بخبرة ربع قرن تقريباً في رئاسة تحرير سلسلة “كلاسيكيات نيويورك رفيو أوف بوكس” التي قدمت مئات العناوين المهمة، سواء المشهورة أم المغمورة، والمزودة جميعاً بمقدمات ضافية مكتوبة لها خصيصاً، يقدم إدوين فرانك الناقد الأميركي ومدير تحرير “نيويورك رفيو أوف بوكس”، مشروعاً جديداً مخصصاً للرواية في القرن الـ20.

في كتابه الصادر حديثاً بعنوان “أغرب من الخيال: حيوات رواية القرن العشرين”، يتناول فرانك أكثر من 30 رواية لـ30 روائياً مقدماً ما تصفه “كيركوس رفيو” بـ”تاريخ” لهذا الفن الذي سيطر على القرن الـ20 أدبياً، وذلك عبر ثلاثة أقسام مما يسميه “النقد الوصفي”.

“في أعقاب تمهيد مخصص لرواية ’من قبوي‘ لفيودور دوستويفسكي، يضم القسم الأول أعمال العقود القليلة في نهاية القرن الـ19 وصولاً إلى نهاية الحرب العالمية الأولى، فمنها عناوين لكتاب من قبيل ويلز وبروست وجويس وتوماس مان الذي يعد فرانك روايته ’الجبل السحري‘ بمقام ’قالب جديد لرواية القرن الـ20 ولد من رحم الحرب ولا يمكن إدراك أهميته إدراكاً كاملاً إلا بعدها‘. ويبدأ قسم الكتاب الأوسط برواية ’السيدة دالاوي‘ لفرجينيا، وولف ويشمل ’فترة الابتكار المذهل‘. وفي القسم الأخير يرصد الكاتب روايات ما بين منتصف القرن ونهايته، من ’الأشياء تتداعى‘ للنيجيري تشينوا أتشيبي وحتى ’مئة عام من العزلة‘ لغابرييل غارثيا ماركيز وما بعدها”.

سجل فاحش الثراء

يبرز استعراض “كيركوس رفيو” الوجيز للكتاب سعة نطاق فرانك المثير للإعجاب، وبراعة نثره، وإن أخذ عليه بعض التكرار في العبارات، لكن الأهم من ذلك أنه لا يكاد يخرج عن العناوين المستقرة المعتمدة فعلاً، والمعدودة في زمرة الكلاسيكيات لدرجة أن يصبح “الكتاب يسير القراءة على أكاديميته، وذا جاذبية خاصة لدى القراء الشغوفين بالكلاسيكيات”.

تكتب ليدياليل جيبسون [مجلة “هارفرد” – نوفمبر (تشرين الثاني)، ديسمبر (كانون الأول) 2024] أن “أغرب من الخيال” كتاب عن كتب، “لكنه ليس تجميعاً أو دراسة استقصائية أو لا قدر الله، بحسب ما يكتب فرانك، كتاباً في نظرية الرواية، ولكنه قصة بطلتها الأساسية هي رواية القرن الـ20 نفسها، التي بات يراها وكأنها شخصية روائية في ذاتها”. يكتب فرانك أن “القصة الجارية وسط اضطرابات القرن الـ20 شبه الدائمة تصور الرواية وكيف نشأت، وكيف تغيرت، وكيف كافحت، وكيف شاخت. فينجم من ذلك سجل فاحش الثراء”.

 

تقول جيبسون إن الكتاب يضفر بين “الأحداث العالمية والتواريخ الأدبية وسير الروائيين، وتفاصيل الحبكات والثيمات والمشاهد والشخصيات، منفقاً وقته مع أعمال شهيرة شهرة ’البحث عن الزمن المفقود‘ و’عوليس‘ و’لوليتا‘ و’مئة عام من العزلة‘، مع إلقائه الضوء على جواهر أقل شهرة من قبيل ’النهاية‘ لهانز إيرش نوساك و’آرتميجيا‘ لآنا بانتي و’الجانب الآخر‘ لألفريد كوبين، محللاً 32 رواية في المجمل من شتى أرجاء العالم، مع إشارات إلى أخريات لا حصر لها بما يجعل من كتابه كوكبة نجمية استغرقت صياغتها منه نحو 15 عاماً”.

