الذكاء الاصطناعي فرصة استراتيجية لإحداث تحول نوعي في القضاء

الذكاء الاصطناعي فرصة استراتيجية لإحداث تحول نوعي في القضاء

أكد القاضي الدكتور جمعة محمد راشد الرميثي، رئيس محكمة أبوظبي الاتحادية الابتدائية، أن الذكاء الاصطناعي فرصة استراتيجية لإحداث تحول نوعي في المنظومة القضائية، من خلال تسريع الإجراءات، وتحسين جودة الأحكام، وتعزيز الشفافية، لافتاً إلى أن «العدالة اليوم لم تعد تقاس فقط بنتيجة الحكم، بل بسرعة الوصول إليه، وشفافية إجراءاته، وتكافؤ أدواته، وهنا تتجلى القيمة المضافة للذكاء الاصطناعي في تحقيق عدالة رقمية مستدامة تعزز ثقة المجتمع بالمؤسسة القضائية، وتدفع نحو نهضة قانونية مؤسسية تواكب العصر الرقمي».

وقال القاضي الرميثي: «إن دمج الذكاء الاصطناعي في العمل القضائي لا يعد مجرد تحديث تقني، بل تحولاً جذرياً نحو قضاء أكثر كفاءة، وشفافية، وشمولاً، إلا أن هذا التحول يتطلب وجود إطار قانوني وأخلاقي راسخ، يضمن أن تبقى العدالة في يد الإنسان، وأن يكون الذكاء الاصطناعي أداة داعمة تعزز من قيم الحياد والإنصاف، لا أن تستبدل العنصر البشري في اتخاذ القرارات القضائية».

ولفت إلى أن تحقيق طموح الدمج، يستوجب اعتماد خطة تطبيق تدريجية ومدروسة، تضمن التوازن بين القيم القانونية التقليدية ومتطلبات التحول الرقمي، فالقضاء الرقمي ليس مجرد منصة إلكترونية، بل منظومة عدلية تفاعلية قادرة على الاستباق والكفاءة، تؤسس لعدالة ذكية تتسم بالسرعة، والشفافية، وموثوقية الفصل في النزاعات، بما يعزز من فعالية المنظومة القضائية ويرسخ ثقة المجتمع بها.

تحديات

وحول الآثار القانونية والأخلاقية لاستخدام الذكاء الاصطناعي في القضاء في ضوء التوسع المتسارع في تطبيقات الذكاء الاصطناعي داخل المنظومة القضائية، قال القاضي الرميثي: «تبرز تحديات قانونية وأخلاقية تستدعي معالجة دقيقة ومتوازنة، تضمن الاستفادة من هذه التقنيات ضمن إطار يحافظ على الحقوق الأساسية والمبادئ التي أقرها ميثاق الإمارات لاستخدام الذكاء الاصطناعي، ومن أبرز هذه التحديات «المسؤولية القانونية عن قرارات الذكاء الاصطناعي»، حيث يُطرح تساؤل جوهري في هذا الشأن من يتحمل المسؤولية في حال ترتب ضرر على قرار قضائي نتج عن توصية أو تحليل صادر عن نظام ذكاء اصطناعي؟

كما تشتمل التحديات على قضايا الخصوصية وحماية البيانات، إذ يعتمد الذكاء الاصطناعي على تحليل كم هائل من البيانات، بعضها شخصي أو حساس بطبيعته مثل سجلات جنائية، بيانات صحية، أو معاملات مالية، وهنا تظهر إشكالية ضمان سرية هذه البيانات، والتأكد من عدم إساءة استخدامها أو اختراقها، ما يقتضي وضع ضوابط قانونية صارمة لمعالجة البيانات ضمن بيئة الذكاء الاصطناعي القضائي».

