افتتح مهرجان حلب برنامج عروضه بمسرحية “عويل الزمن المهزوم” عن نص لإسماعيل خلف وإخراج غنوة حيدري، ويروي العرض علاقة طريفة بين شاعر ورسام يستعيدان مراحل حياتهما من الطفولة والشباب فأيام الدراسة الجامعية، ووصولاً إلى مرحلة الكهولة وانقضاء العمر وضياع الحلم. لعبة تبادل أدوار لافتة تدور أحداثها بين الوهم والواقع، ومن خلال إطار عبثي حاولت مخرجة العرض من خلاله توظيف مسرح خيال الظل لتجسيد محطات عدة من حياة بطليها، في حين استعاضت عن الديكورات الضخمة بكوادر لصور معلقة في عمق الخشبة.
وتناوب كل من الممثلين محمد سباغ وسلام إبراهيم وعبدو حمال، جنباً إلى جنب مع ريما سواس وهيفا حيدر على أداء شخصيات عدة في وقت واحد. هذا الأداء الجماعي جاء في قالب فني اقترب من أسلوب مسرح اللامعقول، وبنى فرضيته الأساسية على الهرب من المباشرة الفنية إلى تقديم محاكاة ساخرة لواقع تجاوز المخيلة، وكيف يمسي عمر الإنسان لا قيمة له أمام همجية الحروب ودمويتها.
المرأة حضرت في المهرجان من خلال عروض عدة، وكان أبرزها عرض “انتقام امرأة” عن نص للكاتب اليوناني أنجلوس تيرزاكيس وإخراج فادي السعيد. يروي “انتقام امرأة” قصة ثأر نسائية من زوج (جهاد خربوطلي) تعود طليقته (رونا حيدر) لتدمر حياته، وذلك بعد أن تكتشف أن شريك حياتها السابق اقترن بامرأة أخرى، فتسعى هذه إلى بث الغيرة والشك في قلبه اتجاه غريمتها، وما هي سوى أيام حتى تقضي زوجة الرجل (منى كريمستي) انتحاراً بفعل مكر الطليقة ودهائها، فيما يقع ابن الضحية (ملهم الهلال) فريسة في حب زوجة الأب القديمة وألاعيبها، فالشاب كان يلقى عسفاً من أبيه ذي الطبيعة الجلفة القاسية، ورأى في طليقة أبيه ملاذاً لحنان لطالما افتقده. تتشابك الأحداث بعدها، وتصل إلى ذروتها عبر مواجهات صادمة تكشف عن الأقنعة. الجميع أمام فداحة الخسائر المتتالية يشعر بالخذلان والخزي، فينقلب الابن ضد أبيه، وتتهالك الزوجة القديمة أمام كراهيتها للزوج ورغبتها في الاستحواذ عليه في آن معاً، فيما يصل الزوج إلى حال من الهذيان والاضطراب العقلي.
“العرس الوحشي”
العرض الأبرز في المهرجان جاء بعنوان “تروما” عن رواية “العرس الوحشي” للكاتب الفرنسي يان كيفليك وإخراج حكمت نادر العقاد، النص الذي أعده الكاتب العراقي فلاح شاكر قدمته أكثر من فرقة عربية، وكان آخرها فرقة المسرح الجامعي في الأردن عام 2018. تروي “تروما” قصة جندي أميركي يقوم باستدراج فتاة مغرمة به (منيسا ماردنلي) إلى مقر وحدته العسكرية، وهناك يتناوب مع اثنين من رفاقه على اغتصابها. يعود الجنود بعدها لموطنهم، وتخرج الفتاة من هذه الحادثة حاملاً، ولا تعرف بعد أن تلد لمن تنسب مولودها، وبعد أن يكبر طفلها تعامله بجفاء وقسوة، فهي لا ترى فيه سوى أطياف الرجال الذين قاموا باغتصابها، مما يجعل الشاب (فواز المواس) ينمو مغترباً عن محيطه. بعدها تكتشف الأم أن ابنها قتل الرجل الذي تزوجته لتداري على حادثة اغتصابها، مما يدفعها إلى وضعه في مصح عقلي، لكن الشاب بعد أن يخرج من المصح يقوم بقتل والدته.
نهاية فجائعية يطل من خلالها العقاد على أتون الحرب السورية، ولاسيما عبر مسرح القسوة الذي أراد تطويعه لتحقيق صدمة من خلاله للجمهور الحلبي، وعول في ذلك على إسقاط عقدة أوديب على الشاب الراغب في قتل ثلاثة آباء بدلاً من أب واحد، لكنه عوضاً من أن يقتلهم يجهز على والدته. لعبة لم تخل من محاكمة عنيفة بين الأم وابنها، فكلاهما ضحية تواجه صورتها، وكلاهما يرغب في النسيان، لكن الجريمة تظل ماثلة في الأعين والذاكرة، وهذا ما ركز عليه القائمون على “تروما” لإدانة العنف الواقع على النساء في أواقات الأزمات والحروب الأهلية.
