إذا كان الموسيقي الروسي الكبير إيغور سترافنسكي قد اعترف طوال حياته بفضل أستاذه رمسكي كورساكوف صاحب “شهرزاد” و”عنترة” عليه، فإن سيرة حياته تقول لنا إنه لم يبدأ التأليف الموسيقي الحقيقي الذي سيجعله واحداً من أقطاب الموسيقى الكلاسيكية، وخصوصاً لموسيقى الباليه، إلا في عام 1910، أي بعد عامين من رحيل معلمه. في ذلك الحين كان سترافنسكي في الـ28، وكان دياغيليف مبتدع حركة “الباليه الروسي” قد طلب منه أن يكتب له قطعة للباليه، وعلى الفور ترك سترافنسكي العمل على أوبرا كان يزمع إنجازها بعنوان “العندليب”، وانصرف إلى كتابة ذلك العمل الذي سينتج بين ليلة وضحاها ويحمل إلى صاحبه شهرة ما بعدها شهرة: “عصفور النار”. وبعد ذلك توالت أعماله الكبرى من “تطويب الربيع” إلى “بتروشكا”، فعودة إلى “العندليب” التي قدمت في عام 1914. وفي عام 1923، حين كان سترافنسكي قد تجاوز الـ40 من عمره، وكان انتقل إلى فرنسا بعد أن التجأ سنوات طويلة إلى سويسرا، كتب ذلك الباليه الذي يعد الأجمل والأقوى بين أعماله جميعاً “أعراس”، الذي كان، من جديد، بناء من طلب لدياغيليف نفسه، الذي كان هذه المرة في فرنسا ليقدم عروض الباليه الروسي ويفتن أوروبا كلها بها.
من الفتنة إلى الهيمنة
والحقيقة أننا قبل أن نتوقف، وتحديداً من خلال “أعراس” ذلك العمل الموسيقي الضخم والمؤسس الذي احتفل عالم الموسيقى في أنحاء المعمورة بالذكرى المئوية الأولى لولادته، وقدم للمرة الأولى في مثل هذه الأيام من عام 1924 ما جعله يعد إلى جانب ولادة السوريالية ورحيل فرانتز كافكا في العام نفسه أهم ثلاثة أحداث كبرى تتعلق بالإبداع على مستوى القارة الأوروبية إن لم يكن على مستوى العالم، قد يكون من المفيد أن نرجع بعض الشيء إلى ذلك الإطار الفني الذي ولدت “أعراس” من رحمه، أي الباليهات الروسية التي كان فن الباليه في طول أوروبا وعرضها يخشى أن جموده في روتينيته ومحدودية العقول “الخلاقة” التي باتت تهيمن عليه وتصادره من دون التمكن من إحداث أي تجديدات فيه. ونعرف أن الفنان الحقيقي والمؤسس الذي كان خلف ذلك الحراك لم يكن سوى، الروسي دياغيليف الذي بدلاً من أن ينتظر الأوروبيين يأتون إليه في موسكو وسانت بطرسبورغ لتلمس ما راح هو ورفاقه الموسيقيون الروس يبتكرونه في مزج خلاق بين فنون الشرق والغرب، آثر هو وأولئك الرفاق وبدعم من السلطات الروسية القيصرية، ثم ولو لفترة من السلطات البلشفية التي حاولت الاستفادة من شهرته التي باتت مترسخة انطلاقاً من باريس، قبل أن تبدأ بمطاردته حتى ولو أن الذين تحلقوا من حوله في عواصم الغرب كانوا أصلاً من أنصاره. المهم أن دياغيليف أوصل فنون الشرق المارة عبر روسيا وهو في عز مكانته الكبرى التي حققها هناك، إلى تلك المكانة وقد حلق من حوله أعداد كبيرة من كبار المبدعين في الرقص والموسيقى والرسم والتصميم وكل ما يتعلق بهذا الفن.
