دبي ترفع مستوى السلامة المرورية بتنظيم قيادة دراجات التوصيل للوصول إلى «الرؤية الصفرية»
شكل قرار تقنين قيادة دراجات التوصيل الجديد في المسارات السريعة الذي أقرته هيئة الطرق والمواصلات بدبي أخيراً، بالتعاون مع القيادة العامة لشرطة دبي، محطة مفصلية في مسيرة الإمارة نحو ترسيخ ثقافة السلامة المرورية وحماية فئة من أكثر العاملين عرضة للمخاطر على الطرق، فالقرار الذي يدخل حيز التنفيذ يوم السبت الموافق الأول من نوفمبر المقبل، جاء استناداً إلى دراسات ميدانية دقيقة وتحليل شامل للحوادث المرورية، ليعيد رسم خريطة حركة الدراجات النارية في الإمارة، وفق نظام متوازن يجمع بين الأمان، والكفاءة، واستمرارية الخدمة.
ملاحظة ميدانية
وبحسب هيئة الطرق والمواصلات وشرطة دبي، فإن القرار لم يكن وليد الصدفة، ولم يتم الإعلان عن تطبيقه بوصفه إجراءً طارئاً ولحظياً، بل تم إقراره بعد سنوات من الملاحظة الميدانية وتقييم بيانات الحوادث، التي أظهرت ارتفاع نسب الإصابات البليغة بين سائقي دراجات التوصيل، خصوصاً على الطرق ذات السرعات العالية التي لا تتناسب طبيعتها مع المركبات الخفيفة، حيث كشفت الإحصاءات المرورية أن تفاوت السرعات بين السيارات والدراجات كان من أبرز أسباب الحوادث الجسيمة، إذ كانت معظم الحوادث تقع في المسارات اليسرى من الطرق الواسعة، وهي المسارات المخصصة للمركبات التي تتجاوز سرعتها 100 كيلومتر في الساعة.
وبناء على هذه النتائج، أقرت الجهات التنظيمية إطاراً قانونياً يحقق هدفين متوازيين هما تقليل الحوادث المرورية المرتبطة بقطاع التوصيل، وضمان استمرارية الخدمات التي أصبحت جزءاً أساسياً من الحياة اليومية في الإمارة، خصوصاً بعدما بينت الإحصاءات المرورية الرسمية تزايداً مقلقاً في عدد حوادث الدراجات النارية «توصيل الطلبات»، نتيجة عدم التزام بعض السائقين بقوانين السير والمرور، وتهور البعض منهم على الطرق السريعة، حيث أظهرت التقارير الإحصائية الصادرة عن شرطة دبي، وقوع أكثر من 1816 حادثاً خلال خلال أقل من عامين بسبب مخالفات وانتهاكات من قِبل سائقي هذه الفئة من الدراجات، كما رصدت شرطة دبي خلال الفترة ذاتها أكثر من 148 ألف مخالفة ارتكبها سائقو دراجات نارية من فئة «توصيل الطلبات» لعدم التزامهم بقانون السير والمرور، وهو ما يعكس استمرار بعض السلوكيات الخاطئة.
فقدان السيطرة
وبعد دراسة معمقة وتحليل أسباب حوادث دراجات التوصيل، تبين أنها من أكثر وسائل النقل عرضة للحوادث المميتة، نظراً لعدم وجود هيكل حماية حول السائق، وارتفاع احتمالية فقدان السيطرة عند السرعات العالية، ولذلك جاء قرار حظر قيادة دراجات التوصيل على المسارات السريعة في شوارع الإمارة بهدف تقويم سلوك السائقين ورفع مستوى الانضباط المروري، وبالتالي تقليل أعداد الوفيات والإصابات بينهم.
وبموجب القرار، يحظر قيادة دراجات التوصيل في الحارتين السريعتين الواقعتين في أقصى اليسار من الطرق التي تتكون من 5 مسارات أو أكثر، ومنعها كذلك من الحارة اليسرى في الطرق ذات الـ3 أو الـ4 مسارات، مع السماح لها بالقيادة بحرية على الطرق المحلية التي لا تتجاوز مسارين، وبذلك لا يمنع القانون عمل الدراجات في الطرق الحيوية، بل ينظم حركتها بما يتناسب مع طبيعتها الميكانيكية وسرعتها الآمنة.