في استعراضه الكتاب [“غارديان”- الثاني من ديسمبر 2024)، يكتب تيم آدمس أن “إدوين فرانك يتعهد في مقدمته بأن يحاول أن يفعل للرواية في القرن الماضي ما فعله الناقد أليكس روس للموسيقى بكتابه الفارق ’والبقية ضجيج‘. ويفي بعهده، فهذا الكتاب من أكثر تصورات تطور الرواية في القرن الـ20 جاذبية. وعلى رغم رهافة حكمه النقدي فإن فرانك يكتب بحماسة مثلما يكتب بحس أكاديمي، مطمئناً إلى ذائقته، ومنتبهاً دائماً إلى القصص التي يحكيها، والحجج التي يقيمها”.

“ومنهجه بصفة عامة زمني يعرض على القارئ القرن الـ20 الطويل مبتدئاً من رواية ’من قبوي‘ في أواخر القرن الـ19، ومنتهياً برواية ’أوسترليتز‘ لدبليو دي سيبولد الصادرة عام 2001”. فتكشف اختيارات الكاتب لعملي البداية والنهاية طبيعة انحياز مشروعه، إذ “ينجذب الكاتب إلى الروايات التي تتحدى القالب الروائي ذاته بطرق مختلفة، فتعطل واعية أو غير واعية أشد ثوابت رواية القرن الـ19 رسوخاً. وفي هذا الصدد يكتب فرانك أن ’روائيي القرن الـ20 واقعون في كمين تاريخي، فهم يعيشون في عالم ما عاد يمكن فيه الحفاظ حتى في الخيال على توازن القرن الـ19 الديناميكي بين الذات والمجتمع‘”.

مرآة على طريق

يشير فرانك إلى أن “بنية رواية ’في قبوي‘ لدوستويفسكي العصية على التصنيف، التي لا تشبه شيئاً بقدر ما تشبه حطام الزجاج، هي التي حددت نمط تلك العلاقة الجديدة”. وينتصر فرانك لرواية القرن الـ20 باعتبارها قالباً هجينياً مشوهاً يقع في موضع ما بين السيرة الذاتية والتاريخ والأسطورة، ويشيد في هذا الصدد بوصف الشاعر راندول جاريل الآسر للرواية، إذ يقول إن “الرواية هي سردية نثرية ذات طول معين يشوبها خطأ ما”.

على كثرة العروض النقدية التي حظي بها كتاب “أغرب من الخيال”، يبرز بينها مقالة لويس ميناند [“ذي نيويوركر”- الـ11 من نوفمبر 2024] بعنوان “هل هناك نوع أدبي اسمه رواية القرن العشرين؟”. وفي العنوان نفسه يكمن سر بروز هذه المقالة في تقديري. فميناند لم يقرأ الكتاب باعتباره تأريخاً للفن الروائي في القرن الـ20 بقدر ما قرأ فيه وصفاً نقدياً لنوع أدبي روائي معين السمات اسمه “رواية القرن العشرين”، يقف جنباً إلى جنب أنواع روائية أخرى مستقرة لا أقول إنها في مثل استقرار الرواية البوليسية أو الفنتازية أو الإثارية، ولكن في مثل استقرار رواية القرن الـ18 والـ19. وينفق ميناند ربع مقالته الطويلة تقريباً لشرح فكرة النوع الروائي نفسه فيقول إن “ثمة نزوعاً إلى تصوير الأنواع الأدبية بوصفها عظام النصوص الأدبية والخصائص الشكلية التي تصاغ على أساسها الصور وتفاصيل الشخصية والحبكة والمكان. وهذه الهياكل العظمية قادرة على الانتقال عبر الزمن. لذلك تعد ’أوديب ملكاً‘ و’هاملت‘ و’وفاة بائع متجول‘ جميعاً من التراجيديات على رغم أن هذه المسرحيات، بعيداً من النهاية التعيسة، تختلف في ما بينها أكثر مما تتشابه”.

ويكشف عن مشكلة في مسألة الأنواع الأدبية، عدا التعميمات، تتمثل في استخلاص سمات هذه الأنواع من “مجموعة من النصوص شديدة الانتقاء، فما يقدر بمئات التراجيديات المكتوبة في اليونان القديم لا نعرف إلا 32 تراجيديا مكتملة منسوبة إلى ثلاثة مسرحيين فقط. ولا نعرف كل الأشكال التي ربما اتخذتها التراجيديا مثلما فهمها الإغريق، وفي حال نوع أدبي من قبيل الرواية لا نكاد نعمل أيضاً إلا على عينة صغيرة إلى درجة السخف”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ثم يمضي ميناند فيضع كتاب “أغرب من الخيال” في فئة جهود نقدية تعد من أعمدة النقد الروائي الكلاسيكية، فيعده امتداداً للناقد الهنجاري جورج لوكاش وكتابه المنشور عام 1916 بعنوان “نظرية الرواية”، الذي طرح فيه تعريفاً عصياً على النسيان “الرواية ملحمة عالم تخلى عنه الرب”. ومن بعد لوكاش ثمة جهود أخرى لميخائيل باختين في روسيا عبر مقالاته التي جمعها في كتاب “الخيال الحواري”، والناقد الإنجليزي إف آر ليفيس بكتابه “التقليد العظيم”، والناقد والمنظر إيان واط بكتاب “نشوء الرواية” (1957) الذي قال فيه إن “مهمة الرواية هي أن تطرح تقريراً كاملاً أصيلاً لتجربة إنسانية”.

