسرطان الثدي والرئة والغدة اللعابية.  

وبدءاً من أوائل عام 1946 بدأت الأنسجة الندبية التي تغطي الحروق الملتئمة بين المصابين في اليابان بالانتفاخ والنمو بصورة غير طبيعية، وعثر على أكوام من اللحم المرتفع والملتوي، التي تسمى الجدرة في 50 إلى 60 في المئة من أولئك الذين أصيبوا بالحروق بسبب التعرض المباشر لأشعة الحرارة في نطاق 1.8 كيلومتر من مركز الانفجار.

التساقط الإشعاعي

التساقط الإشعاعي هو الجسيمات المشعة التي تسقط على الأرض نتيجة لانفجار نووي، ويتألف من حطام الأسلحة ومنتجات الانشطار والتربة المشعة. ويسقط جزء كبير من هذه الجسيمات مباشرة إلى نقطة الصفر في غضون دقائق عدة بعد الانفجار، ولكن بعضها يسافر عالياً في الغلاف الجوي. ويعرف التساقط الإشعاعي بأنه يتكون من نوعين هما التساقط الإشعاعي المبكر في غضون أول 24 ساعة بعد الانفجار، أو التساقط الإشعاعي المتأخر الذي يحدث بعد أيام أو سنوات.

تتحلل معظم هذه الجسيمات بسرعة، ومع ذلك ستكون هناك مناطق لا يستطيع الناجون دخولها بسبب التلوث الإشعاعي من النظائر المشعة طويلة العمر مثل “السترونشيوم 90” أو “السيزيوم 137″، وبالنسبة إلى الناجين من الحرب النووية يمكن أن يمثل هذا الخطر الإشعاعي المستمر تهديداً خطراً لمدة تراوح بين سنة وخمس سنوات بعد الهجوم.

 

ويعتمد التساقط الإشعاعي الناتج من انفجار نووي إلى حد كبير على نوع السلاح وعائده الانفجاري ومكان انفجاره، فالقنبلة النيوترونية على رغم أنها تنتج إشعاعات مباشرة مكثفة فإنها في المقام الأول جهاز اندماج ولا تولد سوى تساقط طفيف من محفز انشطارها، أما الأسلحة الانشطارية الصغيرة مثل تلك المستخدمة في هيروشيما وناغازاكي فتنتج تساقطاً إشعاعياً محلياً كبيراً.

ويأتي التأثير العالمي لهذه الأسلحة الضخمة جزئياً من الكمية الهائلة من المواد المشعة وجزئياً من حقيقة أن السحابة المشعة ترتفع إلى طبقة الـ”ستراتوسفير”، إذ قد يستغرق الأمر أشهراً أو حتى سنوات للوصول إلى الأرض. وعلى رغم أننا لم نشهد أية حرب نووية منذ قصف هيروشيما وناغازاكي، فإن التساقط الإشعاعي هو أحد تأثيرات الأسلحة التي لدينا خبرة بها، إذ أسفرت التجارب النووية في الغلاف الجوي قبل معاهدة الحظر الجزئي للتجارب عام 1963 عن مستويات يمكن اكتشافها من منتجات الانشطار المشعة في جميع أنحاء العالم، ولا يزال بعض هذا الإشعاع معنا حتى تاريخه.

التأثيرات المناخية

وفي ما يتعلق بتبعات استخدام السلاح النووي على المناخ فيجزم العلماء بأن الحرب النووية ستنتج كميات هائلة من المواد الكيمياوية المستهلكة للأوزون، ويضيفون أن حتى التبادل النووي المتواضع من شأنه أن يؤدي إلى زيادة غير مسبوقة في التعرض للأشعة فوق البنفسجية، وقد تتضرر الحياة البحرية بسبب زيادة هذه الأشعة، وقد يتعرض البشر لحروق الشمس الشديدة. كما أن مزيداً من الأشعة فوق البنفسجية من شأنه أن يؤدي إلى زيادة حالات سرطان الجلد المميت وإضعاف الجهاز المناعي البشري.