غرامة مالية
كما حدد القرار السرعة القصوى المسموح بها لدراجات التوصيل بـ100 كيلومتر في الساعة، مع فرض غرامة مالية قدرها 200 درهم عند تجاوزها، بينما تتدرج الغرامات في حال المخالفات الأخرى مثل السير في المسار السريع بين 500 درهم للمخالفة الأولى و700 درهم للثانية، وصولاً إلى إلغاء تصريح القيادة نهائياً في حال تكرار المخالفة، ولا يقتصر الهدف من هذا التقنين على الجانب العقابي، بل يتعداه إلى تحقيق مجموعة من الأهداف التنموية والاقتصادية والاجتماعية الكبرى لدبي.
ويرتبط قرار تقنين قيادة دراجات التوصيل الجديد مباشرة باستراتيجية دبي للسلامة المرورية التي تتبنى «الرؤية الصفرية» للحوادث المميتة، وهي رؤية تهدف إلى القضاء الكامل على الوفيات الناتجة عن حوادث الطرق، ولتحقيق هذا الهدف لم تكتفِ دبي بتطوير البنية التحتية الذكية، بل تمضي نحو معالجة جذور المشكلات السلوكية والتنظيمية، فدراجات التوصيل، رغم كونها عنصراً حيوياً في منظومة الخدمات، كانت تمثل تحدياً واضحاً للسلامة العامة نتيجة انتشارها الكثيف وارتباطها بثقافة السرعة والتسليم الفوري، ومن خلال هذا القرار، تسعى الإمارة إلى تحويل هذا النشاط الحيوي إلى نموذج يحتذى في التنظيم والكفاءة المهنية.
بعد إنساني
ويتجاوز قرار تقنين قيادة دراجات التوصيل في الطرق السريعة أبعاده المرورية إلى بعد إنساني أعمق، إذ يضع سلامة عمال التوصيل في صدارة الاهتمام، فسائقو الدراجات يجوبون الطرقات طوال اليوم في ظروف مناخية وميدانية متفاوتة، ويعدون اليوم جزءاً من دورة الحياة الاقتصادية اليومية، لكنهم أيضاً من أكثر الفئات تعرضاً للخطر، ولذلك لم تقتصر إجراءات حمايتهم على القرار الذي صدر مؤخراً والذي ينظم المسارات، بل سبقته إجراءات حماية شاملة بدأتها الإمارة منذ سنوات سابقة ألزمت على أثرها الشركات بتوفير الخوذ الواقية والسترات العاكسة والأحذية المغلقة لكل سائق، والتأكد من استخدام الدراجات المطابقة لمواصفات الأمان.
كما وأطلقت دبي مبادرات موازية مثل «برد صيفهم»، لتأمين نقاط راحة مظللة ومبردة في المواقع الحيوية، ما يعكس فلسفة إنسانية ترى في حماية العامل امتداداً طبيعياً لمسؤولية المدينة تجاه جميع من يعيش ويعمل فيها، وخصصت هيئة الطرق والمواصلات عشرات من الاستراحات المكيفة لسائقي دراجات توصيل الطلبات، موزعة على عدد من المحطات الحيوية في الإمارة، وذلك ضمن جهودها لرفع مستوى السلامة المرورية وتعزيز جودة الحياة وتوفير الخدمات وسبل الراحة، حيث روعي في تصميمها الخارجي الحد من تأثير أشعة الشمس داخلها وتوفير العزل المناسب دون حجب الرؤية، وروعي أيضاً في داخلها توفير العديد من الخدمات وسبل الراحة لسائقي الدراجات خلال فترة انتظارهم مثل: موزع مياه، ومنطقة لشحن الهواتف المحمولة، كما روعي توفير عدد كافٍ من المواقف المخصصة للدراجات النارية بجانب كل استراحة، وغيرها من الميزات، التي تسهم في رفع مستوى سعادتهم وتشجيعهم على الالتزام بقوانين وأنظمة السير والمرور.
وجبات مجانية
وزودت الاستراحات بوجبات مجانية من قبل «بنك الإمارات للطعام»، بهدف توفير وجبات مجانية لسائقي توصيل الطلبات، وذلك تقديراً لجهودهم اليومية في خدمة المجتمع ودورهم الحيوي في دعم اقتصاد الإمارة ومواكبة النمو الكبير الذي يشهده قطاع توصيل الطلبات.
