بطل رواية «الأب غوريو» للكاتب «أونوريه دي بلزاك»، كان رجلًا غنيًا جدًا في السابق، حقق ثروته خلال الثورة الفرنسية عن طريق المضاربة في المواد الغذائية عندما ارتفعت أسعارها بشكل حاد، عمل بجد لتأمين مستقبل آمن لأسرته، وبعد وفاة زوجته الحبيبة، وجه كل حبه لبناته. كان يلبي جميع رغباتهن ولم يبخل بالمال على تربيتهن. استأجر أفضل المعلمات اللاتي اهتممن بتعليم «آناستازيا» و«دلفين» وتدريبهما على آداب السلوك، كما ضمن لهما «غوريو» مكانة اجتماعية مرموقة. تزوجت «آناستازيا» من رجل يحمل لقب بارون، بينما تزوجت «دلفين» من مصرفي ثري. وكان دخول البنات إلى مجتمع النخبة في فرنسا في القرن التاسع عشر هو السبب في هلاك الأب «غوريو».
كونه مجرد تاجر بسيط، لم يكن مناسبًا تمامًا لدوائر أزواج بناته الاجتماعية، لم يستطع التصرف بشكل لائق في هذه الأوساط، وكان أصله المتواضع وقلة معرفته بالايتيكيت مصدر إزعاج ليس فقط لأزواج بناته، بل لبناته أنفسهن. أصبح وجوده غير مرحب به في منازلهن، ولم تعد بناته يزرنه إلا عندما يواجهن مشاكل مالية. وعلى الرغم من أن كلتيهما حصلتا على مهور كبيرة من والدهن، أكبر بكثير من المبلغ الذي احتفظ به لنفسه لتأمين مستقبله، فإن أموالهن كانت في أيدي أزواجهن. وبما أنه لم يبخل يومًا على «آناستازيا» و«دلفين» بالمال لتلبية رغباتهن، حتى الأكثر فخامة، ولأن «الظهور في المجتمع»– كما هو معروف– يفرض ارتداء أفضل الأزياء وأغلى المجوهرات، فقد طلبتا مرارًا من والدهما إنقاذهما عندما تقعان في الديون. لم تكن «آناستازيا» فقط تستنزف الأموال من والدها لنفسها، بل أيضًا لعشيقها المدمن على القمار. وكان «غوريو»، الذي أعمته محبته لبناته، قد أنفق أولاً مدخراته، ثم رهن مجوهراته، وتخلى عن معاشه الضئيل الذي كان يملكه، ليصبح في النهاية شخصًا معدمًا.
مات في عذاب رهيب، ليس فقط الجسدي، رغم أن الألم كان يمزق رأسه، بل أيضًا النفسي، لأنه أدرك أخيرًا ما كان يعنيه لأولئك اللاتي أحبهن بصدق وتفانٍ طوال هذه السنوات، كانت رغبته الوحيدة هي زيارة بناته. فقط هن كن قادرات على تهدئة معاناته. لكن للأسف، لم يحدث ذلك. مات وهو مقتنع أن بناته اللاتي أحبهن بشدة وكرس لهن كل ما يملك، لم يستطعن أبدًا أن يظهرن له الامتنان. لم يحببنه.
لم يكن الشهود على عمق معاناة الأب غوريو «ملائكة»، بل أشخاصًا عاديين لديهم عديد من الخطايا، من بينهم الطالب «أوجينيو راستينياك»، الذي لم يكن لديه أي تردد أخلاقي في قبول دور العاشق والمُعال «لدلفين». ومع ذلك، فإن موقف بنات الأب «غوريو» تجاه والدهن الذي أحبهن بلا حدود هزّه بعمق. كان يهتم بالشيخ برفق، وبذل كل ما في وسعه حتى اللحظات الأخيرة لإحضار بناته وتهدئة ألم والدهن المُهان. كان جميع شهود وفاة الأب «غوريو» مقتنعين بعدم إنسانية بناته: الطبيب الشاب «بيانشون»، وسكان وخدم منزل السيدة «فوكر».
لا أعرف قارئًا لرواية «بلزاك» لم تهزه النهاية الحزينة للأب «غوريو». لماذا؟ ليس فقط بسبب الاعتقاد بواجب إظهار الاحترام تجاه الوالدين، بل بسبب الاعتقاد بواجب الامتنان الذي يرتبط بعمق الإحساس بالظلم.
عندما نقبل أي هدية، فإننا نلتزم بشكل ما بالاعتراف بها، وشكر من قدّمها، وبقدر الإمكان رد الجميل. لكن للأسف، يجد الناس أحيانًا صعوبة حتى في الاعتراف بأنهم تلقوا أي شيء من شخص ما. تصرف بنات «غوريو» كما لو أن كل ما قدمه لهن والدهن كان حقًا مكتسبًا. بدا أنهن لم يفهمن تمامًا الوضع الذي كان يمر به، وعلى الرغم من أنهن كن يشاهدن تدهور حالته المعيشية باستمرار، فإنهن لم يتوقفن عن طلب الدعم المالي، دون أن يقدمن له أي شيء بالمقابل، حتى ولو قليلاً من الدفء أو العناية. إن هذا الجحود الواضح هو ما يثير الغضب الأخلاقي لدى القراء.
بالعودة إلى قصة الأب «غوريو»، يمكن القول إنه لم يكن ليعاني هذا القدر من التعاسة لو علم بناته فضيلة الامتنان، وكما تُظهر الأبحاث الحديثة في مجال علم النفس الإيجابي، فإن هذا كان سيجعل بناته أكثر سعادة أيضًا.
تشير عديد من الدراسات التجريبية إلى أن الشعور بالامتنان يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالإحساس بالسعادة الشخصية والميول للسلوكيات الاجتماعية الإيجابية، ومن المثير للاهتمام أن الأشخاص الذين يستطيعون الشعور بالامتنان تجاه الآخرين وتجاه الحياة بشكل عام، يتمتعون بقدر أكبر من الطاقة الحياتية ويكونون ببساطة أكثر صحة. إنهم يشعرون بمشاعر إيجابية أكثر من السلبية، يميلون إلى التسامح، ويفهمون الآخرين بشكل أعمق، يشعرون بغيرة أقل ولا يحملون الكراهية. هؤلاء الأفراد يتسمون بالتعاطف ويميلون إلى مساعدة الآخرين، مما يجعلهم أكثر قبولًا لدى الناس، ويزيد ذلك من ثقتهم بأنفسهم.
فكم من أب «غوريو» يعيش بيننا اليوم، وكم يلزما حتى نكون ممتنين.
نقلاً عن : الوطن السعودية