وأوضح أن غياب التفسير البشري للقرارات الآلية، يعد أحد الانتقادات الأساسية للذكاء الاصطناعي، خصوصاً في التطبيقات القضائية، والذي يتمثل في صعوبة تفسير بعض مخرجاته أو فهم آلية اتخاذ القرار، وهذا قد يتعارض مع مبادئ العدالة المفتوحة والشفافة التي تتيح للمحكوم عليه فهم أسباب الحكم والطعن فيه، مما يُُوجب إيجاد أدوات تقنية وقانونية تضمن قابلية القرارات للفهم والمراجعة.

وأشار القاضي الدكتور جمعة محمد راشد الرميثي، إلى أهمية التوازن بين السلطة القضائية والتدخل التكنولوجي، فعلى الرغم من أهمية التكنولوجيا في دعم القضاء، يجب الحذر من تغولها على سلطة القاضي الإنسانية، فالقضاء ليس عملية حسابية بحتة، بل يتطلب تقديراً ظرفياً وإنسانياً للحالات، الأمر الذي يتطلب أن يبقى القاضي هو صاحب القرار النهائي، مع استخدام الذكاء الاصطناعي كمساعد لا كبديل، لضمان الحفاظ على البعد الإنساني في تحقيق العدالة.

مقترحات رئيسية

وحدد القاضي الرميثي 7 مقترحات رئيسية تسهم في خلق تحول قضائي رقمي شامل ومستدام في ظل تزايد الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في المجالات العدلية، تشتمل على «تطوير تشريعات مرنة ومحدثة».

وأوضح أن دمج الذكاء الاصطناعي في القضاء يتطلب وجود بيئة قانونية تواكب هذا التقدم، فالتشريعات التقليدية قد لا تتلاءم مع المستجدات التقنية، وعليه يجب سن قوانين تنظم استخدام الذكاء الاصطناعي في إصدار الأحكام، وحماية البيانات، وتحديد المسؤوليات القانونية عن الأخطاء التقنية، مع مراعاة أن تكون هذه القوانين مرنة لتواكب تطور التقنية بسرعة، من خلال اعتماد نهج «القوانين التجريبية».

وأشار إلى أهمية إدراج الذكاء الاصطناعي ضمن المناهج التدريبية للقضاة، حيث يعد تأهيل الكوادر القضائية والإدارية على استخدام التقنيات الذكية شرطاً أساسيا لنجاح التحول الرقمي في المنظومة القضائية؛ فغياب العنصر البشري المؤهل يجعل أي تطور تقني محدود الجدوى.

وأضاف: من هنا تبرز الحاجة إلى برامج تدريبية متخصصة تشمل مهارات تحليل البيانات القضائية، والتعامل مع أدوات المساعدة القانونية الذكية، والتفاعل الفعّّال مع الأنظمة الرقمية، كما يستوجب الأمر دمج هذه المهارات ضمن مناهج المعاهد القضائية والكليات القانونية، لضمان إعداد كوادر قادرة على مواكبة التحول وتحقيق العدالة ضمن بيئة رقمية متقدمة.

بيانات

وأكد القاضي الرميثي ضرورة «إنشاء قواعد بيانات قابلة للتحليل الذكي»، إذ تعد البيانات حجر الأساس لتقنيات الذكاء الاصطناعي، ما يستلزم بناء قواعد بيانات مركزية وشاملة تضم السوابق القضائية، والأحكام الصادرة، والبيانات الإحصائية لأداء المحاكم والقضاة، والتشريعات، على أن تكون هذه البيانات مهيكلة وقابلة للمعالجة بالخوارزميات الذكية.

وتتضمن المقترحات «إطلاق نماذج لمحاكم ذكية تجريبية»، وقال: «يمكن البدء بتجربة نماذج المحاكم الذكية في أنواع محددة من القضايا ذات الطابع غير المعقد، مثل القضايا المرورية أو بعض قضايا الأحوال الشخصية، وتهدف هذه النماذج إلى التحقق من الكفاءة وقياس رضا المستخدمين قبل التوسع في التطبيق».