وعلى صعيد التشريعات والقرارات السابقة لحماية سائقي دراجات التوصيل، أُلزم السائقون بالحصول على «شهادة تأهيل سائق توصيل معتمد» لمزاولة المهنة، والتي يتم الحصول عليها بعد الخضوع لدورة تدريبية مكثفة تقدم من خلالها معاهد القيادة المعتمدة تدريباً على القيادة الوقائية، وإدارة الوقت، والتعامل مع المفاجآت الميدانية، وفهم الأنظمة المرورية المحلية، وحددت اللوائح أن يتراوح عمر السائق بين 21 و55 عاماً، مع وجوب حمل رخصة قيادة دراجة نارية سارية المفعول.
تحليل البيانات
وفرضت القانونين والقرارات التنظيمية تركيب أجهزة تتبع إلكترونية في جميع دراجات التوصيل، تمكن من مراقبة السرعة والمسار في الزمن الفعلي، ويتيح ذلك لهيئة الطرق وشرطة دبي تحليل البيانات بدقة، والتدخل السريع عند رصد أي تجاوز، إضافة إلى استخدام المعلومات في رسم خرائط المخاطر وتحديد المناطق التي تتكرر فيها الحوادث أو المخالفات، وإلى جانب ذلك، شملت القرارات اشتراطات دقيقة لصناديق التوصيل من حيث الوزن والامتداد الخلفي والنظافة، وألزم الشركات باستبدالها كل عامين، في خطوة تهدف إلى الحفاظ على المظهر الحضاري للدراجات وضمان سلامة استخدامها.
وتتحمل شركات التوصيل جزءاً أساسياً من مسؤولية تطبيق القانون، إذ طلب منها إعداد برامج تدريب دورية لسائقيها، ومتابعة التزامهم عبر أنظمة المراقبة الذكية، وتزويد الهيئة بتقارير أداء منتظمة، كما استحدثت هيئة الطرق «جائزة التميز في قطاع توصيل الطلبات» لتكريم الشركات التي تلتزم بالمعايير الجديدة وتطبق أفضل الممارسات في مجال السلامة المهنية، فهذه المقاربة التحفيزية تسعى إلى تحويل الالتزام من واجب قانوني إلى ثقافة مؤسسية، حيث تصبح السلامة معياراً للتميز والتنافس التجاري بين الشركات العاملة في السوق.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن تأثير القرار يمتد إلى ما هو أبعد من الطرقات، إذ يسهم في تحسين جودة الحياة المهنية لآلاف السائقين الذين يعتمدون على هذه الوظيفة بوصفها مصدر رزق أساسياً، فالبيئة الآمنة لا تعني فقط خفض الحوادث، بل تخفف الضغط النفسي عن السائقين الذين كانوا يعيشون تحت وطأة المنافسة الزمنية والخوف من الحوادث أو الغرامات، كما أن تقنين أوقات العمل ومسارات القيادة سيساعد الشركات على وضع جداول أكثر واقعية تراعي فترات الذروة والازدحام، بما يمنح السائقين مساحة أكبر للراحة ويحد من الإرهاق، وهو أحد الأسباب الخفية وراء العديد من الحوادث.
تأثيرات اقتصادية وتنموية
يسهم قرار تقنين قيادة دراجة التوصيل في المسارات السريعة من منظور اقتصادي في رفع مستوى الكفاءة التشغيلية للقطاع، فمع تقليل الحوادث، تنخفض كلفة التأمين والصيانة والخسائر الناتجة عن الأعطال، ما يعزز تنافسية الشركات العاملة ويجذب مزيداً من الاستثمارات إلى قطاع الخدمات اللوجستية، كما يعزز هذا التنظيم صورة دبي كمدينة آمنة تدار وفق معايير عالمية، ما يدعم مكانتها في مؤشرات المدن الأكثر استدامة وجودة للحياة.
كما تتكامل الإجراءات مع أهداف أجندة دبي الاقتصادية «D33» التي تسعى إلى مضاعفة حجم اقتصاد الإمارة خلال العقد المقبل، إذ يعد قطاع التوصيل من بين القطاعات الداعمة لهذا النمو، ويحتاج إلى تنظيم يضمن استمراريته وكفاءته، وتعتمد الإمارة في مراقبة تنفيذ القانون على منظومة رقمية متطورة تشمل آلاف الكاميرات والرادارات الذكية الموزعة في أنحاء الإمارة، والتي تتيح تتبع حركة الدراجات وتحليل أنماط السير في الزمن الحقيقي، فهذه البيانات تستخدم لتحديد النقاط السوداء التي تتكرر فيها الحوادث، واقتراح تعديلات هندسية أو توعية إضافية لمعالجتها، وبهذا الأسلوب القائم على «التحليل لا العقوبة»، تضع دبي نموذجاً إدارياً متطوراً يجعل من البيانات أداة للوقاية لا للملاحقة، وهو ما ينسجم مع رؤيتها في التحول إلى مدينة ذكية آمنة تراعي الإنسان في كل تفاصيلها.
