كانت قهوتها الصباحية الخيط الأول الذي دلها على حقيقة مرضها. في مطلع فصل الصيف، أعدت ريبيكا جونز قهوتها كالمعتاد خلال الساعة الثامنة صباحاً، وتناولت الرشفة الأولى بعد طول انتظار بيد أن الطعم كان غريباً. “كان مذاق القهوة مريعاً”، كما تقول. ولكن سبق لها أن اختبرت المذاق عينه خلال عام 2020 [خلال الجائحة]. “وفي هذه اللحظة عرفت أنني مصابة بكوفيد”.
خلال الصيف الذي شهد اضطرابات عدة هذا العام كان “كوفيد” يتربص بهدوء في حياة كثير من الناس. وقبل أربعة أعوام كان الشعور بضرورة اتخاذ إجراءات عاجلة ما زال في مهده. لقد لجأنا إلى عمليتي إغلاق أخريين على مستوى البلاد، وبلغت الوفيات داخل المملكة المتحدة 227 ألف شخص بحلول مايو (أيار) 2023. وفي مختلف أنحاء العالم تخطى هذا العدد 7 ملايين وفاة. ارتدينا الكمامات وتباعدنا اجتماعياً والتزمنا العزلة في منازلنا، وقض القلق مضاجعنا.
أما درب العودة إلى حياتنا الطبيعية المعتادة فكان طويلاً وشاقاً، ولكنها لا ريب كانت جميلة جداً بالنسبة إلى غالبيتنا. لفترة طويلة كنا نكتفي بالكلام عن أبسط ملذاتنا من عناق وعطلات إلى عدم الاكتراث في شأن مكان الكمامة الطبية. وبطبيعة الحال، كان منطقياً أن يتلاشى سريعاً قدر كبير من المتعة التي خالجتنا عند الاندفاع مسرعين من أجل احتساء شراب بعد العمل أو التسوق في متاجر المواد الغذائية من دون الوقوف في طوابير لا تنتهي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولفترة من الوقت كان مستغرباً إلى حد ما أن يخبرك أحدهم أن نتيجة فحوصه للكشف عن الفيروس جاءت وأكدت إصابته. عادت العزلة لتبدو فعلاً سخيفاً. ولكن هذه الطمأنينة ما انفكت تتراجع الآن. لقد عاد طعم الخوف ولكن هذه المرة دونما وجود نصائح وتوصيات سديدة، وإن وجدت فإنها قليلة جداً، إضافة إلى مجموعة واسعة من وجهات النظر في شأن التهديد الجديد الذي يطرحه “كوفيد طويل الأجل”.
وجدت تقارير صادرة في وقت سابق من العام الحالي أن مليوني شخص يكابدون “كوفيد طويل الأجل” في المملكة المتحدة، أي إن شخصاً واحداً من كل 20 شخصاً أصيبوا بالمرض يعانون هذه الحال الصحية. وكما صار معروفاً تتمثل الأعراض في الشعور بالتعب والصعوبة في النوم وضيق التنفس وألم في الصدر، من بين تأثيرات سلبية أخرى كثيرة. وتبقى الفئات الأكثر عرضة للخطر النساء والمدخنين أو من يعانون زيادة في الوزن، والمصابين الذين استدعت حالهم دخول المستشفى بسبب معاناتهم أعراض “كوفيد” الشديدة أو الذين يعيشون في مناطق محرومة. كذلك يؤدي العمر دوره في “استمرار الأعراض” [المسنون أكثر عرضة من غيرهم].
“على مر الأعوام القليلة الماضية تعلمنا التعايش مع داء “كوفيد 19″، يقول رئيس كلية العلوم البيولوجية في “جامعة كنت” البريطانية البروفيسور مارك واس “ولكن هذه الحقيقة لا تعني أنه لم يعد مرضاً مميتاً. والدليل بيانات صادرة عن “وكالة الأمن الصحي في المملكة المتحدة” (UKHSA) تكشف عن أنه خلال الأشهر القليلة الماضية سجلت البلاد أسبوعياً 100 إلى 200 حالة وفاة بسبب “كوفيد 19”.
يضيف البروفيسور واس “وفي حين أن “كوفيد 19″ ما زال قادراً على إزهاق الأرواح لا يختلف كثير من أعراضه اليوم عن الأعراض التي تخلفها نزلات البرد، ولكن احتمال الإصابة بـ”كوفيد طويل الأمد” موجود دائماً”.
