قبل أيام من الآن وفي معرض حديثنا في هذه الزاوية تحديداً، عن ليوناردو دا فنشي وفنونه النهضوية التي افتتحت الحداثة في مجالات إبداعية متنوعة، ذكرنا العمراني النهضوي برامانتي الذي أشرنا إلى كونه واحداً من كبار المبدعين في مضمار الهندسة العمرانية خلال تلك المرحلة الصاخبة من التاريخ الإنساني، المرحلة التي ينظر إليها المؤرخون باعتبارها تأسيسية في تاريخ انتقال البشرية من تفكير وذهنيات، سيطر عليها الجمود – واتسمت بقدر كبير من نزعات تقليدية توقف فيها تطور الفنون والآداب بشكل قد يبدو لنا اليوم غير قابل لتفسير منطقي – إلى نوع جديد من التفكير، أو بالأحرى إلى استعادة الإنسانية أنماطاً ذهنية تعتمد مقاييس إنسانية في ما يتفاعلون معه من تطورات خلاقة في ميادين عدة، ربما يصح القول إنها تعود بجذورها الحقيقية إلى العصور الإغريقية الأولى.

والحقيقة أن تلك المعايير يكاد يلخصها الفيلسوف الألماني هيغل (الجزء الذي يكرسه للهندسة العمرانية بوصفها تنتمي إلى جماليات مطلقة في موسوعته عن علم الجمال) في نظرته إلى المدينة وكيف جرت أنسنتها من خلال عمرانها الذي كان سكانها يعدونه مقياساً لخلودهم الجماعي من خلال خلودها، من دون النظر إلى خلودهم الذاتي الخاص. ففي نهاية المطاف، وكما يشرح لنا هيغل كان مواطن المدينة، ولا سيما في الحقبة الذهبية لازدهار هذه الأخيرة، يرى في إتقان عمرانه رداً على سؤال الموت والفناء، إذ كان يجد في خلود المدينة واتساع عمرانها وبهائه تعويضاً له عن فنائه الذي لم يكن ثمة مهرب منه إلا ببقاء المدينة وروعة عمرانها، كتعويض على عجزه هو عن ذلك. ويخلص هيغل هنا إلى أن ذلك سبب أساس يفسر روعة عمران المدن الإغريقية وحتمية أنسنتها.

الرومان يكتشفون العلاقة

والحقيقة أن تلك العلاقة الحتمية بين فكرة المدينة وفكرة الخلود ستكون ذات أهمية فائقة إن لم يكن بصورة مطلقة، ففي الأقل في الهالة التي أسبغها النهضويون على عمران المدينة فسبقت تفسير هيغل بقرون، بيد أن هيغل سيكون بالطبع أول المؤكدين لأهميتها في التاريخ الإنساني حتى وإن لم يكن أول المشتغلين على أساسها. ففي النهاية يمكننا أن نقول إن أول أولئك كان واحداً من أبناء المهنة وهو بالتحديد العمراني، النهضوي بدوره بالاديو، الذي سيلي برامانتي من ناحية التراتبية التاريخية ولن يكتفي بأن يشتغل في العمران على طريقة ذاك الذي كان معلمه المباشر، بل سيقدم ربما ما يمكن اعتباره أول تنظير في التاريخ للعلاقة بين المدينة وعمرانها، كما بين العمران كإبداع فردي وبين الحضارة في بقعة معينة والتاريخ الصاعد إلى الأمام.

وهو قدم ذلك التاريخ من منطلقين: المنطلق الشخصي الذاتي من خلال تجربته الخاصة، والمنطلق التاريخي العام من خلال حديثه البالغ الأهمية الموضوعية إلى جانب إسهامه بالوفاء لأستاذه برامانتي، وهو أمر حفظه له التاريخ من منطلق أخلاقي سيشدد عليه جورجيو فازاري مؤرخ الفنون النهضوية الذي سيخبرنا أنه كان شديد الاعتماد على بالاديو في مجال تأريخه لحياة برامانتي وإنجازاته العمرانية. ومن المؤكد أن ذلك الاعتماد إنما مر عبر المؤلف الرئيس لبالاديو والمعنون “هندسة عمرانية” ويعتمد في الغرب منذ صدوره للمرة الأولى بالإيطالية عام 1570 كمرجع أساس في شرح الفنون العمرانية وتاريخها.

