
يمثل الفن التشكيلي ذلك الحيز الخلاق الذي تتجسد فيه الروح الإنسانية عبر اللون، والشكل، والخط، متجاوزاً حدود اللغة والمنطق نحو عالم أرحب من التأمل والإحساس. ففي الثقافة العربية، احتفظ الفن التشكيلي بدور جوهري في التعبير عن أحلام المجتمعات وتطلعات الأفراد، وارتبط بوظيفة سامية من التوثيق البصري والترميز القيمي، فالتشكيل هو بحث دائم عن جوهر الأشياء، حيث تتجلى الذاكرة الجماعية بين الحلم والحنين والانتماء.
في هذه اللوحة للفنانة الإماراتية فاطمة لوتاه، ثمة تجسيد مشاهد اجتماعية، من خلال ثلاث نساء يجلسن في حوار وتواصل، وتعبر من خلاله الفنانة عن العمق الثقافي والإبداعي الذي تتميز به أعمالها، حيث تتداخل عناصر التكوين اللوني والأسلوب التعبيري مع حضور واضح للموروث الإماراتي وقيم المرأة العربية.
جماليات
تتجلى جماليات التنفيذ في هذه اللوحة من خلال المزج المتداخل بين الألوان الدافئة والباردة، فاعتمدت لوتاه طبقات متعددة تعطي اللوحة عمقاً بصرياً وإحساساً خفياً بالحركة، وظفت فيه اللون الأحمر بشكل رئيسي ليعطي إحساسا طاغيا بالدف العاطفي، وكان بروز الأزرق قد خلق مساحات من الاتساع الروحي، وشكل الأبيض منطقة توازن تدل على الصفاء والنقاء.
وكانت لمسات الأصفر على بعض أجزاء اللوحة تعيد الحضور التراثي المحلي من خلال تدرجات لونية تقرن الحاضر بالماضي، وتعكس توازي العلاقات بين الشخوص، الفنانة تترك أثرها التجريدي واضحاً من خلال انتقالات لونية سلسة في مناطق معينة، وحركية مفاجئة ومركزية في مناطق أخرى، هذه النقلات اللونية أضفت على اللوحة طاقة حيوية وحالة من عدم السكون، كما نلحظ حضور تقنيات شفافية اللون، حيث تذوب بعض أجزاء الشخصيات مع الخلفية، فتبدو ملامحها غير مكتملة، وتتحول اللوحة إلى عمل تأملي يسمح للمتلقي بملء الفراغات من حنينه وذاكرته الشخصية.
تدمج لوتاه عناصر من التعبيرية والواقعية والتجريد في مساحة واحدة، وتخرج عن المعايير التقليدية، فتترك الألوان تعكس مزاج اللحظة الروحية أثناء الإنجاز، وتمنح اللوحة انفعالات شعرية وحساسية تمكّن المتلقي من التواصل مع الفكرة، وبهذا تتجذر جماليات التنفيذ في صدق تعبير روح الفنانة وحضور الذات الجماعية في لون وتدرجات تستلهم البيئة التقليدية.
رمزية
تظهر اللوحة التفاعل الإنساني بوضوح، حيث تجلس النساء في حالة حوار ومسامرة، ما يعكس هوية مجلس النساء كمحفل تقليدي لتبادل الخبرات والتجارب، هذا التفاعل يرتبط برؤية لوتاه للمرأة كحاضنة للمعرفة والثقافة، حيث تغيب التفاصيل الدقيقة للوجوه لصالح التعبير عن الإنسان والروح، ترسيخا لفكرة أن المرأة تمثل أكثر من مجرد صورة، فهي حاملة للقيم، وتختزن حكايات وتجارب تتجاوز الأزمان والمكان.
الجلوس المتقارب للنساء الثلاث يرمز إلى مجلس النساء التقليدي، حيث تتبادل الخبرات والمعرفة، وتُحفظ القيم، وكل امرأة بطابعها اللوني المختلف ودلالاتها الحسية تمثل حالة إنسانية بحد ذاتها، وهو تكثيف يجسد التنوع في الأصالة والحياة اليومية النسائية تثير الانتماء والحنين، والثياب المزخرفة والحلي تكشف عن ارتباط المرأة بالموروث الثقافي والفني، فيما تذوب ملامحهن معاً لتبرز وحدة الروح والكيان النسائي المتصل.
بهذا المعنى، تمثل النساء في هذه اللوحة الجسد الجمعي للمرأة، التي تتحول إلى رمز حي للتواصل الإنساني، والدفء العائلي.
تلخص اللوحة فلسفة لوتاه لجعل الفن مشرعا على أبواب التأمل والحنين، ويعيد تفعيل الذاكرة الجمعية للمرأة في بيئة متنوعة ثقافياً واجتماعياً، وتبرز اللوحة حميمية التواصل الإنساني وقوة حضور المرأة وحضورها الأصيل والمتفرد في مجتمعها وحياتها اليومية.
إضاءة
فاطمة لوتاه، هي رائدة في الفن التشكيلي الإماراتي والعربي، درست الفن في أكاديمية الفنون في بغداد، وواصلت دراساتها في الجامعة الأمريكية في واشنطن، قبل أن تستقر في مدينة فيرونا الإيطالية، حيث أسست مرسمها الخاص وبدأت عرض أعمالها في أوروبا والعالم العربي. تميزت تجربتها بالتعبير التجريدي التعبيري الذي يمزج الواقعية بالرمزية، ويستمد مفرداته من البيئة الإماراتية، عرضت أعمالها في معارض دولية عدة.
المصدر : صحيفة الخليج