وللأسف، ليس من السهولة إثبات أن “صيف هذا العام شهد موجة من إصابات كوفيد”، بمعنى تسجيل ارتفاع في عدد الحالات. ويعزى ذلك إلى أنه خلافاً للأوقات السابقة تراجعت الجهود المبذولة في عملية “مراقبة إصابات “كوفيد” داخل المملكة المتحدة، لذا يكون صعباً تتبع صعود موجات العدوى وهبوطها أو الوقوف على خطورة الصور المختلفة من المتحورات التي تطرأ على الفيروس، أو معرفة مدى فاعلية اللقاحات المضادة أمامها، كما علمت “المجلة الطبية البريطانية” (BMJ) أخيراً من مارك وولهاوس بروفيسور متخصص في وبائيات الأمراض المعدية في “جامعة إدنبره”.
وفي منازلنا أيضاً ليست الحال مختلفة. وصارت فحوص الكشف المنزلية فكرة ثانوية مؤجلة بالنسبة إلى معظمنا اليوم. ولا يستطيع أحد أن يجزم بأن فحوص كوفيد لم تعد لازمة. ونحن غير مستعدين لإنفاق 29.99 جنيه استرليني لشراء فحص.
وبينما يبدو صعباً تتبع الإصابات، ارتفع عدد شهادات الوفاة التي يرد فيها “كوفيد” كسبب للموت في المملكة المتحدة خلال الأشهر الماضية. وبعد صعود حاد في الوفيات سجله يناير (كانون الثاني) وفبراير (شباط) الماضيين على حد سواء، انخفضت الأرقام بصورة حادة حتى شهر مايو الماضي عندما بلغ أدنى عدد من الوفيات خلال أسبوع 93 وفاة، قبل أن ترتفع مجدداً وتتجاوز 200 حالة في عدد من أسابيع يوليو (تموز) وأغسطس (آب) الماضيين.
وإذ تشير بعض الدراسات إلى أن اللقاح ضد الفيروس يقلص خطر الإصابة بـ”كوفيد طويل الأجل” بمقدار أربع مرات، نجد أن قليلين خلال الوقت الحالي في وسعهم الحصول على جرعة معززة من اللقاح. بحلول الـ30 من يونيو (حزيران) الماضي ارتأى الخبراء الذين تستشيرهم الحكومة البريطانية في شأن اللقاحات و”وكالة الأمن الصحي في المملكة المتحدة” و”اللجنة المشتركة للتطعيم والتحصين” (JCVI) مجتمعين وقف حملة الربيع التي تقدم جرعات معززة من اللقاح المضاد للفئات السكانية الأكثر ضعفاً، ويشمل هؤلاء الأشخاص الذين تجاوزوا الـ75 عاماً من العمر، أو من يعيشون في دور رعاية أو من يعانون ضعفاً في أجهزتهم المناعية.
يقول البروفيسور واس إن برامج التطعيم ضد “كوفيد” أصبحت موسمية الآن، ولم تعلن الجهات المعنية عن أي برنامج لقاح في الخريف، موضحاً أن على من يرغبون في أخذ اللقاحات الآن دفع ما بين 45 إلى 99 جنيهاً استرلينياً ثمناً للجرعة المعززة. “إذا كنت مؤهلاً لأخذ اللقاح ننصحك بالحصول عليه. كما نعلم، المناعة التي توفرها اللقاحات تتضاءل بمرور الوقت، لذا فإن أخذ اللقاح يوفر أفضل حماية”.
ويتحدث البعض عن أن الأشخاص الذين لم يحصلوا على جرعات معززة من اللقاح ويصابون بالفيروس يواجهون لاحقاً تأثيرات سلبية بسببه. ونظراً إلى أن المعلومات المتوافرة لدينا في شأن “كوفيد طويل الأجل” تزداد مع مرور السنين، ترانا نكتشف عدداً أكبر من الحالات، أو الإصابات الأكثر خطورة.