“كان واط يكتب عن رواية القرن الـ18 الإنجليزية عند ديفو وريتشاردصن وفيلدنج، وكان لوكاش يكتب عن رواية القرن الـ19 الواقعية الأوروبية والروسية، والسؤال الذي يطرحه إدوين فرانك في كتابه “أغرب من الخيال” هو ما إذا كان ثمة شيء اسمه رواية القرن الـ20″. يتساءل ميناند “هل من المفيد أن نتكلم عن رواية القرن الـ20 باعتبارها شيئاً مختلفاً عن رواية القرن الـ19 أو حتى عن رواية القرن الـ21؟ ذلك ما يراه فرانك، ففي رأيه أن رواية القرن الـ20 نوع أدبي مختلف، وكتابه جهد طموح وذكي لرسم ملامح خريطة هذا النوع”.

“كانت النتيجة كتاباً عن روايات تعد صعبة أو مزعجة منها روايات شديدة الطول من قبيل ’عوليس‘ لجيمس جويس و’البحث عن الزمن المفقود‘ لمارسيل بروست، أو شديدة الغرابة من قبيل ’ثلاثة أزرار‘ لجرترود شتاين أو ’مذكرات براس كوباس بعد وفاته‘ لماشادو دي أسيس، أو تتسم بالصفتين من قبيل ’رجل بلا سمات‘ لروبرت موزيل و’الحياة: دليل المستعمل‘ لجوروج بيريك”.

يكتب ميناند أن نظرية الرواية عند فرانك نظرية تقليدية “ترجع في الأقل إلى تعريف ستندال في رواية ’الأحمر والأسود‘ الصادرة عام 1830: ’الرواية مرآة على طريق، فحيناً تعكس سماوات زرقاء، وحيناً تعكس وحل البرك تحت الأقدام‘. ولقد كان القرن الـ20 حقبة تغير عنيف، وعليه فالتغير العنيف هو ما تعكسه رواية القرن الـ20 ليس في موضوعها وشكلها، أو ليس فيهما وحسب. وعندما يطرأ التفكك وتنعدم الثقة وينقلب العالم رأساً على عقب فهكذا تكون الرواية”، وهكذا نضع أيدينا على أولى سمات رواية القرن الـ20 بعيداً من الطول والصعوبة والغرابة، فهي رواية التفكك وفقدان الثقة واختلال العالم.

في عالم متفجر

“يرفض روائي القرن الـ20 رواية القرن الـ19 (المتزمتة أخلاقياً، المفرطة عاطفياً، المنافقة)”. ووجد روائيو القرن الـ20 في الرواية شكلاً نشأ من القرن الـ19 باعتباره “قالباً ذا حضور قوي، وفضول كبير، واعتداد بالذات ورضا عنها”، ورأوه شكلاً “مستعداً للزعزعة بل مطالباً بها لنفسه. فحطموا الرضا وزعزعوا الشكل، وأعادوا اختراع الرواية بالكامل”.

“انطوى قدر كبير من إعادة التكوين هذه على تجريد رواية القرن الـ19 من ظاهرها السطحي الرقيق، ولهذا السبب تندرج رواية الفرنسية سيدوني غابرييل كوليه إلى فئة رواية القرن الـ20، لأنها تكتب فيها عن الجنس بتهكم من شأنه – على حد تعبير فرانك – أن يخجل الكاتبة البريطانية جورج إليوت”. ويندرج في الفئة أيضاً جويس “الذي لم يضارعه كتاب كثر في افتقاره إلى الرقة، ففي ’عوليس‘ أوصاف صريحة للتغوط والتبول والاستمناء والحيض وإخراج الريح والتجشؤ وتنظيف الأنف بالأصابع جعلت فرجينيا وولف تصف الرواية بالابتذال، وتقول إنها أكرهت نفسها على قراءتها”.