وفي موازاة تطبيق القانون، أطلقت الجهات المعنية حملات توعية ميدانية وإعلامية تستهدف السائقين والمواطنين على حد سواء، بلغات متعددة تراعي تنوع جنسيات العاملين في هذا القطاع، تركز هذه الحملات على إيصال رسالة بسيطة وواضحة «السلامة مسؤولية مشتركة»، فالقانون، مهما بلغت صرامته، لا يمكن أن ينجح دون قناعة جماعية بأهميته، ومن هنا، تسعى هيئة الطرق وشرطة دبي إلى ترسيخ ثقافة جديدة تجعل احترام القوانين سلوكاً يومياً نابعاً من الوعي، لا من الخوف من العقوبة.

دبي نموذج عالمي في سلامة واستدامة النقل
يعكس توجه دبي نحو تنظيم قيادة دراجات التوصيل تبنيها الواضح لأفضل الممارسات العالمية، خاصة في ظل تنامي ما يعرف بـ«اقتصاد العمل الحر Gig Economy» الذي يشهد توسعاً ملحوظاً في المدن الحديثة، ويأتي هذا التوجه ضمن رؤية شاملة تهدف إلى تحقيق توازن دقيق بين تسهيل خدمات التوصيل السريع، وضمان أعلى معايير السلامة المرورية والمهنية، بما يعزز جودة الحياة ويضمن استدامة الخدمات اللوجستية في الإمارة.وفي هذا السياق، تتبنى دبي مبدأ تقييد السرعة والفصل المروري بما يتماشى مع المعايير المتبعة في كبرى المدن العالمية، إذ يمنع سائقي دراجات التوصيل من القيادة في الحارات السريعة «أقصى اليسار» على الطرق الكبيرة، وذلك لضمان فصل الحركة البطيئة عن السريعة وتقليل احتمالات الحوادث، حيث يسهم الإجراء في تعزيز انسيابية الحركة المرورية والحفاظ على سلامة السائقين والمركبات الأخرى في الوقت ذاته، ما يعكس نهجاً تنظيمياً متطوراً يعتمد على التخطيط الذكي للطرق والبنية التحتية.
أما فيما يتعلق بسلامة عمال التوصيل «Gig Workers»، فقد أولت دبي اهتماماً بالغاً بهذه الفئة التي تعد عنصراً محورياً في منظومة الخدمات الحديثة، ومن هذا المنطلق فرضت اشتراطات صارمة تتعلق بالسلامة مثل ارتداء الخوذة والسترة العاكسة وتحديد المسارات الآمنة للدراجات، كما أطلقت الإمارة مبادرات إنسانية عديدة ومتنوعة تهدف إلى حماية السائقين من مخاطر الطقس القاسي وضمان بيئة عمل صحية وآمنة، بما يتوافق مع القيم العالمية في مجال حقوق العمال وسلامتهم المهنية.
وعلى صعيد التأهيل والترخيص الاحترافي، يلزم سائقي دراجات التوصيل بالحصول على شهادة تأهيل خاصة، تضمن إلمامهم الكامل بقواعد السير والسلامة المهنية، ويشبه هذا النهج ما هو معمول به في العديد من الدول المتقدمة التي تشترط تراخيص مهنية خاصة للسائقين التجاريين، ما يعزز من كفاءة القطاع ويرفع من مستوى جودة الخدمات المقدمة للمجتمع.
وعلى مستوى حوكمة القطاع ودعم الاستدامة، فقد استندت قرارات دبي إلى دراسات مرورية متخصصة وإلى تشاور واسع مع الشركاء في القطاعين العام والخاص، لضمان توافقها مع خارطة الطريق العالمية لتنظيم النقل الذكي والمستدام، ويبرز هذا الأسلوب مدى التزام الإمارة بنهج قائم على المعرفة والابتكار في صياغة السياسات العامة، بما يضمن استدامة التطور وتحقيق التوازن بين الكفاءة والسلامة، والانتقال من التركيز من مجرد تسهيل حركة التوصيل إلى دمج عناصر السلامة المهنية وحماية العمال ضمن منظومة النقل الشاملة، ما يجعل دبي نموذجاً عالمياً في تطبيق الممارسات المستدامة والتنظيم المتكامل لقطاع النقل والخدمات.
المصدر : البيان