نتاجات مرحلة النضوج
إذاً، فعلى خلفية ذلك كله يعد باليه “أعراس” من نتاجات فترة النضوج في حياة سترافنسكي. غير أن اللافت هو أن هذا الموسيقي إنما كتب “أعراس” تزامناً، تقريباً، مع عدد من أعماله الأخرى التي ستحظى بدورها بشهرة واسعة مثل “حكاية جندي” و”ثعلب” وبعض الألحان الأوركسترالية الأخرى. والمهم هنا هو أن كل هذه الأعمال تشي باهتمام تجدد لدى سترافنسكي في اتجاه الموسيقى الشعبية الروسية، خصوصاً أنه اشتغل على الموسيقى في معظم تلك الألحان انطلاقاً من قراءته المعمقة لكتاب كان نشره في ذلك الحين كيرينسكي حول “الأغاني الشعبية الروسية”. ولقد استوحى سترافنسكي “أعراس” في لوحاته الأربع، مباشرة من صفحات ذلك الكتاب، غير أن الباحثين سيقولون لاحقاً إنه إنما اهتم بالإيقاعات هنا، أكثر بكثير من اهتمامه بالمعاني الرمزية الظاهرة والخفية لتلك الحكايات. ومن هنا ولدت ألحان هذا العمل التي، حتى وإن حملت خصوصيتها المطلقة، فإنها تبدو مؤسسة تمام التأسيس على طابع الغناء الريفي الروسي. أما الموضوع الأساس، كما يمكن لنا أن ندرك من خلال العنوان، فهو الاحتفال بعرس روسي تقليدي، عبر المرور بشتى المراحل التي يمر بها ذلك الاحتفال: وهكذا لوحة بعد لوحة يطالعنا إعداد العروس نفسها للاحتفال، ثم تأتي بعد ذلك زيارة الأهل، والبركة المعطاة للعروسين، قبل أن ننتقل في الجزء الثاني من الباليه إلى وليمة العرس نفسها، إذ يدور الرقص والشرب وضروب الطعام في صخب روسي عريق. وكل هذا يسبق ما تشتمل عليه اللوحة الثالثة من بدء استعداد العروسين للرحيل وهو رحيل ترافقه أصوات الأجراس صاخبة في كل مكان، ولكن يشوبها في الوقت نفسه شيء من الحزن والقلق اللذين يعكسان بالطبع حال العروسين وهما يدخلان حياة جديدة من الصعب أن يتكهنا بما ستكون عليه في الحقيقة. والحال أن هذا الجانب من الشعور إنما هو مرتبط هنا، وعبرت عنه الموسيقى تعبيراً رائعاً، بذلك القلق الدائم الذي يعتصر الروح الروسية، ويكاد لا يظهر على حقيقته إلا في أقصى لحظات السعادة، إذ تولد هذه السعادة نقيضها، أو تذكر بالمجهول المقبل.
مناخات النزعة الطبيعية
وإيغور سترافنسكي، لكي يعبر عن هذا كله، جعل لموسيقاه طابعاً شديد الفاعلية، يكاد يدنو كلياً من مناخات النزعة الطبيعية من دون أي زينة غير لازمة. وهو، في سبيل التعبير عن هذا كله، أعطى الدور الأول للأوركسترا نفسها، من دون التركيز بقوة على أداء الآلات الفردية. وهو كان يسعى من خلال هذا، إلى تفادي الوقوع في فخ الرومنطيقية التي لم تكن تهمه على الإطلاق. كان ما يهمه هو التركيز على الإيقاعات على اعتبار أنها المكان الذي يعبر فيه الواقع الطبيعي عن نفسه، وتبدو الفاعلية في أعلى درجاتها التعبيرية. وإضافة إلى هذا كان هم سترافنسكي أن يعطي للعمل وحدته التعبيرية كما وحدته الموضوعية في الوقت نفسه وهو يدرك أن الموسيقى، في غنائيتها المطلقة، هي التي يطلب منها هنا أن تلعب الدور الأول، ما دام الرقص سيكون في نهاية الأمر مطبوعاً بطابع الرقص الجماعي أكثر منه بطابع الرقص الفردي. ومن هنا كان التركيز، خصوصاً، على الآلات الإيقاعية، من استخدام أربع آلات بيانو إلى إدخال الكسيلوفون والأجراس وآلات القرع. والحقيقة أن النجاح الفوري الذي كان من نصيب هذا العمل، كان هو الذي دفع سترافنسكي إلى أعمال الفكر، حقاً، في تجديدات موسيقية ارتبطت لديه بإعادة اكتشاف مبادئ موسيقية تستند إلى شاعرية جديدة، كانت موضع الإهمال منذ زمن في أشكالها القديمة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تحفظ بريطاني
وهكذا، إذ قدم العمل، على رغم غنائيته، على شكل باليه إيمائي، من قبل فرقة “الباليه الروسي” تحت إشراف دياغيليف، كان مصيره أن يمهد الطريق لذلك النوع من الباليهات التجريدية التي ستكون لها الحظوة خلال العقود اللاحقة. ويشير المؤرخون، في هذا السياق إلى أمر بالغ الغرابة، وهو أن هذا الباليه حين استقبل بشيء من التحفظ في بريطانيا المحافظة، كان الكاتب هـ. ج. ويلز أول من تصدى إلى الدفاع عنه مركزاً على أنه من نوع الأعمال التي تفتح المستقبل. وبالفعل أسس باليه “أعراس” لجزء كبير من فن الباليه في القرن الـ20، كما أنه، موسيقياً، يكاد يكون المؤسس الأكثر فاعلية، على خطى مدرسة فيينا، للحداثة الموسيقية التي كثيراً ما ركزت على الإيقاع، وآلاته طوال العقود التالية من القرن الـ20.
أما إيغور سترافنسكي، فهو ولد عام 1882 في روسيا، ليموت في عام 1971 في نيويورك، بعدما صار أميركياً، وبعد أن عاش ردحاً من عمره في فرنسا. وهو تدرب موسيقياً كما أشرنا، على يد رمسكي كورساكوف. ونعرف أنه هاجر باكراً من روسيا ليعيش في أوروبا، غير أن ذلك لم ينسه، موسيقياً، أصوله الروسية، وهكذا ظلت موسيقاه مطبوعة بالتراث الروسي حتى آخر عمره، مما جعل كثراً يربطون بينه، كموسيقي، وبين مواطنه ومعاصره الرسام مارك شاغال، من ناحية تجذر فنيهما في التقاليد الروسية.
نقلاً عن : اندبندنت عربية