“لقد كان رفض التزمت الأخلاقي والنفاق في رواية القرن الـ19 هو السبب في احتواء قائمة فرانك على رواية ’اللاأخلاقي‘ لأندريه جيد و’صباح الخير منتصف الليل‘ لجين ريز، وكلتاهما قصة تعيسة يرويها تعساء. فليست غاية رواية القرن الـ20 أن تدخل السرور على الناس وإنما هي ’قالب متفجر في عالم متفجر‘”.

 

يكتب لويس ميناند أنه “في نحو عام 1900 بدأ الكتاب يجربون في خصائص شكلهم التقليدية، وذلك ما كان يفعله في الوقت نفسه الرسامون والنحاتون والموسيقيون ومصممو الرقصات وحتى الفنانون في وسيط السينما الجديد، واللافت في أمر هذه الفترة أن التغير الفني في أوروبا والولايات المتحدة لا يبدو استجابة لأحداث العالم. قد يكون من البدهي أن نربط الحركات التي تقوض المفاهيم التقليدية للكيفية التي تنبغي بها قراءة الرواية أو لما يجب أن يبدو عليه الرسم بما يقع في العالم من تغير أليم، لكن الأرجح أن نرى المخاطرات الفنية في الأوقات الرغدة أكثر مما نراها في الأوقات السيئة. فالفن الجديد يحتاج إلى بنية أساسية ثقافية، من ناشرين وأصحاب قاعات عرض ومديري أعمال فنية ونقاد ولجان تحكيم ومحررين وأصحاب متاجر، بل وأساتذة جامعة، للمساعدة في تكوين جمهور للفضائحيين ومحطمي التقاليد، ومن الصعب تجميع هؤلاء بينما تتساقط القنابل”.

ويدلل ميناند بإقناع على أن الحرب لم يكن لها علاقة بالتجديد في الفنون، إذ بدأت إرهاصات التغيير في أواخر القرن الـ19 فعلاً، وليس أدل على ذلك من ابتداء كتاب “أغرب من الخيال” نفسه برواية لدوستويفسكي.

ولكن ما الذي بقي رابطاً رواية القرن الـ20 بروايتي القرنين السابقين؟ يكتب ميناند أن “فرانك يعتقد أن المهمة التي يوعزها واط إلى رواية القرن الـ18، وهي أن تكون تقريراً كاملاً وأصيلاً عن تجربة بشرية، لم تتغير. الأمر أنها أصبحت إشكالية. فبعد عام 1914 أصبح التاريخ أقل يقينية، والسطح أكثر خداعاً، وأعراف الحكي الروائية باتت بالية. يقول فرانك إن إحساساً بالرواية باعتبار أنها في آن واحد ذات أهمية هائلة، وباعتبار أنها طريقة حاسمة لتصحيح الأمور، وبأنها أيضاً مشوهة، هو الذي يلهم الروائيين في هذا الكتاب ويسيطر عليهم”.

وأخيراً يختلف ميناند مع فرانك في ما يتعلق بالرواية “الآن”، أي في القرن الـ21، ففي حين يرى فرانك أن الرواية لم تعد في مركز الحوار الثقافي، وأن الناس الآن يتابعون المسلسلات عبر المنصات والقنوات أكثر مما يقرأون الروايات أو يعنون بها، فإن ميناند يرى أن الرواية اكتسبت حياة جديدة من خلال هذه المنصات نفسها.

والآن “تبدي المسلسلات في بعض الأحيان درجة عالية من الفنية. ولعلنا نشاهدها دونما تفكير نسبياً، بين العشاء والسرير، ولكن هكذا قرأ الناس ديكنز وبلزاك في القرن الـ19. فلم يخطر لأحد أن يأتي يوم تصدر فيه طبعة نورتن النقدية من ’أوليفر تويست‘، لكنها الآن موجودة. وبعد أن ينتهي هذا القرن قد يعمد ناقد مبدع مثل إدوين فرانك إلى انتقاء أفضل العروض التليفزيونية وتأليف كتاب عنها، فقد تصبح نوعاً من الأدب”.

والحق أنني لا أعرف أيهما أشد سوداوية في نظرته إلى واقع الرواية الآن: الكاتب الذي يراها مهمشة بعيدة من مركز الحوار، أم الذي لا يكاد يرى مستقبلاً لها إلا عبر وسيط المسلسل الدرامي؟

العنوان: STRANGER THAN FICTION: Lives of the Twentieth-Century Novel

تأليف: Edwin Frank

الناشر:  Farrar, Straus and Giroux

نقلاً عن : اندبندنت عربية