أحد هؤلاء صديق لي. شخصت الفحوص الطبية إصابته بمتلازمة “بارسوناج تيرنر” Parsonage-Turner، علماً أنها اضطراب في الأعصاب يسبب ألماً مفاجئاً وشديداً في الكتف والجزء العلوي من الذراع، وذلك بعد التقاطه عدوى “كوفيد” خلال يونيو الماضي. على رغم أنه يتمتع بصحة جيدة ويبلغ من العمر 39 عاماً ويمارس التمارين الرياضية بانتظام، يلازمه الآن ألم ووهن مستمران وربما يطول أمدهما أشهراً عدة.
أخبرني متحدثاً عن أوجاعه “في البداية اعتقدت أنني أعاني التهاب المفاصل”. قبل ما يقارب أسبوع من شعوره “بآلام حادة عصية على الاحتمال” في كتفه بدأ يكابد ما يسمى ضبابية الدماغ بما تتسبب به من مشكلات في التفكير والذاكرة والإدراك، وكان يشعر بدوار. و”في اليوم التالي وجدتني طريح الفراش وبحلول نهاية اليوم الثالث غطى جسمي كله طفح جلدي”. واختفت الأعراض الأولى بسرعة نسبية ولكن منذ ذلك الحين أصبح يعاني حالة صحية غير قابلة للشفاء.
يتابع موضحاً “قال الأطباء إن الفيروس ربما كان يهاجم المفاصل في جسمي، مما يعني أنه يتعذر علي أن أحمل أي غرض ثقيل بذراعي اليسرى مع إبقائه على مسافة من جسدي. كانت هذه الحال منهكة للغاية، خصوصاً أن رفع الأثقال يساعدني في تجنب الاكتئاب”.
يتحدث مرضى آخرون عن الصعوبات والإحباطات عينها في عيادات أطباء الصحة العامة الذين “يتعاملون مع المرض على أنه لا يختلف عن أي داء جرثومي آخر”، أو ينتابهم “فزع وانزعاج لأن أحداً لا يخضع لفحوص الكشف عن الفيروس هذه الأيام، ويتوقع منك أن تكون بخير بعد بضعة أيام من الإصابة”. منذ عام تقريباً، عانت أوليفيا وهو اسم مستعار توخياً للخصوصية البالغة من العمر 35 سنة “كوفيد طويل الأجل”. وتقول في هذا الصدد “يبعث على الجنون أن تكون شخصاً ضاق الأمرين بسبب “كوفيد” ويخبرك أصدقاؤك أنهم يروحون ويجيئون على رغم أنهم يعلمون أنهم مصابون بـ”كوفيد”، ولا يتوانون في الذهاب إلى العمل والانخراط في نشاطات أخرى”.
ولما كان المجتمع في رأي أوليفيا “لا يعترف بأن الإصابة بـ”كوفيد” مؤذية أو ربما تكون كذلك، نجد أن حالات العدوى أعلى بأشواط مما تعتقد”. الأسبوع المقبل، تنتقل أوليفيا للعيش مع صديقها الذي أصيب بـ”كوفيد طويل الأمد” هذا الصيف. و”قررنا العيش معاً بصورة جزئية كي أساعد في رعايته. كثير من الأعراض التي يواجهها لا تختلف عن الأعراض التي واجهتها أيضاً”.
بطبيعة الحال، تأذت مسيرة أوليفيا المهنية التي كانت مضطرة إلى أخذ إجازة مدتها ثلاثة أشهر من عملها إذ تتولى منصب مديرة برنامج علها تتعافى من التجربة التي يقاسيها أيضاً ملايين الأشخاص غيرها، والتي بلغت من البعض مبلغاً كبيراً. مثلاً، ذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال” هذا الأسبوع أن “كوفيد طويل الأجل” قد أبعد مليون أميركي من مسيرتهم المهنية”. وقد تبين أنه “بعد أعوام من الإصابة، حتى مجرد الرد على البريد الإلكتروني يكون فعلاً متعباً وشاقاً بالنسبة إلى البعض”.
وفي الأسبوع الماضي، عرض برنامج “بريكفاست” الصباحي على هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” أيضاً مقطعاً مدته 15 دقيقة عن أشخاص تركتهم الإصابة بـ”كوفيد” ضحايا شعور مزمن بالإرهاق أو ما يسمى “متلازمة التعب المزمن” (اختصاراً “أم إي” ME)”. وتحدث التقرير عن حالات عدة من بينها عريسان جديدان يدعيان جيمس وكارين هارغريف.
