هل يستطيع ماسك شراء الإعلام الليبرالي في أميركا؟

قبل أن يتمكن إيلون ماسك من شراء “تويتر”، تساءل عبر تغريدة له عن سعر الشركة كنوع من المزاح، وبعد فترة وجيزة استحوذ على وسيلة التواصل الاجتماعي المفضلة للسياسيين والمثقفين والمشاهير ورجال الأعمال. ماسك كرر قبل أيام سؤاله عن سعر قناة “أم أس أن بي سي” الليبرالية ذات الميول اليسارية رداً على تغريدة من دونالد ترمب جونيور، نجل الرئيس الأميركي المنتخب، مما أثار مخاوف من أن يتمكن أغنى رجل في العالم، الذي يتمتع بنفوذ كبير في إدارة ترمب الجديدة من السيطرة على بعض وسائل الإعلام الليبرالية الأكثر انتقاداً للمحافظين، خصوصاً وأنه تعهد أيضاً بالحد من موازانة وسائل الإعلام العامة التي تتهم بميولها اليسارية، فهل سينجح في معركته أم سيواجه مصاعب تخفق محاولته؟

هجوم متواصل

حينما بدأ حديث إيلون ماسك على منصة “إكس” (تويتر سابقاً) عن فكرة شراء القناة الإخبارية شديدة الانتقاد للمحافظين والجمهوريين، اعتقد بعض منهم أن الحليف الرئيس لدونالد ترمب يمزح فقط مع نجل الرئيس المنتخب، لكن منشورات ماسك المتكررة على مدى أيام التي وصف فيها قناة “أم أس أن بي سي” بأنها “حثالة الأرض التي تروج للدعاية الصبيانية”، وأنها في طريقها إلى الانهيار، ثم حرصه على نشر صور ساخرة حول شراء القناة، زاد من القلق الذي يشعر به موظفو القناة التي من المقرر أن تنفصل مع ست قنوات أخرى من بينها “سي أن بي سي” عن الشركة الأم “كومكاست”، وتنتقل إلى شركة كابل جديدة تدعى “سبينكو” بهدف تعزيز سعر أسهمها وربحيتها بحسب ما أعلن مسبقاً.

وتدخل مذيع البودكاست اليميني ذائع الصيت جو روغان، ليعرض ساخراً على ماسك الحصول على وظيفة مذيعة قناة “أم أس أن بي سي” الرئيسة راشيل مادو، قائلاً إنه سيرتدي الزي والنظارات نفسها التي ترتديها، ويقول الأكاذيب نفسها، ثم علق دونالد ترمب جونيور بأن “عدد الأشخاص الذين يريدون حدوث هذا الأمر لا يصدق”.

وفي مناسبة أخرى زعم روغان أن وسائل الإعلام الليبرالية تخسر القراء بسبب عدم ثقة الأميركيين بها، مستشهداً بمقالة رأي نشرها مؤسس شركة أمازون مالك صحيفة “واشنطن بوست” جيف بيزوس، يعترف فيها بفقدان صدقية الإعلام الليبرالي.

استحواذ محتمل

وعلى رغم أن عملية الانتقال المقررة ربما تستغرق نحو عام أو عامين، وعدم إعلان نية “كومكاست” بيع هذه المجموعة من القنوات منذ البداية، إلا أن المفاجآت واردة، وقد تحدث تدخلات أو عروض مغرية تدفع الشركة الأم لتغيير نهجها، وهو ما يزيد من الغموض الذي يكتنف هذه العملية على المدى البعيد.

وإذا طرح ماسك سعراً لشراء “أم أس أن بي سي” أو مجموعتها الجديدة، فمن المحتمل ألا يكون سعرها قريباً من سعر “تويتر”، إذ ستبلغ الإيرادات السنوية لشركة الكابل الجديدة “سبينكو” عبر جميع شبكاتها نحو 7 مليارات دولار، بخاصة وأن تقييمات “أم أس أن بي سي”، بعد فوز ترمب، تراجعت في الفترة من السادس إلى الـ21 من نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري، إذ بلغ متوسط ​​​​عدد مشاهديها اليومي 527 ألف شخص، بانخفاض بنسبة 38 في المئة عن 847 ألف مشاهد التي حصدتها من يناير (كانون الثاني) الماضي إلى الرابع من نوفمبر، وهو اليوم السابق للانتخابات.

السيطرة على وسائل الإعلام

وبينما تبادل ماسك وأصدقاؤه السخرية من قناة “أم أس أن بي سي”، تصاعدت مخاوف الليبراليين مما سموه التيار الخفي الذي يسعى إلى الاستحواذ على وسائل الإعلام، مثلما حدث في المجر عندما اشترى حلفاء رئيس الوزراء اليميني فيكتور أوربان وسائل إعلام تلفزيونية وإذاعية خاصة لتحويلها إلى وسائل مؤيدة للحكومة.
وبحسب المدير التنفيذي لمؤسسة حماية الديمقراطية إيان باسين، فإن الاستحواذ على وسائل الإعلام يعد بمثابة استحواذ استبدادي، لأن الحكومة تستخدم سلطتها لفرض الولاء من القطاع الخاص، محذراً في حديث لمجلة “فانيتي فير”، من خطر رؤية ذلك يحدث في السوق الأميركية في جميع أنواع القطاعات.