جاء عرض “نساء وحروب” على قائمة عروض المهرجان، واختار القائمون على هذا العرض قالباً كوميدياً ساخراً اقتبسوه عن نص للكاتبة العراقية سحر الشامي وإخراج محمود نحاس. يعالج العرض نماذج من نساء يختبرن مواقف ومفارقات حادة، وتدفعهن المصادفات إلى ظروف معقدة مع محطيهن، مما يجعلهن في النهاية يرضخن لحياة باهتة وعادية. اتكأت تجربة محمود نحاس على مستويات رمزية لعلاقة الرجل بالمرأة، وما يكتنف هذه العلاقة من مشاحنات ويوميات تتحول إلى تناقضات حادة بين ميول المرأة ورغباتها الدفينة بالحب والشعور بالأمان. يأتي ذلك وسط حروب وصراعات لا تنطفئ حتى تعود وتشتعل من جديد، مما دفع مخرج العرض إلى الاعتماد في تحقيق هذا العرض على صيغة أداء أقرب إلى الغروتيسك (ظاهر مرح وبطان عنيف ومأسوي).
“أنين الروح”
قدم المهرجان عرض “أنين الروح” لكاتبه أحمد كامل شنان ومخرجه عصام بدوي، ويحقق العرض مواجهة من نوع آخر مع العنف الواقع على النوع الاجتماعي، إذ يعالج “أنين الروح” ظاهرة الزواج المبكر عند الفتيات بسن دون 13 سنة، والتمييز بين الإناث والذكور في مجتمعات العالم الثالث، ولاسيما في المناطق الريفية، إضافة إلى معالجة ظاهرة التنمر على النساء ذوي الاحتياجات الخاصة، وما يترتب على هذه الظاهرة من آثار نفسية وجسدية تسهم في عزلة المرأة عن محيطها. اعتمد “أنين الروح” على ثنائيات درامية، وتجاورت اللعبة الدرامية مع الإضاءة (عمار الجراح) لعزل الممثل وتضمينه ضمن فضاء الفرجة.
وقدم المهرجان الحلبي عرضاً بعنوان “سيفون” لمخرجه محمد ملقي، وعن نص “المهاجران” للكاتب البولوني سلافومير مروجيك. النسخة الحلبية من النص البولوني جاءت بإعداد الفنان وليد العاقل، ويناقش العرض أزمة الهجرة عند شريحة جيل الشباب، فعبر شخصيتي مثقف وعامل في مصلحة الصرف الصحي تبدأ مبارزة كلامية في قبو رطب ومعتم، ونتعرف إلى هواجس كل من الشخصيتين، فالمثقف غارق في سماع سيمفونيات الموسيقى الكلاسيكية، ومشبع بأفكار ماركس ولينين ونيتشه، فيما يحلم العامل بالعودة لوطنه بعد أن يجمع مبلغاً من المال يكفيه لشراء بيت وسيارة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يذهب بعدها “سيفون” في تشريح متصاعد لكل من شخصيتي العامل البسيط والمثقف الذي خبر الاعتقال وقمع الحريات في بلاده، لكن الشجار سيدب بين الصديقين مجدداً بعد مصارحات مؤلمة. اعترافات عامل الصرف الصحي ستودي إلى استفزازه، وستدفعه اتهامات المثقف إلى تمزيق أوراق المال الذي ادخره لأولاده، فلقد أراد أن يثبت لصاحبه أن كرامته أثمن من كل أموال الأرض. مأزق يقود المثقف إلى الاعتذار من العامل متوقفاً عن لعبته الكلامية، لكن بعد فوات الأوان، إذ يدرك الرجلان أنهما وجهان لعملة واحدة في بلاد المنفى. في هذه الأثناء تقرع أجراس عيد رأس السنة الميلادية، فيتعانق الرجلان في عتمة القبو الذي يقطنانه، ويتضح للرفيقين الشابين أن الفروق ذابت بينهما تماماً مع قدوم العام الجديد.
هموم الممثلين وشجونهم تجلت في عرض “ليلة الجنرال” لمؤلفه عمرو بيرجكلي ومخرجه إياد شحادة، ويناقش العرض وفق أسلوب كوميدي ساخر ما وصل إليه حال عدد من ممثلي المسرح السوري، ولاسيما في مدينة حلب التي تعاني عروضها ضعف التمويل، فيما يختتم المهرجان فعالياته بعرض يحمل عنوان “المهزوز” وهو من تأليف وإخراج محمد الشيخ، وتدور أحداثه في مقبرة يلتقي فيها رجلان على طرفي نقيض. الأول ينحو باتجاه الاستسلام والإذعان للموت، فيما يختار الثاني طريق الخروج من بين غابة القبور التي تحاصره، وينتصر للحياة على رغم كل ما يجري حوله من حروب وقتل دموي.
نقلاً عن : اندبندنت عربية