لعل من أغرب الأمور في ما يتعلق بنظرة هواة الفن التشكيلي، ومن بينهم بصورة خاصة محبو فن الهولندي فينسنت فان غوخ الذي أقام آخر مراحل حياته داخل فرنسا ومات فيها، أنهم غالباً ما يخيل إليهم أنهم يعرفون كل شيء عن حياته، وأن لديهم من المصادر والمراجع ما يجعلهم على يقين من أنهم أمام مراجع متنوعة وموثوقة يبنون من خلالها أحكامهم ويدلون بتعليقاتهم على ذلك الفن، وأنهم نادراً ما كانوا في حاجة إلى مزيد. غير أن دهشتهم تبدو كبيرة في نهاية الأمر حين يتبين لهم أنهم يركزون معرفتهم حول ذلك الفنان الكبير على أعوامه الأخيرة التي عاشها في فرنسا، وهي 10 أعوام رحل عند نهايتها بعدما شهدت إنتاجه القسم الأكبر من لوحاته الرائعة، علماً أن معظم ما يعرفونه حتى عن تلك الأعوام إنما وصل إليهم من طريق مرجع أساس واحد هو مراسلاته التي كادت تكون يومية مع أخيه ثيو الذي جمعته معه علاقة أخوية مدهشة وحتى علاقة مهنية، إذ كان ثيو مستشاره ومروج لوحاته وصديقه الأول والأخير. والحقيقة أن كثراً من الناس دُهشوا دهشة كبيرة حين انكشفت لهم هاتان الحقيقتان ولو خلال زمن متأخر.
بعيداً من الحقيقة
والحال هو ومهما كان في الإمكان الاتكال على الرسائل المتبادلة بين الأخوين وما فيها من تتابع في التفاصيل لحياة وتطلعات كل منهما، ليس ثمة أدنى شك في أنها لا تبدو في نهاية الأمر كافية لا لتعريف قرائها بمجريات حياتيهما وتفاصيل حياة كل منهما على حدة ما يقترح علينا، حتى بالنسبة إلى العقد الأخير من حياة الرسام الذي يمكن اعتباره الأشهر والأكثر إنتاجاً بين رسامي زمنه، تبدو الثغرات كبيرة والحقيقة القاطعة مليئة بالنواقص والهنات، علماً أن من جمع الرسائل ونشرها في كتب، سواء كان ثيو نفسه أو فرد آخر من أفراد العائلة، حرص على تنقيتها من “الشوائب” حفاظاً على سمعة العائلة. ومن هنا السؤال عما إذا كنا في نهاية الأمر سنعرف يوماً ما يجب أن نعرفه حقاً عن حياة رسام نهايات القرن الـ19 المفضل لدى معظم هواة الفن وجامعيه. ونعرف على أية حال في المقابل أننا نعرف وربما أكثر مما ينبغي عن فنه الرائع، وبخاصة كما تجلى خلال عشريته الأخيرة التي تبدو بالتأكيد عشرية فرنسية وذات خصوصية تجعل من الصعوبة بمكان اعتباره فناناً هولندياً، حتى وإن كان من الصعب خلال الوقت نفسه فصل بداياته عن جذوره الهولندية. من ثم لا شك في أن تلك الجذور هي ما يتعين البحث عنها وربما تحديداً من خلال حياة فناننا الغريب الأطوار هذا تماماً كما نفعل حين نستنطق حياته في فرنسا لتحديد علاقة تلك الحياة بالفن الذي أنتجه في وطنه بالتبني هذا.