كما كتب العضو السابق في البرلمان المجري جابور شيرينغ، في مقالة نشرها موقع “بوليتيكو” أن أوربان عزز السيطرة على وسائل الإعلام من خلال الدعاية المركزية وضغوط السوق والمليارديرات المخلصين، مشيراً إلى أنه لا ينبغي للمليارديرات ذوي العقلية الليبرالية في الولايات المتحدة، أن يجلسوا مكتوفي الأيدي كما فعلوا في المجر، ويشاهدون اليمين يستولي على وسائل الإعلام.

ومع ذلك لم يهتم الملياردير ورائد الأعمال مارك كيوبان، الذي أعلن دعمه لنائبة الرئيس كامالا هاريس قبيل الانتخابات الرئاسية بشراء قناة “أم أس أن بي سي”، مشيراً إلى أن الناس يشعرون أن تلك القناة لا تفعل ما يكفي لمنافسة قناة “فوكس” اليمينية، لكن ذلك لا يعني أن مليارديرات آخرين ذوي ميول ليبرالية سيمتنعون عن منافسة ماسك إذا قرر طرح شراء وسائل الإعلام الليبرالية.

خطة ماسك

وبصرف النظر عما إذا كان ماسك يعتزم حقاً شراء وسائل الإعلام الليبرالية الخاصة أم لا، فإن لديه خطة أكثر وضوحاً كشف عنها في مقالة مشتركة مع رائد الأعمال فيفيك راماسوامي، نشرتها صحيفة “وول ستريت جورنال”، إذ حدد في الفقرة العاشرة المعنية بخفض التكاليف الحكومية، ضمن جهود هيئة الكفاءة الحكومية الجديدة، سطراً يتعلق بمستقبل وسائل الإعلام العامة من خلال استهداف 535 مليون دولار خصصها الكونغرس بصورة سنوية لمؤسسة البث العام، وهي الكيان الذي يخصص الأموال الفيدرالية لوسائل الإعلام العامة في جميع أنحاء البلاد. 

وفي حين كان إلغاء التمويل الفيدرالي لوسائل الإعلام العامة حلماً للجمهوريين منذ عهد الرئيس السابق ريتشارد نيكسون، إلا أنه ظل حلماً صعب المنال، إذ صمدت وسائل الإعلام العامة في وجه تحدي الجمهوريين في مجلس النواب حتى خلال إدارة بايدن، إذ صوت الجمهوريون لإلغاء التمويل لمؤسسة البث العام لعام 2026.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مصير الإعلام العام

ومع ذلك قد تكون هذه المرة مختلفة، إذ ينتظر أن تحقق جهود ماسك وراماسوامي نهاية التمويل الفيدرالي الأميركي للبث العام، التي كانت جزءاً من أجندة ترمب السياسية الشاملة التي تحدث عنها أيضاً مشروع 2025 لمؤسسة “هيريتيج” المحافظة التي تتهم وسائل الإعلام العامة بالتحيز والعمل ضد المبادئ المحافظة عبر تشجيع المبادئ الديمقراطية الخاصة ببرامج التنوع والشمول والمساواة وما يسمى بسياسة “الاستيقاظ” التي تشمل التركيز على قضايا العرق والهوية.

وفي حين أن وسائل الإعلام الإخبارية في الولايات المتحدة تعد مشاريع خاصة مدفوعة بالكامل تقريباً بالسوق، تشكل وسائل الإعلام العامة شريحة ضئيلة من المنافذ ضمن المشهد الإعلامي الإجمالي، ففي كل عام لا تخصص الحكومة الفيدرالية سوى ما يعادل 1.60 دولار لكل مواطن، وهو مبلغ زهيد لا يتجاوز 445 مليون دولار سنوياً، في حين أن الدول الغربية الأخرى مثل المملكة المتحدة تخصص نحو 104 دولارات للفرد الواحد.

لكن أستاذ الإعلام في جامعة سان دييغو نيك آشر يتوقع أن تمر وسائل الإعلام العامة بوقت عصيب في ظل الرئاسة الثانية لترمب، إذ ستقلل إدارته من الإنفاق الحكومي وتخصخص وسائل الإعلام الإخبارية بالكامل، على رغم أنها وجدت دعماً من مختلف الأحزاب في الأوقات السابقة.