وصدمت دراسة أجراها العالمان ريتشارد توركو وكارل ساغان العالم عام 1983 عندما خلصا إلى فرضية أنه حتى عند حدوث تبادل نووي متواضع بما لا يزيد على 100 رأس حربي نووي، فهذا قد يؤدي إلى تبريد عالمي حاد، إذ ستحجب جسيمات الكربون الناتجة من الاحتراق غير الكامل للهيدروكربونات المحمولة جواً أشعة الشمس القادمة، وفي أكثر أشكالها تطرفاً أثارت فرضية الشتاء النووي هذه احتمال انقراض النوع البشري.

 

وتظهر الدراسات الحديثة التي أجريت باستخدام نماذج المناخ المتطورة أن حرباً نووية شاملة بين الولايات المتحدة وروسيا، حتى مع تقليص ترسانات الأسلحة النووية اليوم، قد تؤدي إلى ضخ أكثر من 150 مليون طن من الدخان وجسيمات الكربون إلى الغلاف الجوي العلوي، والنتيجة ستكون انخفاضاً في درجة الحرارة العالمية بنحو ثماني درجات مئوية لن ترتفع إلا بمقدار أربع درجات مئوية حتى بعد عقد من الزمن. وفي المناطق الزراعية التي تشكل “سلة الخبز” في العالم، قد تظل درجة الحرارة أقل من درجة التجمد لمدة عام أو أكثر، وسينخفض معدل هطول الأمطار بنسبة 90 في المئة مخلفاً تأثيرات مدمرة في إمدادات الغذاء في العالم.

وتشير الدراسات المذكورة أعلاه أيضاً إلى أن تبادلاً نووياً بين الهند وباكستان يتضمن 100 رأس نووي بحجم قنبلة هيروشيما من شأنه أن يؤدي إلى تقصير مواسم الزراعة وتهديد الأمطار الموسمية السنوية، مما يضع إمدادات الغذاء لمليار إنسان في خطر داهم.

تدمير البيئة

يؤدي اختبار الأسلحة النووية والتعامل معها إلى تدمير البيئة، فمثلاً أجري في إقليم بولينيزيا الفرنسية جنوب المحيط الهادئ نحو 200 تجربة نووية تحت الأرض بين عامي 1966 و1996، وأدت هذه الاختبارات إلى تساقط النفايات النووية في المناطق المحيطة، مما تسبب في حدوث انهيارات أرضية وتسرب إشعاعي إلى المحيط، ولا تزال تربة تلك المنطقة ملوثة حتى بعد مرور ما يقارب من 50 عاماً من التجارب.

وفي عامي 1948 و1958 ألقت الولايات المتحدة 43 قنبلة نووية على جزيرة “إينويتاك أتول” بعد إجلاء الناس من منازلهم، وإثر ذلك أصدرت الحكومة الأميركية تقريراً تحدث عن استعانتها بـ4 آلاف جندي عملوا لثلاث سنوات متواصلة لجمع الحطام الملوث عبر الجزيرة المرجانية. وهذا مجرد مثال واحد من بين عدد من الأمثلة التي يمكننا ذكرها بما في ذلك أستراليا وماياك وروسيا والمملكة المتحدة ومنطقة شبه جزيرة كازاخستان، إذ تسببت النفايات الناتجة من التجارب النووية في تلوث المياه والنباتات، وأدت إلى انخفاض الإنتاج الزراعي وإلحاق الضرر بالحياة البحرية.

ولا تقتصر آثار الأسلحة النووية في التلوث فحسب، فمن المعروف أن حساسية جميع الثدييات للإشعاع متماثلة تقريباً، وفي منطقة يقتل فيها البشر بسبب الإشعاع النووي من المتوقع أن يقع القدر نفسه من الفتك بالحيوانات. أما بالنسبة إلى النباتات فإن الإشعاع النووي قد يتسبب في إزالة الغابات، وحادثة “تشيرنوبيل” خير مثال على ذلك، إذ تدمرت غابات الصنوبر المحيطة بالمنطقة، كون هذا النوع من الأشجار شديد الحساسية تجاه الإشعاعات.

وتصبح الحيوانات والنباتات التي تتعرض لتأثير الإشعاع وتموت نتيجة لذلك جزءاً من التربة كسماد، من ثم يؤثر تلوثها الإشعاعي في التربة والمحاصيل المزروعة مما يؤدي إلى التسمم الغذائي، وحدث هذا الأمر في كازاخستان، إذ تسبب التعرض للنفايات النووية في تلوث النباتات.

نقلاً عن : اندبندنت عربية