في خط الواقعية البؤسوية
من هنا إذاً سنحاول في هذا العجالة أن نقترب إلى حد ما مما يمكن تحريه حول الأعوام الأكثر غموضاً في حياة فان غوخ والتي سبقت العشرية الأخيرة، التي باتت ومنذ أعوام طويلة معروفة إلى درجة لا يحتاج الأمر معها إلى أن يعود المرء إليها في كل مرة أراد فيها أن يتذكر صورة الفنان. وكالعادة لا بد من التعريف ببدايته هنا. هو ابن لرجل دين بروتستانتي ولد عام 1853 في بلدة “غروت تسوندر” الهولندية ليموت بعد ذلك انتحاراً خلال عام 1860 داخل بلدة أوفر سور واز الفرنسية، وهو ما أن ختم دراساته عام 1869 حتى التحق كموظف في فروع متنوعة لغاليريهات تاجر اللوحات غوبيل متنقلاً بين لاهاي ولندن وباريس عبر حياة غير مستقرة، تعرف خلالها على مهنة الفن كما على البلدان. وهو بعد أن صرف من العمل لأسباب لم تتضح قط عاد إلى هولندا محاولاً أن يجد لنفسه عملاً في تلك المهنة التي بات ضليعاً فيها، لكنه إذ لم يجد عملاً يناسبه قرر أن يلتحق بمدرسة للدعاية الدينية وعُين داعية في بروكسل. وبعد أعوام من عمل مضن، سيصفه لاحقاً بأنه كان غير مجد على الإطلاق، سنجده يتوجه إلى مناطق المناجم في بوريناج حيث سيعيش حياة بؤس لا شك في أننا سنجدها منعكسة في بداياته الفنية. من هنا لن يكون فان غوخ نادماً حين ترك ذلك كله منتقلاً إلى حياة متشردة لا يستقر خلالها أيما استقرار حتى بلغ الـ30 من عمره، إذ قرر في نهاية الأمر أن يخوض الرسم كمهنة ومبرر وجود له.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تنويعات في عالم الفن
في بداية تلك المرحلة الجديدة من حياته انهمك فنسان فان غوخ في رسم لوحات مائية وأكواريل وتحقيق عديد من التخطيطات وشرع في رسم بورتريهات ذاتية، لا ريب في أن أكثر ما لفت إليها كان الحزن الذي يطبع نظرته حتى من قبل أن يصبح الحزن جزءاً من حياته ويومياته. ولنذكر هنا أن شدة إحساسه بالفشل في كل ما يقوم به راحت تملأه رعباً، إلى درجة أنه قرر العودة ليقيم لدى أهله نهاية عام 1883. وحتى وإن كانت تلك الحقبة شهدت بداية نجاح نسبي سيتصاعد عاماً بعد عام لكنه لم يمكنه من أن يكون راضياً عما يحققه، وبالتحديد يحققه بسرعة عجيبة وبتميز لوني، وبخاصة في لوحات ريفية كان بدأ يحذو فيها حذو الفرنسي مييه وذلك بعد فترة تأسيسية في هذا السياق، راح يرسم خلالها أهالي المناطق المحيطة بمكان سُكنى أهله في بلدة نيوين. غير أنه سرعان ما سيسأم تلك المناظر التي بات يحسها روتينية وبات يضجره إصراره على تصوير البؤس والألوان العتمة، وهو الذي بدأت تغريه روعة الطبيعة الفرنسية التي استثارته وراح يبحث فيها عن ملاذ لنفسه المكتئبة.
وهكذا رأيناه يهجر عالم آكلي البطاطا وباحات السجون لينطلق إلى ما بدا أول الأمر عوالم زاهية لا تبتعد كثيراً من أجواء الانطباعيين من دون أن يعدوه واحداً منهم، هم الذين كانوا في ذلك الحين سادة المعارض وعوالم الفن الأكثر حداثة. وهو بدأ علاقته الفعلية بهم من طريق بول غوخان الذي سيكون صديقه ثم خصمه اللدود مرات ومرات. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن تلك العلاقة المتأرجحة مع غوخان طبعت بداية نهايته واستقراره، متنقلاً داخل الجنوب الفرنسي كما في المناطق الأكثر قرباً من باريس، ناهيك بتأرجحه بين الكآبة المطلقة والجنون الخلاق تبعاً لبقية الحكاية التي نعرفها منذ زمن، والتي ما كان ينقصها سوى حكاية البدايات حتى تكتمل الدورة ونقترب أكثر، كما فعلنا هنا، من الصورة الأقل غموضاً لحياة هذا الفنان الذي يبدو لنا في نهاية الأمر الأكثر جنوناً وفرادة وغموضاً من بين كل مجايليه في الفنانين.
وكان لفان غوخ اهتمام خاص بالأدب، إذ تأثر بكتاب مثل تشارلز ديكنز وإميل زولا مما انعكس في رسمه للمشاهد اليومية والبشر العاديين بنظرة إنسانية. كذلك كان يجيد التحدث بأربع لغات (الهولندية والفرنسية والإنجليزية والألمانية) مما ساعده في التواصل مع ثقافات متعددة أثرت في أسلوبه الفني. ومن يذكر أن فان غوخ لم يبع سوى لوحة واحدة خلال حياته هي “الكرم الأحمر” على رغم إنتاجه الفني الغزير. وهذا التناقض بين موهبته العظيمة وتقدير العالم له خلال حياته يزيد من عمق الحكاية المأسوية لهذا الفنان الذي أصبح رمزاً للعبقرية والجنون في آن واحد.
نقلاً عن : اندبندنت عربية