ومع ذلك ربما تواجه خطة ماسك – راماسوامي في التخلص من محطات الإعلام العامة بعض العراقيل، إذ غالباً ما تكون هذه المحطات هي المصدر الوحيد للأخبار المحلية لعدد من الناس في المناطق الريفية، التي هي جمهورية في المقام الأول. وفي حالة خفض التمويل العام، تشير بعض التقديرات إلى أن أكثر من 46.1 مليون شخص سيفقدون الوصول إلى هذا المصدر الوحيد لمحتوى الوسائط المحلية.

لكن الجمهوريين الذين دعموا وسائل الإعلام العامة ربما لا يتأثرون كثيراً بالحجة القائلة إن وسائل الإعلام العامة غالباً ما تكون المصدر الوحيد للأخبار المحلية في عدد من المجتمعات الريفية، وخصوصاً في ضوء الانخفاض الحاد في الثقة في وسائل الإعلام بين الجمهوريين، فوفقاً لاستطلاع رأي من معهد “غالوب” في أكتوبر (تشرين الأول) 2024، قال 12 في المئة فقط من الجمهوريين إن لديهم قدراً كبيراً أو عادلاً من الثقة في وسائل الإعلام.

مواجهة الانحياز

بعد انتخاب دونالد ترمب وهزيمة كامالا هاريس، سعت بعض وسائل الإعلام إلى نوع من التوازن في تغطيتها للأحداث، إذ لوحظ حرص شبكة “سي أن أن” على استضافة مزيد من المحافظين والجمهوريين للتعبير عن وجهة نظرهم، كما سعى مالك صحيفة “لوس أنجلوس تايمز” إلى تحقيق التوازن في مقالات الرأي في صحيفته، في حين استمرت صحف مثل “واشنطن بوست” و”نيويورك تايمز” في مهاجمة ترمب، وانتقاد كل تحركاته واختياراته الوزارية، اعتقاداً بأنهما مدينتان للتاريخ بالالتزام بالخط الليبرالي، بينما ترفضان رؤية التغيير الجذري الذي شهدته الولايات المتحدة بفوز ترمب الذي كان له تأثير في نسيج الأمة.

ولعل ما يدفع المحافظين والجمهوريين إلى اتخاذ خطوات لمواجهة ما يعتبرونه تحيزاً ضد الحركة المحافظة هو تزايد الشعور بهيمنة وسائل الإعلام ذات الميول اليسارية، وأن وسائل الإعلام اليمينية لا تحظى بالمتابعات والزيارات نفسها، وبخاصة على المواقع الإخبارية على شبكة الإنترنت.

أسباب التحيز

وبحسب مؤسسة “أوول سايدز” هناك عدد من التفسيرات المحتملة لذلك، منها أن عدداً من وسائل الإعلامية اليسارية تحقق نجاحاً لأنها منظمات أكبر وأقدم وأفضل تمويلاً وتنشر قصصاً أصلية أكثر من المنافذ الإعلامية الأخرى، كما أن الناس يريدون ببساطة قراءة الأخبار اليومية أكثر من رغبتهم في قراءة الآراء حول أحدث القضايا السياسية، إذ تميل المنافذ الإعلامية اليمينية إلى الاعتماد بصورة أكبر على التعليقات، بينما تميل المنافذ الإعلامية اليسارية إلى الأخبار المعمقة والتحليلات.

وعلاوة على ذلك فإن هيمنة وسائل الإعلامية اليسارية تأتي جزئياً من نقص الوسائل الإعلامية اليمينية، وبينما ترى مصادر الأخبار الرئيسة الأمور من منظور أكثر ليبرالية، فإن المصادر التي تروج لوجهات نظر محافظة غالباً ما تفعل ذلك عمداً، مما يسمح لتحيزاتها بأن تصبح أكثر وضوحاً، ومع ذلك فإن المحتوى اليميني أكثر انتشاراً في قوائم أفضل البرامج الإذاعية والتلفزيونية في الولايات المتحدة مقارنة بالمحتوى اليساري.  

ومن بين التفسيرات المحتملة لعدم التوازن بين اليسار واليمين هو أن الصحافيين أنفسهم يميلون إلى تبني معتقدات أكثر ليبرالية، إذ وجد استطلاع للرأي أجري عام 2014 أن سبعة في المئة فقط من الصحافيين حددوا هويتهم على أنهم جمهوريون، مقارنة بـ28 في المئة حددوا هويتهم على أنهم ديمقراطيون و50 في المئة حددوا هويتهم على أنهم مستقلون.

وهذه ليست الطريقة الوحيدة التي يختلف بها الصحافيون عن المجموعات الأخرى، فهم أكثر عرضة من عامة الناس للاعتقاد بأن بعض الأطراف تستحق تغطية أقل، إذ أشار استطلاع للرأي أجراه مركز “بيو” للأبحاث عام 2022 أن 55 في المئة من الصحافيين يوافقون على أن كل جانب لا يستحق دائماً تغطية متساوية، بينما قال 22 في المئة فقط من الأشخاص البالغين في الولايات المتحدة الشيء نفسه.


نقلاً عن : اندبندنت عربية