ولفت إلى أهمية «تعزيز التعاون مع شركات التقنية ومراكز البحث»، موضحاً في الوقت نفسه بأنه لا يمكن للتحول الرقمي في المنظومة القضائية أن يحقق أهدافه بمعزل عن القطاعين التقني والبحثي، ما يستدعي إبرام شراكات استراتيجية مع شركات البرمجيات والتقنيات المتقدمة، إلى جانب مراكز الأبحاث الجامعية المتخصصة في القانون والتكنولوجيا.

وتابع القاضي الرميثي: «يسهم هذا التعاون في تطوير حلول رقمية مخصصة تلائم خصوصية البيئة القضائية المحلية، بجانب إجراء دراسات تقييمية حول فاعلية استخدام الذكاء الاصطناعي في العمل القضائي».

وبين أن «إنشاء المختبر القضائي للذكاء الاصطناعي» سيمثل خطوة استراتيجية لاستكشاف وتقييم الإمكانيات الفعلية لتوظيف الذكاء الاصطناعي في المجال القضائي، إذ يعمل على دراسة أفضل مجالات الاستخدام، وتحديد الأولويات التقنية والتشريعية، مع تطوير نماذج أولية لتطبيقات ذكية تدعم عمل القضاة، وتسهم في تسريع الإجراءات، وتحقيق اتساق أكبر في إصدار الأحكام.

وأكد ضرورة أن يصاحب إنشاء هذا المختبر مختبر آخر تحت مسمى «مختبر الذكاء الاصطناعي الجنائي»، والذي يهدف إلى تطوير أدوات وتقنيات ذكية لدعم التحقيقات الجنائية، مثل تحليل الأدلة الرقمية، والتعرف على الأنماط الإجرامية، والتنبؤ بالسلوك الإجرامي، بما يرفع من كفاءة العدالة الجنائية وسرعة الوصول إلى الجناة.

أدوات

ونوه بأن الذكاء الاصطناعي في ظل التحول الرقمي العالمي المتسارع، يبرز بوصفه من أبرز الأدوات التحولية التي تعيد تشكيل آليات العمل في مختلف المؤسسات الحكومية والخاصة، وعلى رأسها المنظومة القضائية، مضيفاً بأن استراتيجية الإمارات الوطنية للذكاء الاصطناعي 2031 تمثل ركيزة محورية في دعم مسار التحول نحو القضاء الذكي، حيث تعكس الرؤية الطموحة للدولة في أن تصبح منصة عالمية رائدة في تطبيقات الذكاء الاصطناعي، ليس فقط في المجالات الاقتصادية والتقنية، بل أيضاً في البنى المؤسسية القضائية.

أتمتة

وقال القاضي الرميثي: «يظهر ذلك من خلال أهداف الاستراتيجية التي تتقاطع بشكل مباشر مع متطلبات تطوير المنظومة القضائية الرقمية، حيث تسهم أهداف الاستراتيجية الثمانية في تمكين القضاء من الانتقال إلى مرحلة أكثر تطوراً وكفاءة، بينما يدعم الهدف الرابع من الاستراتيجية اعتماد الذكاء الاصطناعي في الخدمات الحكومية، بما يشمل أتمتة الإجراءات القضائية، وتوفير خدمات التقاضي عن بعد، وتطوير منصات المحاكم الذكية».

وبيّن أن الاستراتيجية تدعو إلى تطوير منظومة خصبة للذكاء الاصطناعي من خلال إنشاء مسرعات وطنية وتوفير بيئة داعمة للابتكار، وهي فرصة لتبني مشاريع قضائية تجريبية تعتمد على أدوات التحليل التنبؤي والمساعدات الذكية للقضاة، وتحليل الأحكام القضائية لاستخلاص مؤشرات الأداء وتحسين معايير الاتساق القضائي.

المصدر : البيان