التساؤلات في شأن مستقبل سوريا أكثر من الإجابات، والأسئلة تشغل جميع المعنيين في الحكومات في المنطقة وخارجها ولدى دوائر البحث والإعلام ولدى المواطنين في سوريا وخارجها، والأسئلة الكبرى من عينة هل سيستقر النظام الجديد؟ أو هل سيتمتع بقدر من الاستمرارية؟ وهل ستنجح التجربة في إنتاج نموذج حكم رشيد؟ وهل ستمتد آثارها للتأثير في نظم سياسية أخرى في المنطقة أم لا؟ ومن الواضح أن هذه الأسئلة تحديداً، وجدت من البعض إجابات سريعة ومن البعض الآخر إدراكاً عميقاً بالمعضلة.
من الواضح أيضاً أن التساؤل الأول هو الذي يشغل معظم الناس، وأن التعاطي مع هذا البعد تباين بحسب التوجهات والمصالح، ما بين تيارين حددا مواقفهما بناءً على التوقعات في شأن سؤال النجاح، وفي الواقع أن هذا النجاح له دلالتان، أولاهما مجرد الاستقرار في الحكم لفترة من الوقت، بينما الدلالة الثانية مما نقصده بالنجاح هو تقديم نموذج سوري للحكم قابل للاستمرارية وتحقيق مصالح الشعب السوري، ويكون ملهماً لشعوب المنطقة، وهو ما يقودنا إلى البعد أو التساؤل الثالث المتعلق بالتداعيات على بقية المنطقة.
معضلة النموذج الإسلامي
ولأن الأسئلة متداخلة ويقفز في قلبها أصعبها، وهو هذا السؤال: هل يمكن لقادة الميليشيات وعلى رأسهم أحمد الشرع، الذي تحيط به توقعات وكثير من التفاؤل واحتفاء ضمني غربي واضح، وإلى حد ما من قطاعات ودوائر عربية عديدة، أن يقدم هذا النموذج الناجح للحكم الذي يطوي صفحة الماضي ويعطي دفعة جديدة لمفاهيم الإسلام السياسي.
والقضية مطروحة على العقل العربي والإسلامي منذ عقود، ولها زوايا عدة، وعرفت أول بلورة محددة منذ طرح حركة “الإخوان المسلمين” في مصر، التي عاشت كحركة معارضة عقوداً، وتمكنت من الوصول إلى الحكم فترة عام واحد وأُطيحت بحركة شعبية واسعة، ووصلت إلى الحكم في تونس حيث أخفقت أيضاً، وأزيلت بالانتخابات لاحقاً.
وفى حال السودان وصلت إلى الحكم متحالفة مع انقلاب عسكري للرئيس السابق عمر البشير، وحكمت أعواماً طويلة، وأخفقت، ولم تستطع تقديم نموذج سياسي مستقر، بل تركت إرثاً مؤلماً للشعب السوداني.
ويراهن البعض بطرح النموذج التركي لحزب الرئيس رجب طيب أردوغان “الحرية والعدالة”، ولكونه خلف القيادة المسيطرة في سوريا سيعني ذلك إمكانية استنساخه في دمشق.
من ناحية أخرى أسفر توظيف الدين في السياسة أو الرؤية السياسية للإسلام أيضاً نموذج الولي الفقيه أو النموذج الشيعي الإيراني.