 

نهضة العمران بحسب بالاديو

ففي الفصل الـ17 من الجزء الرابع من هذا السفر التأسيسي، يخبر بالاديو قراءه بواقع تاريخي لا شك أن معظمهم كان يعرف مقدمته قائلاً، إنه حين ابتدأت عظمة الإمبراطورية الرومانية بالتدهور بفعل الغزوات الهمجية المتتالية التي راحت تقضم تلك الإمبراطورية زاحفة إليها من مناطق الشمال، حدث للعمران كما لمختلف أنواع الفنون والعلوم أن بدأت تتدهور بدورها، بعدما راحت تفقد بهاء حسنها المبدئي وقد عملت على تشويهها شتى العوامل المتضافرة، للحط من شأنها، إذ لم يبق ثمة أي أثر يذكر مما كان يميز اتساقها الرائع وبالتحديد أساليب بنائها الخلاقة. “باختصار، راح الجهل والذوق السيئ يتضافران لحرمانها من كل ما هو رائع وبديع” كما يضيف فازاري معلقاً.

ولكن “وكما يعلق بالاديو بدوره: بما أن كل شؤون العالم تعيش عادة وعلى رغم كل التوقعات المتشائمة، ثورة متواصلة تقلب الأمور بين ليلة وضحاها، فترتقي الأمور من الحضيض إلى أعلى الذرى وأكمل السمو، لتهبط بعد ذلك إلى وهدة الجهل والقبح، حدث للهندسة العمرانية في مرحلة شديدة القرب منا، أي تحديداً في زمن آبائنا الذين كانوا خارجين لتوهم من زمن مظلم، كانت الهندسة قد غاصت فيه إلى الحضيض الأسفل، حدث أن راح هذا الفن يستعيد ظهوره من جديد ليبدو وكأنه يعيش نهضة جديدة توصله إلى نور مستعاد”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

دور المعلم

وهنا يتابع بالاديو أن خلفية هذا النهوض تكمن في أنه خلال بابوية جوليوس الثاني، ظهر المعماري الفنان برامانتي بوصفه المعماري الأكثر تميزاً بين أبناء جيل بأسره من زملاء له ينتمون إلى “تيار متكامل من المعماريين المحدثين لكنه كان بالتأكيد الأكثر قدرة من بينهم، على رصد إنجازات الأجيال المتعاقبة من قدامى المعماريين الرومان الذين شيدوا في روما كما في غيرها من المدن الإيطالية، أعداداً كبيرة من الصروح الهائلة وكان في مقدمهم برامانتي الذي بنى ما يماثلها، مفسحاً المجال من بعده لكبار ساروا على خطاه ومنهم ميكيل أنجلو وجاكومو سنساريو وبلداسار دا سيينا وأنطونيو دي سان غالو ومكيل دي سان ميكيلي وجورجيو فازاري وغيرهم من الذين ندين لهم بأروع العمارات في روما وفلورنسا وميلانو، كما في مدن إيطالية أخرى. ونذكر هنا بأن معظم هؤلاء كانوا إضافة إلى ذلك رسامين ونحاتين وأدباء يجري الجمال في عروقهم، علماً أن كثراً منهم لا يزالون أحياء بيننا.

وهذا على أية حال يعيدنا إلى موضوعنا الأساس بالنظر إلى أن برامانتي كان أولهم تاريخياً وأعظمهم من ناحية المهارة والمعرفة، فكان هو أجرأ وأسبق المجيدين في اختلاق منتجات ذلك العمران الذي سرعان ما بات قدوة لتابعيه وسيراً على خطى القدماء الذين بقيت أعمالهم الكبيرة بعيدة من الأنظار، وحان الأوان اليوم لحسبانها بكل وضوح في صفوف أعظم مبان عرفتها هذه البلاد منذ أعرق الأزمنة”. والحال أن بالاديو، إذ يقول هذا موفياً معلمه الكبير حقه، يعيد مكانة معلمه إلى ذروة عجزت الظروف التاريخية عن تحديدها، وبخاصة أن بالاديو يركز حديثه بعد ذلك على كاتدرائية سان جورجيو ماجيوري التي لم يبنها هو نفسه، في البندقية، إلا في استلهام منه للمخططات التي كان معلمه قد أنجزها في الفترة الأخيرة من حياته كي تشاد على أساسها كاتدرائية سانتا ماريا في الفاتيكان. لكننا نعرف أنه رحل عن عالمنا قبل أن يشرع في التشييد فاستكملت بعد رحيله كما استلهمها عدد من تلامذته في مشاريع لهم مقبلة وكان من بينهم بالاديو أكثرهم اعترافاً بفضل ذلك المعلم.

نقلاً عن : اندبندنت عربية