في حين أن كارين التي أطلقت حملة “هنا من أجل مواجهة متلازمة التعب المزمن”، بهدف تعزيز الوعي بتجاربها تماثلت إلى الشفاء من الفيروس ومن الإرهاق المزمن بصورة كافية حتى صارت قادرة على العودة إلى العمل بدوام جزئي، وصار زوجها الذي كان في السابق عداء ماهراً متحمساً عاجزاً عن العمل. وتراه الآن غير قادر على الكلام حتى إنها لم تسمع صوته منذ عام، ويواجه صعوبة في البلع.
كذلك أصيبت ريبيكا جونز من بلدة هولتون لو كلاي في المقاطعة الإنجليزية لينكولنشاير بـ”كورونا طويل الأمد” عندما التقطت عدوى الفيروس للمرة الأولى. وفي النتيجة كابدت الثعلبة [فقدان الشعر من الرأس أو الجسم] والإرهاق، حتى إنها أخفقت بسبب هذه الحالة الصحية في اختبار الذاكرة الخاص بالخرف، في تجربة تصفها بـ”المرعبة”.
هذه المرة تركها الفيروس تتوهم أنها تشم “روائح غير موجودة أصلاً” إضافة إلى مواجهة اضطرابات في حواسها الأخرى. والآن ليست ريبيكا قادرة على أخذ اللقاح علماً أنها كانت مدرجة سابقاً في قائمة الفئات السكانية الضعيفة، وليس في جيبها ما يكفي من نقود لدفع ثمن لقاح خاص. وتقول إن الهبات الساخنة التي أصابتها بعد انقطاع الطمث والتي بقيت خاملة طوال عامين قبل إصابتها بفيروس “كوفيد”، عادت إليها ولم تتوقف منذ ذلك الحين.
وتقول ريبيكا “لقد أرسلت بريداً إلكترونياً إلى النائب عن منطقتي في مجلس العموم”. ولكنني تلقيت تواً رسالة ترد فيها النصيحة نفسها حرفياً التي يعرضها الموقع الإلكتروني الخاص بـ”هيئة الخدمات الوطنية” (“أن أتش أس” NHS). يتعذر علي الحصول على التطعيم، على رغم أنني أريد ذلك. ومن بين دائرة أصدقائي رأيت البعض يتجاهلون إصابتهم بـ”كورونا” ويغادرون بيوتهم. لقد فكرت في نفسي، كيف يسعك أن تكون غير مسؤول إلى هذا الحد؟”.
يقول البروفيسور واس “إذا كنت مصاباً بـ”كوفيد 19″ ننصحك كما ننصح المصابين بأي مرض من أمراض الجهاز التنفسي المعدية الأخرى. ومن الضروري الحد من انتشار هذه الفيروسات من طريق محاولة البقاء في المنزل وتجنب التواصل مع الناس وجهاً لوجه”.
ولكن مع ذلك لا يلتزم كثر بهذه النصيحة، أو أنهم يعجزون عن ذلك. لقد طاولت كثيراً فترات الغياب عن العمل، كذلك الاضطرابات التي لحقت بالحياة الشخصية كانت مهولة، وبينما ما زال أسلوب العمل الهجين يساعد في الحد من انتشار العدوى من أي نوع، يعتمد العمال على رأي وتقدير أصحاب العمل في دعم المرضى الذين يعانون حالات صحية مزمنة مثل “كوفيد طويل الأجل”. وفي الولايات المتحدة مثلاً أدرج “كوفيد طويل الأمد” ضمن حالات الإعاقة الصحية، في حين أنه غير مشمول بعد ضمن أي تصنيف طبي داخل المملكة المتحدة.
وخلال الأشهر والأعوام المقبلة، يقول الباحثون إننا سنتعرض لـ”موجات” أكثر من الإصابات لأن المرض “مدفوع بمزيج من المتحورات الجديدة وضعف المناعة الجزئي ضد العدوى”، بحسب ما أخبر البروفيسور وولهاوس “المجلة الطبية البريطانية”.
وبناء على ما تقدم، هل ستتبع الجهات المعنية نهجاً مسؤولاً وأكثر وعياً في التصدي لهذا الفيروس؟ في الواقع لا بد من ذلك، كما يقول المصابون بـ”كوفيد طويل الأجل” محذرين من أي تراخ.
نقلاً عن : اندبندنت عربية