هنا يجب مناقشة ثلاثة أبعاد في الأقل، وهي فكرة الحاكمية وكل من نموذج تركيا ونموذج إيران. أما الحاكمية فلا أظن أن أحداً يجادل في أنها قلب فكرة الحكم السياسي في العصر الحديث، التي جاء بها تنظيم “الإخوان المسلمين” بجذوره الفكرية منذ كتابات أبو الأعلى المودودي، والتي انتقلت منها إلى كل التنظيمات المتشددة وعلى رأسها “القاعدة” وتنظيم “داعش”، فقبل طرح مسألة الخلافة ومكانتها في هذا الفكر الإسلامي السنى يجب الانطلاق من أن الفكرة المحورية هي فكرة أن الحاكمية لله وليس لبشر ولا دستور، لذا فالفكرة تؤسس لحكم سياسي الأساس فيه لم يكن الفكرة النيابية، وعندما عدل تنظيم “الإخوان” من رفضه فكرة التمثيل الديمقراطي النيابي فقد كان الهدف أن هذه مرحلة انتقالية وليس بعدها إلا ترسيخ الحكم، أما من لم يقبل هذه المرحلة الانتقالية فهم الذين تبنوا الأفكار الأكثر تشدداً مثل “القاعدة” وتنظيم “داعش” و”طالبان” وغيرها.
النموذج التركي مغاير لهذه الخلفية، فقد بدأ من إطار آخر لحكم علماني يرفض توظيف الدين كان يعايش صراعاً تاريخياً من المكون العسكري المؤسس لكل من الدولة والعلمانية وما بين الممارسة الديمقراطية، وجاءت التيارات السياسية والاجتماعية التي أرادت أن تنهى حالة الاغتراب السياسي والفكري التي رسختها التجربة الأتاتوركية، من هنا كان حرص أردوغان على إبراز مفهوم العلمانية وأن حكمه لا يستند إلى ثيوقراطية دينية. إذاً، فالتجربة بالأساس حتى الآن تأخذ المكون الثقافي المتعلق بالهوية والمحتوى الأيديولوجي لفكرة الإمبراطورية التي يجد فيها الحكم صدى وجاذبية شديدة لدى شعب يميل لهذا المكون.
ويشكل النموذج الشيعي السياسي الإسلامي طريقاً آخر له سماته الخاصة وتشابهات، فهو أيضاً يقبل الفكرة البرلمانية، ولكنها شكلية لا تزيد على تحسين شكل النظام، ويستبدل بفكرة الخلافة فكرة أعمق في التراث الفكري والسياسي الشيعي وهي فكرة الولي الفقيه، وهنا تصدر الفتوى من المرشد العام للثورة الخميني ثم خامئني حالياً لتكتسب قوة ووزناً سياسياً في حقيقة الأمر تفوق الوزن النظري لقرار الخليفة، وكلاهما يمارس سلطة مطلقة باسم الدين.
ومعنى ما سبق ببساطة أن فكرة الحكم في مختلف التطبيقات السنية والشيعية السياسية لا تتطابق مع الحال التركية، التي ما زالت تحافظ على سمة الحداثة على رغم كثير من قرارات القيادة التركية الحالية، والتي تتوافق أيضاً مع اجتهادات لمفكرين إسلاميين كثر حاولوا عمل المواءمات بين التصور الإسلامي ومشروع الدولة الحديثة العلمانية، ولكن ما قد ينساه البعض هنا أن كل التنظيمات المتشددة التي تستخدم الرؤية الإسلامية لم تعلن تراجعها عن رؤية الحاكمية، ولم يثبت أنها تستخدم الآليات المختلفة حتى لو ديمقراطية للوصول إلى الحكم ثم تطبيق رؤيتها.
وهنا نجد الحال السورية الراهنة مزيجاً من استخدام القوة العسكرية والدعم الخارجي التركي، في وقت لم تعلن أي من هذه التنظيمات التي تشارك الشرع حالياً، ولا حتى جماعته نفسها، مراجعة منطلقاتها الفكرية على رغم اللغة المعتدلة نسبياً الصادرة عن الشرع وحده حتى الآن.
طريق الاستقرار الصعب
وفي وقت تزيد فيه المراهنات المتباينة حول مسار التجربة السورية الوليدة، يدرك الجميع أن الصعوبات لا حصر لها، وربما فقط تطغى بعضها على الجوانب الأخرى لبعض الوقت، وأبرزها طبعاً المسألة الكردية والاشتباكات المتكررة بين الفصائل التي تحكم الآن و”قوات سوريا الديمقراطية” “قسد”، والحساسيات الممكنة بين تركيا من جانب والولايات المتحدة وإسرائيل من جانب آخر.
ويتحسب الجميع لاحتمالات صدام بين الفصائل المسلحة المختلفة وهي مسألة واردة، حتى لو كانت كلها تابعة وتحت السيطرة التركية، ويدور التساؤل كذلك عن فكرة دمج الفصائل المتعددة في الجيش السوري، وما إذا كان مثل هذا الأمر قد نجح سابقاً وما شروط ذلك.
كما أن هناك عناصر أجنبية مسلحة من خارج سوريا وتغلب عليها اتجاهات في معظمها ربما أكثر تشدداً وتطرفاً من الشخصية السورية، وهل سيتم احتواؤها في الجيش وتجنيسها؟ علماً أن هذا سيتسق مع المحتوى الأيديولوجي لفكرة المواطنة الإسلامية.
وإذا كان من المرجح خروج القوات الروسية والإيرانية تدريجاً ومعها “حزب الله” من سوريا، فإن الصورة أكثر تعقيداً بالنسبة إلى الميليشيات الشيعية السورية والعلوية، وكذلك للعناصر المسلحة السنية المنضمة إلى صفوف المنتصرين وما يترتب على كل ذلك في ما يتعلق بصورة التفاعلات المستقبلية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فهل يمكن لقوى سياسية مدعومة من الخارج أن تبني مجتمعاً سوياً؟
لا تقتصر التحديات التي تواجه الحكم السوري الجديد على الأبعاد السابقة التي عرضنا لها باختصار من دون تفاصيل، وإنما ثمة قضية محورية أخرى، وهي مسألة أدوار القوى السياسية المحلية المرتبطة بقوة خارجية ومدى قدرتها على إخراج نماذج سياسية ناجحة حتى على شاكلة القوة الخارجية.
وفى الحقيقة أننا أمام نموذج شديد الوضوح في هذا الصدد، نحن أمام قوى مسلحة سورية ومعها عناصر أجنبية تأتمر بالقرار التركي الذي لا يتطابق كلياً مع المصالح السورية، ويكفي هنا تذكر الأطماع الجغرافية التركية في أراضي سوريا، ومشكلة المياه كذلك، وتشكل – أي تركيا – نموذجاً سياسياً مغايراً لكل العالم الإسلامي في ما يتعلق بحركة سياسية ترفع الشعارات الإسلامية، لكنها تمارس السياسة في بلادها على نسق النموذج الديمقراطي الغربي، وتوظف هذه الشعارات لخدمة نفوذها السياسي والاقتصادي الخارجي، وتستخدم قوى سياسية تحمل مضموناً فكرياً يخالف المضمون التركي، ليبقى السؤال من سيستطيع تغيير من؟
إذا نجحت تركيا في تطويع هذه الفصائل باتجاه نموذج سياسي آخر معتدل وأكثر حداثية، فإن هذا سيعني تياراً سياسياً آخر مختلفاً تماماً عن نماذج الإسلام السياسي العربية، إلا أن المؤشرات التي تخرج من وزراء النظام الجديد لا توحى بهذا حتى الآن، بل تشير الشواهد إلى أننا أمام تجربة غير واضحة المعالم ولا يمكنها استنساخ التجربة التركية بما لها وما عليها. والتفاصيل كثيرة وأبرزها حديث أحمد الشرع عن فترة انتقالية مدتها أربعة أعوام، وهي فترة طويلة وقد تؤدى إلى تفاعلات معقدة كثيرة.
ثم تبقى الأسئلة العديدة المرتبطة، هل يمكن أن تؤدى خدمة مصالح طرف خارجي إلى بروز نظام سياسي متماسك وقابل للحياة، التجارب التاريخية لا تقدم أي دليل على صحة هذا.
ومع كل هذه الاعتبارات وغيرها وعلى رأسها معضلة إعادة الإعمار تظل التساؤلات أكثر من الأجوبة.
نقلاً عن : اندبندنت عربية